ثلاثون سنة على غياب كمال جنبلاط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إياد أبو شقرا
مرت يوم الجمعة الماضي الذكرى السنوية الثلاثون على اغتيال الزعيم اللبناني والعربي الكبير كمال جنبلاط.
جيل شباب اليوم في عالمنا العربي لم يعش حقبة كمال جنبلاط ، ولم يعايش الأحداث التي أثرت في ذلك الرجل الكبير وأثّر ... أو حاول التأثير فيها.
كان سياسياً ومثفقاً من نوعية نادرة، لا يجادل فيها معاصروه سواء أحبوه أو كرهوه. وربما كانت إحدى أجمل المقولات فيه ما قاله سياسي تقليدي لبناني "قد تحبه أو تكرهه لكن لا تستطيع إلا أن تحترمه".
الحديث يطول عن كمال جنبلاط السياسي والمفكر والإنسان الذي يعود اللبنانيون اليوم إلى التعرف عليه من جديد عبر مؤلفاته وما ألف عنه من كتب وأعد من دراسات توثيقية. لكن حسبنا أن ننظر إلى السنوات الثلاثين التي مضت على غيابه، فنراجع متغيراتها ومفاهيمها وشخصياتها.
عندما اغتيل كمال جنبلاط كان يكافح في لبنان من أجل مشروع تغيير وطني وحركة إصلاح سياسي تقضي على الطائفية السياسية وتطبّق الديمقراطية الحقيقية وتبني "دولة مؤسسات" غير زبائنية. ولكن بعد مرور 30 سنة يجد مشروع التغيير الوطني نفسه محاصراً (بفتح الصاد) بعسف الاغتيالات ومجازر التفجير، وترى الديمقراطية الحقيقية ملغاة تحت ذريعة الديمقراطية "التوافقية"، و"دولة المؤسسات" تدوسها وتسحقها "دويلات الطوائف" المسلحة.
عندما اغتيل كمال جنبلاط كانت الثورة الفلسطينية ـ التي آحب ودعم ـ قد استطاعت رغم الممارسات الخاطئة أن تحفر نفسها في ضمير السواد الأعظم من العرب، لدرجة أن حتى المتآمرين عليها كانوا يجبنون عن انتقادها علانية ... فيهربون إلى المزايدة عليها. ولكن بعد مرور 30 سنة، ورغم استعادة قسم من الأرض، ما عادت الثورة "ثورة". وما عادت الساحة، التي شهدت انتفاضتين وعُمّدت بالدم، واثقة كلياً من طي صفحة الاحتراب الداخلي. وما عاد بعض العرب على مستوى الشعب ـ لا الحكام ـ يتعاطفون تلقائياً مع الشعب الفلسطيني لأنه لم يتعاطف خلال هذه الفترة مع معاناتهم.
عندما اغتيل كمال جنبلاط كان التعامل مع إسرائيل خيانة، لكنه صار استنساباً و"شطارة" ومفاوضات علنية وسرية، وظهر مصطلح "التطبيع" وجاء أحياناً سياسياً وأحياناً أخرى اقتصادياً... لكنه ظل على الدوام واقعاً ثابتاً.
وكانت إسرائيل قبل 30 سنة "تجربة أوروبية" فيها مؤسسات وأحزاب منظمة تمارس بطريقتها الخاصة شكلاً من أشكال الديمقراطية الحصرية، لكنها اليوم تبدو وقد أصابتها من محيطها العربي "عدوى" النفور من الديمقراطية فاستسلمت لمنطق الغوغاء الأعوج وعُقد التطرف العنصري والديني الفاقع مع ازدياد نسبة أبناء العالمين الثاني والثالث في نسيج ساكنيها.
عندما اغتيل كمال جنبلاط كانت إيران شاهنشاهية بهلوية وكانت تركيا علمانية أطلسية، أما اليوم بعد 30 سنة، فقد صارت إيران خمينية ـ خامنئية تؤمن بـ"الولي الفقيه" ... وتركيا تتلمس ماضيها الإسلامي بحذر خشية إغضاب عسكر أتاتورك والمؤتمنين على إرثه الطوراني ـ الغربي.
عندما اغتيل كمال جنبلاط كان هناك قطبان عالميان أحدهما يبشر بالرأسمالية اسمه الولايات المتحدة والثاني يتشدّق بالاشتراكية اسمه الاتحاد السوفياتي، وكان مئات الملايين من البشر يرفعون شعارات الثورة وحق تقرير المصير والبديل الاشتراكي رغم ترهل القيادة الشائخة في الكرملين وقراءتها السيئة لمصيرها ومصير العالم من حولها. أما اليوم، بعد مرور 30 سنة، فإننا نعيش أحادية قطبية تنفرد بها الولايات المتحدة المنقسمة على نفسها بين غلو الإنجيليين المتشددين ومثالية الليبراليين، ولا يبدو في الأفق من يتحداها ـ ولو بعد حين ـ غير القوى الآسيوية الصاحية من سبات طويل.
***
لقد تغيّر العالم كثيراً خلال السنوات الثلاثين الماضية، لكن من سوء طالع لبنان الذي فقد كمال جنبلاط، برصاص الغدر يوم 16 مارس/آذار 1977، أنه توقف حيث هو بينما الآخرون يسيرون.
يقال إن المشروع الذي كافح من أجله كمال جنبلاط كان "انتحارياً" على أي حال في بلد أسس كصفقة، ورُعي كتسوية، واستمر حتى عام 1975 كهدنة ...
ويقال، إنه رغم ذكائه الحاد واطلاعه الواسع لم يتنبه إلى التناقض الجوهري بين أولويات الأنظمة واعتبارات الثورة ...
ويقال، إنه لم يستشرف قرب نهاية الاتحاد السوفياتي نتيجة تكلّس مؤسساته السياسية وانعدام القدرة في داخله على التأقلم مع سنّة التغيير.
لعل كل هذا صحيح، ولكن في السياسة ثمة مجازفات تستحق العناء ... وأي مجازفة أروع عند قائد رؤيوي شجاع من تحدي التخلف والديكتاتورية بمحاولة إطلاق تجربة رائدة في مجالات الحريات العامة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتعايش بين مكونات الشعب وطوائفه؟