عن جاك شيراك كآخر صديق كبير للعرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طلال سلمان
حسم الرئيس الفرنسي جاك شيراك الأمر، مساء أمس، حين أعلن أنه لن يرشح نفسه في الانتخابات الرئاسية، برغم أن التعديل الدستوري الذي اقترحه وتمت المصادقة عليه يسمح له بولاية جديدة: تكفي 12 سنة "ثقيلة" في قصر الإليزيه!
... وبرغم كل ما يمكن أن يوجه إلى جاك شيراك من انتقادات على بعض المواقف التي تبدت ـ في لحظات معينة ـ وكأنها "شخصية"، فإن الحقيقة أن "العرب" سيخسرون آخر رئيس صديق لهم في الغرب بضفتيه الأوروبية والأميركية.
ومن الأمانة أن نشهد لفرنسا جاك شيراك أنها كانت تمثل الموقف الصديق للقضايا العربية عموماً، وفلسطين أساساً، كما أن موقفها من حرب الاحتلال الأميركي للعراق كان "مفرداً" في شجاعته وكلفها أن تتحمّل "عقوبة" أميركية معلنة "طار" معها وزير الخارجية آنذاك دومينيك دو فيلبان من منصبه ومن حظوظه كمرشح جدي للرئاسة... ولا يخفف من قسوة تلك العقوبة جائزة الترضية التي نالها بأن كُلف رئاسة الحكومة!
من الأمانة أيضاً أن نستعيد واقعة كان يرويها الرئيس الشهيد رفيق الحريري لأصدقائه، حول زيارة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لفلسطين المحتلة.
في 21 تشرين الأول ,1996 وبعد إلحاح شديد، وافقت السلطات الإسرائيلية على مطلب الرئيس شيراك القيام بجولة في "القدس العربية"... ولقد تعرّض الرئيس الفرنسي خلال هذه الجولة التي شملت المسجد الأقصى، ودرب الآلام، والجلجلة، إلى مضايقات شديدة، وصلت أحياناً إلى حد تهديد رجال الشرطة الإسرائيلية له، والضغط عليه بحيث كادت تمتنع عليه الحركة، مما دفع به إلى الصراخ بهم و"الاشتباك" معهم، بالأيدي صارخاً بهم عند باب كنيسة القديسة آن الواقعة ضمن أرض خاضعة للسيادة الفرنسية: "اغربوا عن وجهي... لا مكان لكم هنا".
وليس مهماً أن نتنياهو، وكان رئيس الحكومة الإسرائيلية، قد اعتذر في ما بعد، لكن الأخطر هو ما وقع للرئيس الفرنسي حين ذهب إلى حفل استقبال أقيم على شرفه ليلاً... فقد وجد نفسه يصافح عدداً من الدبلوماسيين العرب المعتمدين لدى إسرائيل: السفير المصري، السفير الأردني، ممثل الحكومة المغربية، ممثل الحكومة التونسية، ممثل قطر إلخ..
وكان الرئيس الحريري يختم رواية هذه الواقعة التي سمعها من شيراك بتعليق الرئيس الفرنسي ذاته إذ قال: "وجدت نفسي أكثر التزاماً بقضية العرب الأولى، كما يقولون، من العديد من المسؤولين العرب...".
إذن، سيخرج جاك شيراك من الإليزيه بعد شهرين، تقريباً، ولسوف تكون أوروبا بعده، أقل تعاطفاً مع القضايا العربية وفلسطين على رأسها، وأقل تفهماً، بل وأقل صداقة للعرب، وخاصة أن فرقتهم التي تصل في بعض الحالات إلى حد مقاطعة بعضهم البعض، تغري الدول الكبرى بالتعامل الثنائي (المجزي اقتصادياً) مع كل دولة على حدة، وإهمال القضايا التي تعنيهم جميعاً وتتصل بحاضرهم المشترك ومستقبلهم المشترك بالضرورة.
ولقد أعد شيراك نفسه جيداً لهذه اللحظة، فاستعاد شيئاً من تقاليد زعيمه الذي غدا منسياً، الجنرال شارل ديغول، إذ واجه عدسات التصوير بلا ورقة، وتلا خطابه المكتوب ارتجالاً، بعدما اجتهد لحفظه عن ظهر قلب، ثم أنه حرص ـ كمعلمه بل وكمعظم الرؤساء الفرنسيين ـ على الخروج كبيراً عبر النص الممتاز لرسالة الوداع التي وجهها، أمس، إلى "فرنسا الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان".
وعلى عادة الرؤساء الذين يرون فرنسا عظيمة، ورائدة حتى لو لم تكن قائدة، وحاملة تراث الثورة الفرنسية في "الحرية والإخاء والمساواة"، فقد ركّز شيراك على ضرورة الحرص على الحوار بين الشعوب لا سيما الفقيرة، وقضية السلام العالمي والتقدم الإنساني، محذراً مواطنيه من مخاطر التطرف الديني والعنصري والتعدي على البيئة... ثم نبّه إلى أهمية حماية الاتحاد الأوروبي من "الشوفينيات" القطرية!
من الأمانة القول إن شيراك قد بالغ في حبه لبنان، ربما أكثر مما يطيق هذا البلد الصغير، وخصوصاً أن التعبير الأعلى صوتاً لهذا الحب قد تفجّر عاطفة جامحة بعد جريمة اغتيال صديقه الأثير الرئيس الشهيد رفيق الحريري... حتى لقد كاد شيراك أن يصير طرفاً محلياً في الخلافات التي شجرت في السنة الأخيرة بين القوى السياسية التي كانت مؤتلفة ثم سقط ائتلافها بالضربة الإسرائيلية ـ الأميركية القاضية في تموز الماضي.
من الأمانة، أيضاً، استذكار أن جاك شيراك كان صاحب أعظم ثروة من الصداقات العربية في المشرق والمغرب على حد سواء، ولعل "موقفه الفلسطيني" قد فتح له العديد من الأبواب التي لم تفتح لغيره، عربياً... ولعله كان أكثر الرؤساء الغربيين معرفة بعموم الأقطار العربية التي زارها مراراً وتكراراً، وكان يستقبل فيها "كصديق كبير".
ولقد بلغ ذروة الشجاعة بموقفه من الاحتلال الأميركي للعراق: "نحن أصدقاء واشنطن ولسنا خدماً عندها"... وهو قد حذر الإدارة الأميركية من تسخير الأمم المتحدة لمصالحها في الحرب على العراق... كذلك كان شديداً على أرييل شارون في مطالبته برفع حصاره عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وهو الحصار الذي أودى بهذا القائد ولم تنفع العناية الفائقة التي حظي بها في أهم مستشفى عسكري فرنسي في إنقاذ حياته...
كذلك فقد تميّزت فرنسا جاك شيراك بموقفها الإيجابي من "حزب الله"، وقد ظل شخصياً حريصاً على العلاقة مع حزب المقاومة هذا: "إن موقفنا من "حزب الله" لم يتغيّر. هذه الحركة تمثل قسماً كبيراً من اللبنانيين، ويجب أن تشارك في الحياة السياسية في البلاد"... وعلى هذا فهو لم يوافق في أي يوم على اعتبار هذا الحزب منظمة إرهابية، بل سمح بتقديم تسهيلات مهمة له، لا سيما في المجال الإعلامي، داخل فرنسا.
٭ ٭ ٭
سيخرج جاك شيراك، إذن، من الإليزيه بعد شهرين، ولكنه كما قال أمس لن يخرج من الحياة العامة وسيواصل "النضال من أجل ما آمن به".
وسيفتقد العرب الذين لم يكونوا أبداً واحداً، أو سياسة واحدة، والذين غدوا الآن مهددين بأن يتحولوا إلى جبهات متواجهة، صديقاً أوروبياً مؤثراً... لعله الأخير بين أصدقائهم الكبار.
وبالتأكيد فإن أياً من المرشحين لخلافة جاك شيراك لن يكون "لبنانياً" بقدر ما كان، ولن تكون له الاهتمامات الاستقلالية والمتمايزة عن السياسة الأميركية، والتي كانت تنعكس إيجاباً على القضايا العربية، بقدر ما كان لهذا "البلدوزر" الذي جاء من "الكوريز" وهي المقاطعة النائية في وسط فرنسا، والتي تكاد تكون معزولة عن العالم وأهلها من الفلاحين الأصليين.
والخسارة مضاعفة: لأن العرب أضاعوا بخلافاتهم من كان لهم من الأصدقاء، ثم أنهم بانقساماتهم العديدة لم يعودوا واحداً ولم يعد أحد من قادة العالم والمؤثرين في سياساته يهتم بأن يتعامل معهم كوحدة، وأصحاب قضية، بل غالباً ما بات ينحاز إلى بعضهم ليباعد بينهم وبين الآخرين.
ومن خسر نفسه لا يحق له أن يلوم الآخرين.