أسامة بن لادن الّذي أعرف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إنّها قصّة ترتفع لمستوى الرّواية، وتتطلّع إلى سقف الدّراية. قصّة تبدو للكثيرين لا تخلو من التّفاهة، في حين تبدو لغيرهم لا تبعد عن الثّقافة، في حين يراها قوم آخرون جديرة بنشرها في الصّحافة.
وحتّى لا يخدع العنوان أحدًا، فليس لكتاب السُّطور أي علاقة "بالمذكور" أعلاه، ولو كانت لي علاقة فلن أذكرها، لأنّ التّكسّب من خلال نشر "توبة" المجرمين، أو دعوة الإرهابيين هو سلاح المفلسين.
كما أنّ الحديث عن الماضي "نقصان في العقل"، كما يقول بذلك أعاريب الصّحراء، وأكثر من ذلك، يقول صديقنا المُثقّف المغمور د.طه الشّخص: (.. ليس لدينا لا الرغبة ولا القدرة على تأمّل ما فات، فقط "المنهزمون والمتعصبون" لخيباتهم يتقنون فعل ذلك بمتعة وامتياز..)!!
من هنا أبدو غير متعصّب لخيبة سابقة، أو لجريمة ماحقة، الأمر الّذي لابد لي معه أن أكشف سرّ هذا العنوان "المثير".
حسنًا، العنوان مقصوص من كتاب صدر حديثًا تحت مُسمّى "أسامة بن لادن الّذي أعرف" " The Osama Bin Laden I Know" لمؤلّفه الصّحفي الشّهير بيتر برقن، وقد حمل العنوان الرئيس عنوانًا فرعيًّا يقول بأنّ الكتاب عبارة عن "التّاريخ الشّفوي لقائد منظّمة القاعدة".
والكتاب صدر في عام 2006م بطبعة أنيقة تقع في 442 صفحة.
وقبل الحديث عن الكتاب، و"طريقة إخراجه من بريطانيا" - غريبة هذه الجملة - يجدر بالمقال أن يجيب على سؤال: كيف وصل الكتاب إلى يدي قارئه "العبد الفقير".
أجزم أنّني صديق لدود للمكتبات العامّة في بريطانيا، على العكس من ذلك مع نظيرتها في السّعوديّة، الّتي لا أذكر أنّني دخلتها سوى مرّات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. لماذا؟
من الأفضل أن أجيب على سؤال لماذا أنا صديق للمكتبات "هناك"، وسيعرف القارئ لماذا لست كذلك "هنا"!
المكتبات العامّة في بريطانيا تتيح لروّادها الاستعارة مجّانًا، وتعمل لساعات طويلة، ناهيك عن أن موظفيها يطلعّون لخدمة أي زائر بغضّ النّظر عن مذهبه ولونه وجنسيته.
كما أنّ المكتبات هناك تعرف أنّ النّاس تتثاقل من الذّهاب للمكتبات لذلك وضعت في كلّ مكتبة عشرات الأجهزة الموصلة "بالنّت"، وجعلت الاستخدام أيضًا مجّانًا، لتشجّع القرّاء على الدّخول لساحة المكتبة. هل أزيد؟ وأقول إنّ كلّ مكتبة تضمّ ركنًا للطّفل فيه كلّ ما تهفو إليه نفوس الأطفال من لهو ولعب وكتب. كما أنّ بطاقة العضويّة بإمكانك استخراجها في غضون دقائق، وبالتّأكيد لن يطلب منك أحد "ملفًّا علاقيًّا أخضر" ولا صورة لأي بطاقة من أحوال، أو كشف لرصيد الأموال، أكثر من ذلك لو احتجت أي عنوان من العناوين، فما عليك سوى إخبار المكتبة الّتي بجوار منزلك وسوف يصلك الكتاب في غضون أيّام. ومن الصُّدف أنّني استوطنت - مؤخّرًا - حيًّا يقطنه كثير من الفرس والصوماليين والهنود، فوجدت أنّ مكتبة هذا الحي تحتوي على كتب بلغات هؤلاء القوم، لتمثل بذلك "شركًا" لصيد القارئين منهم.
ليت المكتبات العامّة عندنا في السّعوديّة - والّتي تقارب المائة مكتبة - ليتها تستفيد من تجربة بريطانيا في صيد وجذب وشدّ القرّاء غليها، فبريطانيا لم تزعم أنّها تحمل قرآنًا عربيًّا بدأ بـ(اقرأ)، ولم تدّعي أنّ دينها يحثّ على القراءة، ومع هذا تبذل كلّ الجهد لإشاعة روح القراءة وبثّ الحماس لدى القارئين والقارئات، في حين أن أمّة "اقرأ" - كما تصف نفسها - يكشف آخر تقارير التّنمية أنّ المواطن العربي لا يقرأ في السّنة كلّها أكثر من عشر دقائق!
حسنًا، ماذا بقي؟
بقي كيف أنّي وصلت إلى كتاب "أسامة بن لادن الّذي أعرف"؟ وكيف أخرجته من بريطانيا؟
كلّ ذلك قصّة تفاصيلها كما يلي:
عادة عندما اختلف إلى أيّ مكتبة عامّة في بريطانيا، أتّجه مباشرة إلى قسم "الكتاب المسموع"، أو ما يُسمّى هنا بـ(Audio Book)، وهي تجربة كان العرب أحقّ بها من أهل بريطانيا، على اعتبار أنّ العرب أمّة "شفويّة أو شفاهيّة أو شفهيّة"، على خلاف بين أهل الصّرف والنّحو. فالثّقافة لدى العرب سماعيّة، والشّعر - ديوان العرب - وصل عبر الرّواية والثّرثرة، كما أن
حرب الأشرطة في العالم العربي أسقطت أنظمة، وحفظت أخرى، الأمر الّذي يثبت أن للأشرطة مكانتها وقدرتها، وأنّ السّماع أصل من أصول التّكوين الثّقافي العربي، لذا العرب أولى انطلاقًا من نظرية "جحا أولى بلحم ثوره"، ولكن قد نسي جحا لحم ثوره، وبات يأكله غيره، كما أكل الثّور الأبيض من قبل!
وحين العودة إلي روح المقال، يتذكّر القلم أنّني اتّجهت إلى قسم "الكتاب المسموع"، فهذا القسم يعمد إلى أهمّ الكتب العالميّة الصّادرة بالإنجليزيّة ويقوم بضخّها في أشرطة كاسيت أو سي دي حرفًا بحرف، ومقطعًا بمقطع، والهدف من ذلك نشر الكتاب بين أكبر عدد من النّاس، لأنّ هناك ملايين البشر من يريدون القراءة ولا يملكون البصر أو الوقت أو السّرعة في القراءة، أو الصّبر والجلد على الكتاب، لتكون هذه الأشرطة رافدًا مساندًا ومُسهّلاً لهم، خاصّة عندما يعرف المرء أنّه ينفق في المواصلات قرابة السّاعتين يوميًّان الأمر الّذي يجعله يقرأ كلّ يوم قرابة الـ(200) صفحة.
لذلك يصدر كلّ عام في بريطانيا أكثر من 600 عنوان يشمل الرّواية، والسّياسة، والكتب العاطفيّة، وكلّ ما يطفو على السّطح العالمي من كتب وعناوين.
ومثل هذه التّجربة لا نجدها في الوطن العربي إلا في معهد المكفوفين الّذي يسجّل بعض كتب التّراث وبرسوم ونفقات هائلة، وأيضًا في مجمّع "أبوظبي الثّقافي"، الّذي أصدر عشرات الكتب المسموعة. ومن محاسن الأشرطة أنّها تُقوّم "النُّطق"، وتُعدّل اللّسان، وتُصفّي الحروف، ولا يختلف الأمر سواء كانت هذه الأشرطة عربيّة أو غير عربيّة.
ومن قال إن العربي - رغم ثرثرت - يحسن "الحديث بالعربيّة"، ولك أن تتابع برنامج "سؤال اليوم" في قناة الإخباريّة يوميًّا لتعرف كيف يُعاني المجيبون على الأسئلة من خلال معاظلة المفردات واستحلاب الجُمل، وشدّ الكلمات، ومطّ الحروف، وكأنّهم ينحتون "لغتهم الأم" من صخر جلمود!
وعليه فإنّ مثل هذه الأشرطة تبدو نافعة سواء لمن يريدون تنمية مهاراتهم الخطابيّة، وقدراتهم الكلاميّة، ونزعاتهم النّقاشيّة في العربيّة، أو أولئك الّذين يتطلّعون إلى تطوير لغتهم الثّانية "المُكتسبة".
حسنًا، لنعد إلى موضوعنا..
دخلت المكتبة متّجهًا لذلك القسم، ضحكت أمينته لي - كعادتها - قائلة لي: "أهمد.. لقد وصل كتاب أظنّه يهمّك"! وأخذتني إلى حيث يقبع كتاب اسمه ""أسامة بن لادن الّذي أعرف"، قائلة: لا تخف، معه أشرطة سي دي، ومدّة التّسجيل قرابة 17 ساعة، إنّه كتاب يتحدّث عن بلدك بتفصيل"!
بلهفة خضراء أخذت الكتاب على سبيل الاستعارة "المجّانيّة" وليست "المكنيّة أو المجازيّة"، دخلت المنزل، وأغلقت الأبواب مثلما فعلت "امرأة العزيز"، وقلت للكتاب "هيت لك"، ولم أفتح الباب إلا على إطلالة الصّفحة الأخيرة، وبعد أسبوع عاودت "خطيئة القراءة" تارة أخرى، وعزّزتها بثالثة، والّتي كانت لي فيها "مآرب أخرى"!
بعد القراءات الثّلاث، أزعم أنّني قرأت عن الدّاشر أسامة بن لادن عشرات الكتب، ومع الأسف لم أفهم "ظاهرة بن لادن" إلا من فم هذا الأعجمي، صاحب اللّسان المبين الّذي لا أعرفه. عندها فقط ردّدت قائلاً:
وما ضرّني إلا الّذين عرفتهم
جزى الله بالخيرات من لست أعرف
بقي وصف الكتاب.. وكيف خرج من بريطانيا في حقيبتي..
حسنًا.. كان لزامًا عليّ وأنا مُتّجه إلى الوطن - حفظه الله من كيد الإرهاب فعلاً وقولاً وقصدًا - أن أضع بين يديّ كتاب "أسامة بن لادن الّذي أعرف" لأقرأ فيه خلال الرّحلة الّتي ستكون على الخطوط الإماراتيّة إلى جُدّة عبر مطار دبي. ويرجع السّبب في اختياري لهذه الخطوط لأنّها تنطلق من مدينتي، مدينة "برمنجهام". الأمر الّذي يوفّر عليّ وعثاء السّفر إلى لندن، رغم أنّ الوعثاء هنا ألطف وأخفّ بكثير من وعثاء السّفر في العالم العربي حيث عجاج الوقت
وغبار الصّمت وحوادث الموت تمرّ عبر الطّرقات والممرّات.
وضعت الحقيبة عبر خطّ التّفتيش، وظهرت للمراقبة صورة "الهالك" بن لادن على غلاف الكتاب، وغلاف الأشرطة المصاحبة له، هرع المراقب واستدعى من هو أعلم منه، نظروا إلى الكتاب والأشرطة، وقلّبوا الجواز، وطلبوا السّيرة الذّاتيّة، فإذا الجريمة مكتملة، الميلاد / بريدة / الجامعة الإسلاميّة بالمدينة المنوّرة / جامعة أمّ القرى بمكّة المكرّمة حيث سنوات الدّراسة والتّخرّج، ازداد الشّك، فاستدعوا ثلاثة محقّقين من ذوي "الرّتب الكبيرة"، مكثت معهم زهاء السّاعتين، أمطروني بمئات الأسئلة الّتي لم تكن تزرع الخوف في جنبات القلب، وهم يسألون وأنا بكامل الرّاحة أجيبهم، "فهذا واجبهم"، ومن قال إن الطيّبين يحملون وسمًا على وجوههم يميّزهم عن غيرهم من أهل الإرهاب والإرعاب!؟
بعد زمن طويل من الاستجواب، قلت لهم اطمئنوا فلست أنا من تبحثون عنه، وإن كانت الشّبهات مكتملة في سيرتي، عندها أخلوا سبيلي، وتمنّوا لي رحلة سعيدة، طالبين منّي ضرورة التّواصل معهم بعد العودة إلى بريطانيا.
حملت أمتعتي وبقيّة أشيائي ووصلت سالمًا إلى وطني الحبيب، وأخذت أقرأ في هذا الكتاب، قرأته مرّتين وثلاثة وأربعًا، كان سيرة لم أقرأ مثلها أبدًا، كتبها صحفي ومذيع اسمه بيتر بيرقن مراسل الـ(CNN) ومحلّلها في مجال الإرهاب، كما إنّه صحفي التقى بن لادن مرّتين، وأنفق من وقته الثّمين ثمانية سنوات يجمع التّاريخ الشّفوي لقائد القاعدة.
إنّ الكتاب إضافة نادرة في عالم القاعدة، بدءً من والد أسامة - رحمه الله - حتّى هروب هذا "الضّال"، وقد اعتمد المؤلّف على التّاريخ الشّفوي والتّحريري لسيرة أسامة مسجّلاً شهادات الرّجال ونتائج الأفعال، وحكايات الأحوال والصّراع في ساحات القتال.
ومن الجريمة الكبرى أن يختصر الكتاب ويحشر بهكذا سطور، لأنّه كتاب كلّه لحوم - طبعًا غير مسمومة - ويخلو البتّة من الشّحوم، لذا تبدو مسألة تلخيصه نوعًا من العبث الواضح. وإن استحال أمر تلخيص الكتاب وكبسلته في كلمات معدودات فلن تقف القدرة عاجزة عن الإشارة إليه من باب التّنويه، مرتئيًا - في الوقت نفسه - ضرورة أن ينقل ويترجم إلى اللغة العربية،
الأمر الذي يقودني إلى أن أطالب أحد الصّديقين الأستاذ جمال خاشقجي أو الدّكتور خالد باطرفي بترجمته بوصفهما مشاركين في الكتاب رأيًا وملاحظة وجمعًا وتوضيحًا.
كما أوصي الإخوة السّودانيين بالابتعاد عن الكتاب لأنّ "الضّال" بن لادن أتّهمهم فيه بالكسل والبحث عن الرّاتب دون عمل منجز أو إبداع محفّز!
إنّ الكتاب - إذا تجاوزنا تسلسله البديع وسرده المشوّق والتقاطه المثمر - يظلّ إصدارًا يتناول كلّ التّفاصيل الّتي تتعلّق بتنظيم القاعدة "اسمًا ووسما"، بداية وانطلاقا، فكرًا وسلوكا، غاية وهدفا، مدًّا وجزرا، اجتهادًا وامتدادا، طموحًا وجروحا، أضرارًا وفسادا، فسوقًا وإجراما.. إلخ
وقد رجع المؤلّف إلى مئات المراجع، وحتّى لا يحطّم "محطّمو النّجاح" مجهود الرّجل بقولهم: "إنّ كلّ شيء متاح على الشّبكة"، أقول: إنّ المؤلّف رجع إلى مئات الأعداد من مجلّة "المجاهد"، والّتي سُمّيت "الجهاد" لاحقًا، والّتي يصدرها عبدالله عبدالله عزّام مؤسّس القاعدة اسمًا ووسما، وباني مجدها "المعاصر"، ومن العلم بالضّرورة أنّ هذه المجلّة لم تكن على الشّبكة.
هذا الكاتب كشف لنا ظاهرة بن لادن بكلّ هذا "التّألّق" وهو لا يجيد العربيّة، فليت شعري ما سعاه كان سيفعل لو أنّه أجاد الفصحى قراءة وكتابة؟! الصّورة أمامك يا هؤلاء، فاعتبروا يا أولى الأبصار من الصّحفيّين والكُتّاب، وتذكّروا أنّ بيتر بيرقن جاء يعلّمكم أمر إجرامكم يا أولى الإرهاب من العرب والأعراب!!
أحمد عبدالرحمن العرفج
Arfaj555@yahoo.com