أسواق بغداد.. قطع الأعناق والأرزاق !
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رشيد الخيون
جعلت كوارث أسواق بغداد قتل الشخص والشخصين، والعائلة كاملةً، خبراً لا يستحق الرواية. هذه هي حال بغداد التي تخضع الآن لخطة أمنية، وصفت بالمُحكَمة! ولا ندري، لماذا التجريب حتى الوصول إلى المحكم، وابنة دجلة تنزف نزفاً لم تألفه أيام الطواعين؟ حين تبدل اسم أحد أسواقها إلى (الجايف) لكثرة الضحايا! عانت، من قبل تشريع هذه الخطة، من إبادات جماعية اختلطت فيها الدماء والأحشاء من مختلف الأجناس والأعمار، وبهذا يصعب تصنيفها بالإبادات الطائفية، بقدر ما هي إبادات إنسانية، ستزحف إلى الجارات من العواصم بالخبرة وشدة التدمير.
لم تكن طائفية اجتماعية، بمكان، إذا علمنا أن السُنَّي البغدادي يحتفظ لديه بمفاتيح جيرانه الشيعة المهجرين، من قِبل العصابات الطائفية المسيسة، وبالمقابل يحتفظ الشيعي البغدادي بمفاتيح جيرانه السُنَّة المهجرين، حتى يعودوا! بغداد في وادٍ والقتلة الطائفيون في وادٍ آخر. تجد لدى أهلوها تُراثاً من الثقة المتبادلة، وما تبادل مفاتيح المنازل، في مثل هذه المحنة، إلا مظهر من مظاهر المرونة في التعايش، وتحدٍ بليغ لجلافة الطائفيين. ثقة ومرونة سمحت للصائغ الشيعي علي عزيز الكربلائي الأصل (ت 1930) صناعة صندوق ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني (ت 561هـ)، بمحلة باب الأزج (الشيخ) العباسية، وهو والد الفنان الشهير صاحب المنلوج الناقد عزيز علي: "يا جماعة والنبي والله عدنا بستان". وبغداد هي بستانه. هذا ما رواه أحد أهم مؤرخي بغداد الشيخ جلال الحنفي (ت 2006) في كتابه "الصناعات والحِرف البغدادية".
أظن أن كوارث الأسواق البغدادية لا تميز بين البشر، بقدر ما تجارتها الرابحة الدماء! وهل هناك مَنْ يحدد هويات المشترين والباعة والمتجولين في سوق الشورجة؟ أو يتمكن من تمييز الأصوات في سوق الصفافير مثلاً؟ وهناك كناية سائرة بين البغداديين، لا يتحمل المقام ذكره.
أجد في تحديد مقاتل الأسواق بالهوية الطائفية تحجيماً لانتقادها ورفضها، وتفريق جمع الشمل ضدها. ذلك إذا علمنا أنه حتى التضامن مع العراقيين أخذ منحى الطائفية، وكأن للدم العراقي ألواناً ودرجات! وبطبيعة الاجتماع والاختلاط التاريخيين لم تعرف بغداد الغيتو الطائفي أو الديني، فكيف بأسواقها من عهد سوق الثلاثاء، من قبل تشييد أبي جعفر المنصور قصره المدور فيها (145هـ) وحتى يومنا هذا، وما مر عليها من أجناس البشر! إنها رغبة مستحيلة التحقيق، على الرغم مما يجند لها من حاويات الشر. لا نقول هذا من باب الاتكاء على التاريخ، أو استمراء ذكريات لا تفارق المخيلة لجمالها وصفو أيامها. بل أثبتت مأساة الحاضر أن بغداد مجتمعة ومتنوعة، ولا تستصغروا شأن تبادل أمانة المفاتيح، ولا تستهينوا بمثل الشيعي الذي ألبس الضريح الكيلاني صندوقاً، ولا بمعنى الاسم، وما يوحيه في النفس: بغداد!
تمتد أسواق بغداد شبكة متداخلة، قد تحجز بينها محلات وطرق، لكنها في النهاية ملتقية المشارب والدروب. وما شارع الرشيد، الذي قطعها إلى نصفين، إلا تعبير عن تخلف معماري، حسب عبارة ابن محلة صبابيغ الآل المعمار محمد مكية، وإلا كان يمكن معالجته بدوران واحتضان حولها، أو بنفق يحتفظ بما فوقه من عمارة. وبغداد تعرف الأنفاق منذ القِدم. ألم يذكر المؤرخون: كان الخليفة العباسي يمر من قصر التاج إلى جامع الخلفاء عبر نفق أو أزج! نسمع بين يوم وآخر أخباراً مرعبة عن تلك الشبكة: تفجير بسوق الشورجة، حريق في امتداداته: الصابون، السراي. ثم مذبحة سوق الصدرية، وهي المحلة القائمة منذ الزمن المغولي، حيث عدد الضحايا فاق المائة والثلاثين، وأخذ يتضاعف يومياً بهلاك الجرحى.
زار بغداد الرحالة ابن جبير، عام (580هـ) أيام الناصر لدين الله (ت 622هـ)، فوجدها "حفيلة الأسواق". يذكر منها معاصره ياقوت الحموي: سوق العطش، الذي شيد بأمر المهدي بن المنصور بالرصافة، ولأن الأماكن لا تحفل إلا بالاسم الأول لم يتمكن المهدي من فرض تسمية الري عليه في ما بعد. وسوق يحيى نسبة إلى ابن خالد البرمكي. وسوق الثلاثاء، وهو الذي تحول إلى سوق البزازين، على عهد الحموي، وواحد من شبكة أسواق الشورجة. جاء في قِدم هذه السوق: "قبل أن يُعمر المنصور بغداد (تقام) في كل شهر مرة يوم الثلاثاء"(معجم البلدان). ويبدو فرضت الأيام اسم الشورجة على سوق الثلاثاء بالتقادم، حيث تجارة الملح، أو نسبة لبئر ماء مالحة كانت هناك. وقد أتى الطبري على ذكر تجار الملح الشورجيين، وغلمانهم في حوادث ثورة الزنج (255 ـ 270هـ).
ما تقدم مجرد تأكيد على أن بغداد ليس لها غير أسواقها، ومهما استبدلت بسوبر ماركات حديثة الطراز، ظلت تلك الشبكة عامرة بالحركة. أمكنة تنبض بالحياة، تتداخل فيها المساجد والكنائس ودور عبادة اليهود، المطاعم والمقاهي، وتتفرع إلى أسواق البضاعة المتخصصة. سوق القصابين، الدجاج، الطير، حيث منارة الغزل وجامع الخلفاء، وتقابله من الجهة الثانية كنيسة مازال ناقوسها يَدقُ. ثم تنتهي تلك الشبكة بسوق السراي، حيث يباع الكتاب والقلم، وأخذ فرعه المتنبي المهمة حالياً.
قال لي الوراق مازن لطيف علي، وهو شاب له خدمة خمسة عشر عاماً في هذا المكان، أي كتاب يطرأ على بالك ستجده عندي. وبالفعل وجدت لديه بعد البحث الطويل عن كتاب يعيد الاعتبار للحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)، ألفه محمود الجُومَرْد (بغداد 1985). لفت نظري أحد الوجهاء الموصليين إليه، قال: إنه أُنجز برغبة من صدام حسين! ولا يفهم من تلك الرغبة سوى رد الاعتبار لسُنَّة دعا عليها الحسن البصري (ت 101هـ): "اللهم أنت قتلته، فقطع سنُّته"(النديم، الفهرست).
إن التبسط في تاريخ وحاضر أسواق بغداد، مكان وعلاقات، لا يكفيه كتاب فكيف بمقال! على أية حال، ما المرجو من القتل وشب الحريق في سوق الكتب غير قطع جذر المعرفة ووأد الثقافة؟ وما مغزى تفجير سوق الصابون غير دلالة فاضحة على قذارة الهدف؟ وما معنى القتل في سوق الهرج، التي لا يأتيها غير سائح، ومتجول مبهور بما يحويه من غرائب، وليس أغرب من اللقاء بين السارق والمسروق، ورد المسروقات كبضاعة. أو مغلوب على أمره جاء لبيع ما تدبر في بيته أيام الرخاء؟
تستحق بغداد المنكوبة بأسواقها، والمهددة بالإزالة، الموقف الصريح ضد جحافل القتلة، فمَنْ لم يرغب بتضامن أن لا يُعين عليها. لا تظن دمشق وطهران، وجارات الجنب والأباعد كافة، أن أسواقها ستُعمر بخراب أسواق دار السلام! حيث يجري قطع الأعناق والأرزاق معاً!