الإرهاب النفسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بثينة شعبان
لو أردت أن أقفو أثر أجدادي وجداتي، وأحافظ على عاداتهم بان أطالب بدفن الأحباء مع دموع محبيهم، محفوظة في قارورة محكمة، لما سدّت صناعة الأرض كلّها الحاجة إلى قوارير تحفظ دموع النساء في فلسطين والعراق ولبنان والصومال، لتدفن مع فلذات أكبادهن، الذين قضوا، وهم في عمر الورود، نتيجة حروب مجنونة، فرضت على شعوب هذه المنطقة المنكوبة بثمار الديمقراطية الغربية، والتي لم يكن لأي من أبنائها رأي فيما يجري من مجازر وتعذيب واستبداد وخراب، يندى له جبين البشرية.
ومع ذلك فقد احتفل العالم في 8 آذار ـ مارس، كالعادة كلّ عام، باليوم الدولي للمرأة، محصياً ما أنجزته المرأة هنا، وما زالت تفتقر إليه هناك، دون أي ذكر لمعاناة المرأة العربية الجسيمة، الواقعة في أسر سجون (واحة الديمقراطية) الغربية في فلسطين المحتلة منذ قرن، أو التي تلد على حواجز الاحتلال، أو التي تسجن مع وليدها في أعنف استباحة للكرامة الإنسانية، أو التي تداهم قوات الاحتلال منزلها، فتعتقل الزوج، وتغتصب النساء، وتقتل الأطفال، وكأن ما يجري في العراق وفلسطين من جرائم بحق النساء يقع خارج إطار العالم (المتحضّر). فلم يذكر أحد الأسيرة الفلسطينية سمر صبيح، ذات الاثني وعشرين ربيعاً، والتي وضعت ابنها براء في السجن، وما أن رأى النور، إلى أن عاد إلى ظلمة الزنزانة مع أمه، وها هو يمكث سجيناً منذ يومه الأول، ولم يكمل الآن عامه الأول، والتهمة التي وجهت لوالدته هي الانتماء إلى مقاومة الاحتلال الأجنبي، الذي يحرمها وشعبها الحرية والاستقلال، دون أن يحرّك ذاك ضمير السياسيين الغربيين، الذين اعتادوا إطلاق عبارات طنانة عن (الحرّية) و(الديمقراطية) و(حقوق الإنسان).. الخ.
وقصة سمر صبيح هي قصة واحدة من مئات الأسيرات العربيات اللواتي يقبعن ويلدن في سجون الاحتلال الأمريكي والإسرائيلي في العراق وفلسطين، دون ان يمتلك أحد في العالم الشجاعة الأخلاقية على إدانة ممارسات الاحتلال العنصرية والإجرامية بحق النساء والأطفال والرجال العرب.
مع الأسيرات العربيات، مئات الأطفال العرب الذين يرمي بهم الاحتلال في غياهب السجون، ولا يجرؤ أحد في العالم (المتحضّر) أو (الديمقراطي) على رفع صوته في عيد المرأة العالمي، ليدين الجرائم الوحشية التي تتعرض لها المرأة الأسيرة والسجينة والأم الثكلى والمهجرّة في فلسطين والعراق. ولنتخيل للحظة، لو أن هؤلاء النسوة في العراق و فلسطين حملن أي جنسية أخرى في العالم، وتعرضّن لما تتعرض له النساء في فلسطين والعراق، أما كان اليوم العالمي للمرأة سيقتصر فقط على نشر قصصهن ومعاناتهن، والجرائم التي ترتكب بحقهن دون أي وجه حق؟
ومع تجاهل معاناة النساء في فلسطين والعراق، ومع إبادة عوائل بكاملها في العراق والصومال وفلسطين ولبنان وأفغانستان، بالقصف الجوي المحكم للطائرات الحربية الأمريكية والإسرائيلية، ومع استمرار معاناة نساء لبنان من نتائج الحرب الإسرائيلية الهمجية على الأبرياء في بيروت الجنوبية والجنوب الصامد، بما في ذلك انفجار عنقوديات بوش التي أرسلها ليوزعها أولمرت على قرى الجنوب بالتساوي، لتزرع الموت بين النساء والأطفال، يعرض التلفزيون الإسرائيلي الفيلم الوثائقي "روح شاكيد"، الذي كشف عن مسؤولية وحدة شاكيد بقيادة الوزير بنيامين بن اليعازر، عن إعدام مئات الجنود المصريين الأسرى في حرب 1967، وهي حقيقة معروفة يتجاهلها العرب، الذين اعتادوا على مجازر الإسرائيليين ضدّهم، ولكن بشاعة ردّ بن اليعازر بأن من قتلوهم هم مجرّد مئتي وخمسين فلسطينياً، وليسوا مصريين، تدل على أن المجرمين يشعرون بغطرسة الحصانة الممنوحة لهم من قبل (الديمقراطيات الغربية)، علماً بأن الوقائع تدلّ على جرائم (دفن أسرى وهم أحياء) أو (دهسهم بالدبابات بعد مطاردتهم) او إجبارهم على (النوم فوق بعضهم في حفر ليموتوا خنقاً). وتظهر غطرسة المجرمين بأبشع صورها في الاتجار بالأعضاء البشرية، بعد تقطيع جثث الأسرى المعدمين، والتي جنى منها السماسرة الإسرائيليون أرباحاً طائلة، من بيع أعضاء أسراهم العرب في أوروبا وإسرائيل، كما كان طلبة كلياّت الطبّ في إسرائيل، يتدربون على العمليات الجراحية على جثث هؤلاء الأسرى. وقد اعترف أحد التجار، وهو إسرائيلي يعيش في باريس:
"لقد رأيت بعيني عشرات من الأسرى، شُقت بطونهم أمامي بأيدي طلبة الطبّ الصغار، واقشعر بدني لهذه الطريقة البشعة". ومع ذلك لم يثر، بل الأبشع هو لن تثير هذه الجريمة أيضاً، حفيظة الإعلام العالمي (الحرّ)، ولم، ولن يعتبره جريمة محققة وموثقة، بل وصف الفيلم الوثائقي بأنه "ادعاءات بقتل مصريين"، مع ان الفيلم موثق بالصور، واعترافات الضباط الإسرائيليين أنفسهم! فقد اعترف العقيد داني وولف بمسؤوليته عن قتل الأسرى المصريين، وقال: "إنه كان من الممكن إبقاؤهم مع قليل من الماء والطعام، والماء لا يكفي، وأنا لا أحاول البحث عن مبررات، ولكنها الحقيقة، فقد وقفنا على التلال، وبدأت المذبحة وبدأنا نحصدهم، وكان مشهداً سيئاً، فبعضهم تجمد في مكانه، وبعضهم سقط على الأرض".
والسؤال هو، كيف يبرر قادة العالم، بل وشعوب العالم، الصمت عن مثل هذه الجرائم، وما الذي يعطي القاتل الإسرائيلي للعرب هذه الحصانة الدولية، والتي تجعل من خبر قتل العربي مجرّد خبر لا يترتب عليه أي حساب، بينما خبر قتل أي إنسان آخر، حتى في حادث سير، هو جريمة يحاسب عليها القانون؟ ونرى كيف ينتفض المجتمع الدولي ضدّ الإرهاب، وتتسابق الشرعية الدولية لإدانة وضع النساء في أفغانستان أيام طالبان! هل أصاب إرهاب العمليات العسكرية والسرّية التي أطلقها بوش ضدّ العرب الضمائر الحيّة بالجبن والهوان، بحيث لم يعد يجرؤ أحد على اتخاذ موقف أخلاقي حيال الجرائم الخطيرة التي ترتكب باسم الديمقراطية في العالم اليوم؟ وهل نجح بوش بعد أحداث الحادي عشر من أيلول ـ سبتمبر، وبعد القوانين التي سنّها باسم محاربة الإرهاب، وبعد حروبه الدموية، وبعد ممارسة التعذيب رسمياً في أبو غريب والسجون السرّية للمخابرات الأمريكية، ان يكمّ أفواه العالم عن كلّ ما تقترفه إسرائيل من مذابح شنيعة ضدّ أسرى عرب، مصريين كانوا او فلسطينيين، دون ان تخشى انتقاداً أو محاسبة، لا من قِبَل المصريين أو الفلسطينيين، ولا بالتأكيد من قِبَل الأوروبيين أو الآسيويين.. الخ، لأن سيف الجلاد الأمريكي مسلط على الشعوب بالعقوبات والحصار والحروب.
لِم لا، والولايات المتحدة ترفض حتى الانضمام إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي، لأنه يقوم أحياناً فقط بانتقاد البعض فقط من ممارسات إسرائيل الأكثر وحشية، وبذلك يفهم الجميع أن انتقاد إسرائيل غير مقبول أمريكياً، مهما ارتكبت من جرائم، ومهما نكلت بالفلسطينيين والعرب، ومهما احتلّت من أرض، ومهما خرقت من قوانين!، وواقع الحال هو ان أوروبا تسير في ظلّ الولايات المتحدة، ورغم بعض الأصوات هنا وهناك، والتي تطمح ربما إلى خلق أقطاب أخرى في العالم، ما زالت الولايات المتحدة هي القطب العسكري والاقتصادي الأقوى. ولا يمكن أن تمرّ مسألة الأسرى دون ان نشير إلى الفرق بين تعامل الإسلام مع الأسرى، وبين ما تعرّض له الأسرى العرب من مذابح. بل وللمقارنة والمفارقة نذكّر أن الرسول محمد (ص)، جعل تعليم عشرة أشخاص فدية لكلّ أسير، فأين هؤلاء من حضارة الإسلام وأخلاقه وتسامحه؟
إن تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن انتهاكات حقوق الإنسان في العراق و أفغانستان، يلقي باللائمة على (حكومتي البلدين)، وكأن الاحتلال الأمريكي للبلدين ليس مسئولا عن كلّ المآسي والفوضى والقتل والدمار الذي عمّ البلدين بعد الاحتلال، وبعد خططه المتعمدّة لدبّ الفتن الطائفية، وقتل العلماء، ونهب الآثار والمتاحف، وحرق المكتبات، في خطة تهددّ بإبقاء هذه البلدين رهينتي الفوضى والعنف لسنوات طوال. ومرة ثالثة، لم يتناول الإعلام هذين التقريرين، ولم يشر أحد إلى مسؤولية الاحتلال الأمريكي عن كلّ ما يجري في العراق وأفغانستان من قتل ومجازر وتهجير، وهنا أيضاً يلعب الإرهاب النفسي، الذي أصبح يحتل العالم بالخوف والابتزاز، بعد أن شنّ بوش حروبه، وأطلق مخابراته لتخطف وتعذّب وتقتل دون حسيب، دوراً في كمّ الأفواه وابتزاز القادة، وبث الرعب بين الشعوب بكلّ الوسائل، بما فيها سجن الإعلاميين وقتلهم، وتوجيه التهم للسياسيين، او شرائهم كي لا يحيدوا عن سياسات بوش وحلفائه الإسرائيليين.
وفي ضوء استفحال الاعتماد على القوة العسكرية، وتسخير كلّ الأجهزة المخابراتية، وتسخير المنابر الدولية، واستخدام حق الفيتو كي لا يحيد أحد عن هذا المسار، يصعب التكهن إلى أين ستسير الأمور في عالمنا، وخاصة في منطقتنا، ولكن الشيء الأكيد، هو أن الشجاعة الأخلاقية، وتحدّي الظلم، وقول كلمة الحق، هي السبيل الوحيد لبدء الخلاص من بشاعة الظلام الذي أسدله بوش وحلفاؤه الإسرائيليون على بداية القرن الواحد والعشرين. إن الإرهاب النفسي الذي تمارسه إدارة القوة الوحيدة في العالم على قادة وشعوب وبلدان وحكومات ومنظمات دولية، يفترض أنها حرّة ومستقلة، يفوق في نتائجه المأساوية ذاك الإرهاب الجسدي الذي تدعي حكومة بوش محاربته، ولكنها تمارسه هو أيضاً.