وعد «الشرق الأوسط الإسلامي» الإيراني يقتضي طريقة عمل أو بروتوكولاً تَشكّلَ منذ عقود
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
وضاح شرارة
لا يبدو ان النزاع الأميركي - الإيراني، وفروعه الإقليمية الكثيرة، يدور على أهداف مختلفة تختصر عادة في السيطرة على "الشرق الأوسط الكبير" (أو "الأكبر")، فحسب. فهو يدور، في المرتبة الأولى ربما، على تعريف "النظام" الإقليمي الذي يرغب كلا قطبي النزاع في استقراره غداة انتصاره، وهو انتصار جزئي في الحالين وبالغاً ما بلغ الفرق بن قوة القطبين. وتقيّد الانتصار الأميركي، إذا رجحت كفة واشنطن وسياستها، معايير عسكرية وديبلوماسية وتاريخية ليس في وسع الولايات المتحدة التملص منها طويلاً على رغم نازع بعض تياراتها ونخبها الى التملص هذا. فليس في وسعها السيطرة بواسطة قوة عسكرية أميركية محتلة، ولا بواسطة قوة أهلية وأوليغارشية متغلبة، ولا من طريق النفخ في نزاع اهلي مستعر.
فالمثال الأميركي، والغربي عموماً، للسيطرة يفترض منذ الحرب العالمية الثانية، على أقرب تقدير، قبول الدول والمجتمعات "الصديقة" بمعايير استقلال الأمم والدول الدولية أو الأممية، وبمعايير السيادة الداخلية، الحقوقية والشكلية. وانتهاكات هذا المثال كثيرة. ولكن تهاويها، بأميركا الجنوبية خصوصاً، قرينة على السير صوب هذه الوجهة، وعلى الاحتكام المتعاظم إليها. ولعل الإنكار والاحتجاج العارمين اللذين أثارهما إخراج التدخل الأميركي وقوى التحالف في العراق، ولا يزال يثيرهما بأوروبا والولايات المتحدة أولاً، علامة راجحة على قوة الوجهة هذه واتخاذها ميزاناً في العلاقات الدولية.
والكلام على معيار أميركي، وغربي، وعلى انتهاكاته، غالباً ما يتستر على مضمون أو طبيعة المعايير الأخرى، غير الأميركية وغير الغربية. وعندما ردت طهران على "الشرق الأوسط الجديد" بما قالت انه نقيضه، ووصفته بـ "الإسلامي"، ونصبته نظير شرق أوسط "أميركا"، لم تتكلف، ولا تكلف اصدقاؤها ومناصروها في المشرق العربي تعريف مضمون النظام "الإسلامي" المفترض هذا، ولا أبواب هذا المضمون وأجزاءه وطريقة عمله. فاقتصر التعريف على رفض القوة الأميركية العسكرية، وتهديدها سيطرة بعض الأنظمة الداخلية وتقويض بعض وجوه نفوذها الإقليمي. وذهب بعض الزعماء العرب الى تعريف مضمون النظام "الإسلامي" المفترض بمذهبيته. فحمله على تسلط مذهب غالب في بعض البلدان العربية المتصلة، إما غلبة أهلية أو غلبة سياسية، على أهل مذاهب وأديان أخرى.
والحق ان الوصف او النعت بقي جغرافياً فلم يلحظ فلسطين وأفغانستان، من جهة، ولم يتجاوز النسبة المذهبية فلم يلحظ "حماس" و "الجهاد" وميشال عون الى طريقة العمل، من جهة أخرى، أي الى هيئة النظام المقترح. ولا يدعو تناول طريقة العمل على الرجم في الغيب، ولا الى التخمين المغرض. فطريقة عمل الشرق الأوسط الذي تعمل السياسة الإيرانية في سبل إنجازه في قيادتها تكاد تكون ناجزة في الاختبارات التي ضلعت فيها هذه السياسة، وضلع فيها حلفاؤها وأنصارها، منذ نيف وربع قرن. ومسارح هذه الاختبارات الأولى والمتصدرة هي لبنان وفلسطين وأفغانستان والعراق وسورية وباكستان، وعلى مقدار أقل أو أضعف بعض الخليج، وأطراف جزيرة العرب ومصر والسودان و "العالم" التركي، الى مسارح أوروبية وافريقية وأميركية جنوبية متفرقة وعملانية.
ولكن المثال الناجز الى اليوم، هو بلدان المشرق، وربما أفغانستان. وفي هذه البلدان نهض النهج الإيراني "الإسلامي" على استمالة جماعة مذهبية محلية من صنف الجماعة الغالبة بإيران وعليها، ثم على السعي في تنصيب فريق يوالي القيادة الإيرانية حاكماً أهلياً على الجماعة المذهبية. ويقتضي تمتين واستمالة الجماعة المذهبية وترسيخ حكم الفريق الموالي على الجماعة، معاً، العمل على عزل الجماعة عن مجتمع الدولة، وإمداد الفريق بأسباب السيطرة والاكتفاء. والأمران، بدورهما، يرتبان تحصين عزلة الجماعة بواسطة شبكة مرافق "خيرية" وتعليمية، واستفزازات سياسية وشعائرية. وتقود تقوية الفريق القائد الى تمكينه الأمني والعسكري، إذا سنحت الفرص. فيستدخل الولاء المذهبي، ثم السياسي، وبطانة الولاء السياسي امنية وعسكرية، يستدخل هيئات الدولة والمجتمع، ويتسلل الى الإدارات والمجالس المنتخبة والمرافق المشتركة مثل التعليم والقوات المسلحة فينخر وحدتها الوطنية، وهي ضعيفة غالباً، ويحول دون بلورة تماسك وطني، ويعرقل اتخاذ القرارات وتنفيذها.
وتفضي مراحل النهج هذا الى تربع دولة وطنية، على نموذج الدول - الأمم التي يقوم عليها نظام العلاقات الدولية الغالبة وتحميها معاييره السيادية، في سدة شبكة مختلطة من الدول (ويقتصر الأمر على دولة واحدة الى اليوم) والجماعات الأهلية والمنظمات السياسية والأمنية العسكرية. وتتغذى علاقات الشبكة هذه من المنازعات الأهلية والمذهبية ومن الانقسامات الاجتماعية، والحروب الوطنية والمحلية والإقليمية. فعدو الشبكة المختلطة هو تماسك الدول والمجتمعات، واستقلالها بأبنية سياسية وطنية تقيها الاستدخال والاستمالة والولاء لمراكز خارجية. وجمع السياسة الإيرانية "الإسلامية" وجوه الاعتقاد والسياسة والاجتماع والأمن والحرب في كتلة متشابكة يتيح لها الانتقال الزئبقي من وجه إلى آخر. ولكن تتويج سعيها هو ترسيخ النزاع الأهلي، وتغذيته على نحو يشل تبلور إرادة وطنية مستقلة.
وإذا كان الاستدلال إلى وصف طريقة عمل النظام الإقليمي المزمع يغلّب مثال "حزب الله" المكتمل، فهو (أي الاستدلال) لا يُغفل) "جيش المهدي" و "لواء بدر" بالعراق، ولا "حماس" و "الجهاد" بغزة، ولا "الشباب المؤمن" ("الحوثي") باليمن، ولا منظمات الهزارة بأفغانستان. ويحظى جوار إسرائيل وفلسطين بصدارة عملية مفهومة. فالذريعة القومية والدينية في الجوار المحموم هذا تُلبس السياسة الإيرانية، وارثة السياستين الفلسطينية والسورية وقبلهما المصرية الناصرية، ثوباً مقبولاً، وتتستر على موقعها من النظام "الإسلامي" العتيد. والحاجة إلى هذه الذريعة قوية وملحة. فما ينبغي إلباسه الذريعة القومية والدينية هو حرب أهلية مضاعفة أو مزدوجة، واستعداء الجماعات بعضها على بعض استعداء قاتلاً ومدمراً. وهو تقويض بناء سلطة الدولة الوطنية، وبث الفرقة في مرافقها، وتمزيق هذه المرافق.
وحمل استشراء طريقة العمل هذه أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين على تضمين مناقشاتهم التي تتناول مسودة قرار جديد يخلف القرار 1737، "صادرات إيران من الأسلحة التقليدية الى الخارج، وإلى جماعات مثل (حزب الله) في لبنان"، على قول الوكالات في 20 آذار (مارس) الجاري. وتمشي "حماس" على خطى جيش "المقاومة الإسلامية" في لبنان، على ما تعلن "حماس" نفسها، ويعلن الجيش الإسرائيلي وعلى ما كتبت مراسلة "الحياة" في عمان، رنا الصباغ: "يعمل مشعل (خالد) على دعم نفوذ الحركة في الداخل والخارج ببنية عسكرية قيد التشكيل في الضفة الغربية (تُعدّ في) مخيمات تدريب عسكرية في سورية وإيران" (20 آذار). وتنهض البنية العسكرية على بنى أهلية وتنظيمية ومهنية وسياسية تطل بدورها على آفاق وطنية وإقليمية حبلى بأنواع الشقاق الكثيرة.
فعلى خلاف مثال الدولة الذي تفترضه العلاقات الدولية، ويفترضه نظامها "الأممي المتحد" وفروعه الإقليمية، يقود المثال "الإسلامي"، أي الإيراني، الى تتويج التحرر الوطني بالحروب الأهلية المتناسلة، وإلى الحؤول دون بناء الدولة الوطنية الجامعة. فالنظام الإقليمي المزمع ينصب مركزاً غير مقيد بقواعد وطريقة عمل ومراتب وهيئات، في سدة جماعات موالية تدين بقوامها ومواردها للمركز هذا. وبديهي ألا يستقر "نظام" مثل هذا. وزعم الحق في التخصيب، وفي الصناعة النووية، وفي المكانة الإقليمية، لا يتصور في الصورة العنيفة والقاطعة التي يتصور فيها إلا لأنه يحمي المركز الإيراني، وتصدره نظاماً لا سند له واقعياً في الكيانات السياسية ولا في العلاقات الدولية. فلا يبقى سند غير النار النووية في تصرف "ولي أمر المسلمين، الفقيه الجامع شرائط العدل"، على ما يسمي الدستور الإيراني مرشد "الجمهورية الإسلامية".