تركيا ’’العثمانية الجديدة’’ في الشرق الأوسط معادل لإيران في لعبة التوازنات الإقليمية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
اسطنبول ـ ميشال نوفل
كيف يمكن مقاربة السياسة الخارجية التركية، خصوصاً تجاه منطقة الشرق الأوسط، في عهد حزب إسلامي إصلاحي النزعة (أو إسلامي سابقاً) اختار أن يكون أوروبياً وأن يكون له في آن نفوذ في الشرق العربي والاسلامي؟ ما مدى صحة المقولة ان ثمة سياستين خارجيتين لتركيا، "كلاسيكية" تلتزم "تأمين" كل جوانب السياسة الخارجية، وتتمحور حول الدولة وتعمل على أساس ان السياسة الخارجية لعبة "لا غالب ولا مغلوب"، و"جديدة" تتميز بأنها أكثر انفتاحاً وحديثة وفاعلة وتتطلع الى تحقيق مكاسب متزايدة باستمرار؟ لأي مقاربة ستكون الغلبة اذا افترضنا ان المجتمع المدني "القومي" في تركيا الذي يعمل لتنظيم صفوفه وتوسيع رقعة نفوذه يوماً بعد يوم، يميل الى المقاربة الكلاسيكية ذات الطابع الأمني والمتمحورة حول الدولة؟ هل السياسة الخارجية الحديثة والجديدة تعود فقط الى حزب العدالة والتنمية الحاكم، أم أن هناك أطرافاً أخرى تلتزم الخط عينه؟ هل صحيح ان تركيا تسيء تقدير قوتها في السياسة الخارجية في وقت تتوقع دول الجوار من أنقرة أن تمارس سياسة أقوى؟.
كل هذه الأسئلة وأخرى غيرها تدور حول السياسة التركية في الشرق الأوسط، أو تتعلق بصيغ التعاون واحتمالاته بين تركيا والاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط، كانت موضع مناقشات وأخذ ورد في اطار "طاولة برغيدورف المستديرة الـ136" المغلقة (مؤسسة كوربير الألمانية) والتي عقدت أواخر شباط (فبراير) الماضي في اسطنبول تحت عنوان "تركيا كشريك للسياسة الخارجية الأوروبية في الشرق الأوسط" وشارك فيها ديبلوماسيون وسياسيون وباحثون ورجال أعمال وصحافيون من تركيا والشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي.
وعرض الدكتور أحمد داود أوغلو، وهو المستشار الرئيسي لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الشؤون الخارجية، لرؤية عامة في السياسة الخارجية تسعى الى تطوير علاقة تفاعل وشراكة نشطة مع كل من الاتحاد الأوروبي ومنطقة الشرق الأوسط، وتستند الى روابط متوازنة مع كل الدول المحيطة بتركيا في اطار ممارسة "سياسة القوة الناعمة" واحياء وسطية السياسة العثمانية.
غير ان عرض داود أوغلو الذي بدا تبسيطياً بالنظر الى تعدد النظم الاقليمية التي تحكم المجال الجيوسياسي التركي، تجاهل التعامل مع السؤال "هل من استراتيجية كبرى لتركيا"، كما ان مشاركين أتراكاً آخرين مثل يشار ياكيش رئيس لجنة الاتحاد الأوروبي في البرلمان، ومحمد دولغير رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان، والتاي جنكيزير المدير العام لدائرة التخطيط في وزارة الخارجية، وجنيد زابسو المعاون الخاص والمنسق الاعلامي لأردوغان، لم يكن لديهم أي تصور أو فكرة عن وجود مشروع استراتيجي أو خط استراتيجي محدد للسياسة التركية في الشرق الأوسط، على رغم اصرار بعض المشرقيين العرب على توافر بنية قابلة سياسياً لاستقبال الدور الاقليمي التركي في الشرق الأوسط، فضلاً عن الشعبية الكبيرة التي يتمتع بها أردوغان في العالم العربي منذ رفضت تركيا مساعدة الأميركيين في غزو العراق ثم راحت تصعّد انتقاداتها للسياسات الاسرائيلية.
ويستخلص من المناقشات التي تناولت المحور الثاني المتعلق بالسياسة التركية في الشرق الأوسط، ان تركيا تعمل لبناء علاقات جيدة بكل اللاعبين في الشرق الأوسط، علماً أنها الدولة الوحيدة التي تقيم مثل هذه العلاقات مع لاعبين متصارعين مثل اسرائيل وإيران والسلطة الفلسطينية، فضلاً عن انها كانت حاضرة في الاتصالات السورية ـ الاسرائيلية غير الرسمية حول الجولان المحتل. لكن نظراً الى ان بناء علاقات بكل اللاعبين ليس كافياً للتمتع بالنفوذ والتأثير، فإن الجمع بين علاقات مميزة بلاعبين متصارعين في الشرق الأوسط لم ينتج تحسناً ملحوظاً للوضع الأمني في المنطقة خلال السنوات الماضية. كما يلاحظ ان تركيا لا تضطلع بدور حاسم في مواجهة التحديات الرئيسية في الشرق الأوسط، وعلى سبيل المثال فإن دور الوسيط في الأزمة اللبنانية يعود الى السعودية وايران وليس الى تركيا، وربما ذلك مرده الى كون أنقرة تمارس أكثر من اللزوم "سياسة القوة الناعمة" في المنطقة.
التعاون التركي ـ الأوروبي
أما في المحور الثالث الذي ادرج تحت عنوان "التعاون الأوروبي التركي في الشرق الأوسط" وشدد فيه مدير الطاولة المستديرة الدكتور فولكر برتيس على ضرورة الحرص على تقديم اقتراحات عملية، فقد تناول بالتفصيل نماذج التعاون انطلاقاً من دور تركيا شريكاً محتملاً للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط: تركيا كجسر، وتركيا كمحور شبكة واسعة للعلاقات، أو تركيا كنموذج للدول المشرقية باعتبارها دولة علمانية حديثة يلتزم مجتمعها القِيَم الاسلامية. وتبقى مجالات التعاون محددة بالنزاع الفلسطيني الاسرائيلي والأزمة العراقية والملف النووي الايراني والخلاف بين الشيعة والسنّة والحوار مع الاسلاميين.
وهنا يتبين أنه اذا كانت الخطوط العريضة للسياسة الخارجية التركية (القوة الناعمة والحوار والسعي الى الحلول عبر التفاوض ونشر القوات العسكرية فقط لدعم حلول سياسية) تشابه المقاربة الأوروبية، وكانت لتركيا والاتحاد الأوروبي المصالح نفسها لناحية الاستقرار والسلام والحفاظ على العراق موحداً وتسوية النزاع العربي ـ الاسرائيلي والبرنامج النووي الايراني واحترام حقوق الانسان وسلطة القانون، فإن تركيا تشعر اكثر بوطأة المشاكل والنزاعات في المنطقة، كما ان مصالحها تتأثر مباشرة (المشكلة الكردية أو موضوع امدادات النفط من العراق). وفي هذا الصدد طُرحت مسائل من نوع ان الاتفاق على مصالح تتعلق بالسلام والاستقرار هو أمر سهل، فيما تظهر الصعوبة في كيفية الوصول الى ذلك. وكانت مداخلات حول القيمة التي يمكن ان تضيفها تركيا الى السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط بفضل موقعها الجغرافي وموروث التاريخ العثماني، وان تركيا كعضو في الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تزيد وزن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، فقط اذا لم تغّير في تماسك السياسة الأوروبية.
ماذا عن الدور الذي تضطلع به تركيا في التحديات الرئيسية في الشرق الأوسط (العراق، افغانستان، لبنان، الارهاب، نزع التسلح؟) وهل يمكنها فعلاً أن تقدم شيئاً حاسماً للسياسة الأوروبية في هذه المجالات، في وقت لا تبدو الولايات المتحدة ـ وهي اللاعب الأكبر في قضايا الشرق الأوسط ـ مهتمة بشراكة استراتيجية مع شركاء أقوياء، وانما تقبل "بمتابعة استراتيجية" فحسب، وتظل دول الاتحاد الأوروبي بعيدة غالباً عن التفاهم على سياسة منسجمة ازاء الشرق الأوسط، والاتحاد الأوروبي غير راغب في تجاوز الخطوط الحمراء الأميركية، بيما لا تقدم تركيا على التعاون بصورة وثيقة مع قوى اقليمية مثل ايران ومصر حول قضايا الشرق الأوسط.
الى ذلك، رأى بعض المشاركين ان على الاتحاد الأوروبي الامتناع عن تجاوز الخطوط الحمراء للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وان على تركيا أن تستخدم تجربتها في الاصلاحات المتعلقة بحقوق الانسان كما يفهمها الاتحاد الأوروبي للمساعدة في تقليص مظاهر التفاوت بين دول الشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي في مجال حقوق الانسان، كما ان تجربة تركيا في الخصخصة الاقتصادية يمكن ان تساعد في تحسين العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي والشرق الأوسط.
التفاوت في الإدراك
الخلاصة التي تعنينا عن قرب في هذه المناظرة الحيوية البعيدة عن "اللغو الاستراتيجي"، ان ثمة تفاوتاً في ادراك ديناميات القوة التركية بين من يتحدث عن تطور نظرة ايجابية الى تركيا في العالم العربي بصفتها قوة اقليمية قادرة على رأب الصدع بين السنة العرب والشيعة الايرانيين، ومن يقول اذا كانت تركيا تصنّف قوة سنية فإنه لا يمكنها أن تكون شريكاً لأوروبا في الشرق الأوسط لأن الاتحاد الأوروبي يحتاج الى علاقات طبيعية مع السنّة والشيعة في آن معاً، وان كانت الصورة الرسمية ان تركيا ليست سنية بقدر ما هي دولة علمانية. وفي السياق نفسه ينظر الى المشاركة التركية في اليونيفيل ـ 2 في لبنان باعتبارها خطوة ايجابية جداً تضفي بعداً اسلامياً على عملية مشتركة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، ما يثير أملاً في امكان الاعتماد على مثل هذه الصيغة للتعاون في قضايا أخرى مثل العراق وفلسطين. وهناك أيضاً من جهة ثالثة من يُشدد على أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي أن يتجنّب مواجهة "الهيمنة الايرانية" في العراق أو لبنان، والاستعاضة عن ذلك بتشجيع الحوار مع ايران، مع الاشارة الى ان تركيا يمكنها ان تسهل التقارب بين سوريا والسعودية حول تسوية الأزمة اللبنانية بالنظر الى الاحترام الذي تتمتع به في المشرق كقوة اقليمية وازنة، والى اكتساب الدور التركي الصاعد في المنطقة أهمية أكبر في ظل الخلاف السني ـ الشيعي.
ويُفهم من "غربلة" لاحقة لكل هذه الأفكار والملاحظات على محك التجربة الملموسة، ان ما يجري تطبيقه ازاء منطقة الشرق الأوسط من جانب حكومة أردوغان يتّسم ببراغماتية كبيرة، وهو يقوم على تعزيز علاقات الحوار والتعاون مع ايران وسوريا والتصرف ازاء الاتحاد الأوروبي على أساس ان هذا "الرصيد" يسمح بانتهاج ديبلوماسية فاعلة بين الفلسطينيين وإسرائيل من جهة، وبين سوريا وإسرائيل من جهة اخرى، وهذا يعني التطلع إلى لعب دور الوسيط أو المسهل الذي لا غنى عنه في عملية السلام أو المفاوضات، لاحتواء الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الأمر الذي يفسح في المجال، على ما يقول المحلل السياسي جنكيز تشاندر أمام التفتيش عن صيغة لربط هذا الجهد التركي بعملية تفعيل اللجنة الرباعية الدولية. وفي الوقت نفسه، لا يتوقف السعي إلى اجتذاب فوائض الأموال الخليجية لكي توظف في مشاريع الإعمار الضخمة خصوصاً في منطقة اسطنبول، فضلاً عن محاولة ربط عملية تحسين علاقات التعاون والتبادل مع دول "الجوار الجنوبي" بقضية حزب العمال الكردستاني التركي.
وتبقى عملية دفع التعاون وتعميقه بين تركيا والاتحاد الأوروبي لاطلاق مبادرات أو مشاريع مشتركة في منطقة الشرق الأوسط، مشروطة بتقدم عملية العضوية الأوروبية لانقرة، بمعنى ان الاعتماد على تركيا رأس جسر في المنطقة أو أداة استراتيجية، يتوقف على القبول الأوروبي بتركيا عضواً كاملاً في الاتحاد، وان كان هناك من يعتقد ان التكامل يفترض تحولاً أساسياً في الجانبين.
أما بالنسبة إلى العلاقة بالولايات المتحدة، فإن أزمة الثقة التي تفاقمت في مناسبة الحرب على العراق، لا تزال قائمة، خصوصاً من جانب "الدولة العميقة" في تركيا، أي البيروقراطية العسكرية والمدنية.
ومعلوم ان مسألة الاعتراف بالمذابح الأرمنية، مطروحة الآن على الكونغرس الأميركي وهذا من شأنه ان يلقي ظلالاً قاتمة على العلاقة المضطربة بين أنقرة وواشنطن ويساهم في توسيع هوة عدم الثقة.
وكان لافتاً في الآونة الأخيرة كيف ان المؤسسة العسكرية التركية تلقفت النص الحرفي لخطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ميونيخ ضد السياسة الأميركية على موقع رئاسة الأركان للجيش على شبكة الانترنت، ما بدا كأنه قرار بالتبني من جانب مؤسسة نافذة تبدي تشكيكاً بالخيار الأوروبي مثلما تعارض الانفتاح على العالم العربي.
"العثمانية الجديدة"
في أي حال، ان السياسة التركية كما تعبّر عنها حكومة أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، تجانب ممارسة أي ضغوط أو الدخول في أي صدام مع سوريا وإيران، كما تنأى بنفسها عن الخلافات بين الشيعة والسنّة بل تطرح نفسها رائدة للوحدة الإسلامية، مثلما ترفض وضع قواعدها العسكرية بتصرف حلف شمال الأطلسي استعداداً لاحتمال توجيه ضربة ضد المشروع النووي الإيراني. وهذا لا يخفي حقيقة ان الدور التركي الإقليمي الذي تمثل ديبلوماسية أردوغان جانب "الاختراق" الشفاف منه، يبدو موازناً في العمق للدور الإيراني بحيث يملأ بعض الفراغ الناتج من تراجع الدور العربي. ولذلك ترى تركيا ذات الهوية "العثمانية الجديدة"، والقوة الإقليمية ذات البعد السني، والدولة العلمانية التي يمكنها ان تحتضن كل الاتجاهات السياسية ولا تضيق بوجود حزب "إسلامي ديموقراطي" في السلطة، ترى هذه التركيا عائدة تحت ضغط تعرجات الخيار الأوروبي وديناميات "المثلث الإقليمي" التركي ـ العربي ـ الإيراني، لتقول "إذا كان لإيران ممارسة دور إقليمي فنحن ايضاً لنا مثل هذا الدور، لكن الاتراك قادمون بشكل منفتح أكثر وليسوا ثوريين بل ينخرطون في سياق إقليمي مقبول أكثر دولياً. لا يطلبون تغييرات انقلابية في لبنان ويريدون ان يدخلوا لعبة التوازنات التقليدية".
هنا تكمن ربما قوة الدور التركي الإقليمي، خصوصاً ان له امتداده الغربي والآسيوي، ويمنح العرب وزناً مقابل إيران وانما ليس بمفهوم صدامي بل بمفهوم المعادل الذي يحض على الحوار والتسوية في نهاية المطاف. ولا ننسى أخيراً خاصيتين للدور التركي، وهما ان دمشق بحاجة إلى أنقرة ولا يمكن ان تزعلها لكونها المنفذ الوحيد لها في اتجاه الغرب، وان سوريا وتركيا وإيران تواجه معضلة مشتركة تسمى "التهديد الكردي" ما يجعلها معنية بالملف العراقي بالقدر نفسه.