خريف بغداد.. ليس لدي الصحّاف من يراسله!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد المسلماني
بعض الأيام دول.. وبعض الدول أيام، بعض الزمان يدور وبعض المكان يزول، تاريخ يطارد الجغرافيا، وخرائط كالجميلات الحسان.. تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض.
... هنا سطور عن بعض ما كان.. حيث كنت وكان آخرون.
. أغلب الظن عندي أن وزير الإعلام العراقي في زمن الحرب محمد سعيد الصحاف ربما كان عميلا للمخابرات الأمريكية، وأن الصراخ والعويل الذي ملأ بهما الشاشات والميكروفونات ليل نهار كان يخفي وراءهما الكثير.
وربما كان الرئيس صدام حسين قد ساورته الشكوك بشأن وزير إعلامه وهو ما يفسر بعض الذي سمعته من الصحاف نفسه: "لقد منعوني من الذهاب إلي المطار لكي أتحدث من هناك وأؤكد لأمريكا أن المطار لايزال بوضع جيد".
إن اتهام الصحاف وناجي صبري وسلطان هاشم.. أي وزراء الإعلام والخارجية والدفاع بالخيانة والعمالة للمخابرات الأمريكية اتهام خطير، لكني لا أزال متمسكا بظنوني وببعض ما سمعت ورأيت.. والأمر بين يدي الباحثين والمؤرخين لكي نضيء ظلام هذه الحرب وظلمات هؤلاء القادة علي الرغم من أن ذلك قد يقض مضاجع الصحاف الذي يقضي حياته الآن مستجما في هدوء ناعم، ليس هناك من يذكره ولا هناك من يراسله!
. . .
. أخطو معكم إلي شهادة الصحاف علي الحرب.. ماذا جري؟.. وكيف جري؟ وهي شهادة فريدة ووحيدة ، وكان من حظي أني التقيت الصحاف بعد الحرب، وقمت بتفريغ الحلقات التليفزيونية التي تحدث فيها الصحاف إلي زميلي جابر عبيد في قناة أبوظبي، وقد استأذنت وقتها في نشر أجزاء من الشهادة في مجلة الأهرام العربي.. وهنا إفاضة.
يقول الصحاف: "قبل الحرب.. حاولنا الاتصال بواشنطن، قبلنا أيدي الولايات المتحدة، لم يقبل الجانب الأمريكي محاولات الاتصال به.. إنهم لم يقبلوا أبدا فتح باب اتصال أو حوار".. "لقد حدثت اتصالات في التسعينيات، وكنت وقتها وزيرا للخارجية، التقيت عضوا في مجلس الشيوخ في أحد المطاعم خارج نيويورك، قام بترتيب اللقاء بيننا المرحوم نزار حمدون مندوب العراق لدي الأمم المتحدة، وقد وافق الرئيس صدام حسين علي اللقاء".. "جاء عضو مجلس الشيوخ متخفيا ودخل من باب المطبخ لا من باب المطعم، وغادر المكان أولا ثم غادرت بعده بفترة،
وكان ذلك التحوط بطلب من النائب الأمريكي الذي كرر طيلة الوقت أن اللقاء غير رسمي".. "لقد تكررت اللقاءات بعد ذلك، وكان اللقاء الثاني في أحد الفنادق في دولة أوروبية، وكان الوفد العراقي يترأسه "حامد يوسف حمادي" وزير الإعلام والسكرتير الشخصي لصدام حسين، وكانت أهداف اللقاءات إيجاد مخرج للعراق مع الولايات المتحدة".
يضيف الصحاف: "منذ عام ٢٠٠٠ بدأنا نؤمن بأن الحرب قادمة، وأن الولايات المتحدة لا تريد الحوار معنا.. بذلنا جهدا مضاعفا مع واشنطن ولندن، لكن دون جدوي، وسطنا أطرافا ثالثة بيننا مثل الأردن وتونس والأشقاء في الخليج، تحدثنا مع الدول الصديقة لأمريكا.. وقلنا لهم إذا صارت لديكم فرصة تكلموا مع الأمريكان واطرحوا الموضوع، لكن دون فائدة".
. . .
حرب في الطريق، ويأس في بغداد.. ألم يفكر الرئيس في التنحي؟.. يقول الصحاف: "إن صدام لم يفكر أبدا في التنحي ولا أحد يجرؤ علي أن يقول لصدام عليك أن تتنحي وتنقذ العراق".
إذن ماذا أعد القائد للحرب؟.. ما حجم السلاح.. وما وزن الرجال؟.. يقول الصحاف: "ليس عند العراق أي من أسلحة الدمار الشامل، كان لدينا سلاح كيماوي، وبرنامج للصواريخ، وبرنامج لإنتاج السلاح البيولوجي، ثم برنامج نووي.. لكن كل الأسلحة قد تم تدميرها في حرب ١٩٩١" "ما بقي بعد التدمير جاءت فرق التفتيش لتقضي عليه، عرفوا كل شيء، حتي الفراش الذي يعمل في هذا المكتب أو ذاك، لم يتركوا شيئا، كل شيء.. كل شيء".
. . .
جري تقسيم العراق إلي أربع مناطق عسكرية، لكن قادة المناطق من المدنيين، وصار القادة العسكريون مستشارين للقادة المدنيين هكذا كان حال الجيش، لا سلاح ولا رجال لكن جيشا آخر كان علي أتم الاستعداد.. كتيبة الإعلام العراقية التي كانت تعمل بلا انقطاع!
يقول الصحاف: "تم إنتاج ٦٤ محطة إرسال إذاعية قامت بتصنيعها إحدي مؤسسات التصنيع العسكري، وحين بدأت مشكلة أبراج الهوائيات العالية، تمت معالجتها بواسطة تصميم لمهندس مصري عبقري- حسب وصف الصحاف- ابتكر هوائيا طوله ٦ أمتار بديلا عن الهوائي الذي يزيد طوله علي المائة وسبعين مترا وأصبحت لدينا في نهاية المطاف ٤٥ محطة إذاعة متنقلة و١٥ محطة تليفزيون متنقلة و٢٧ محطة إذاعة احتياط !
بدأت الحرب وألقي الصحاف خطبة شهيرة في بدايتها، يقول الصحاف: "إنها سجلت في منزل قريب من القصر الجمهوري".. أما الرئيس صدام حسين فقد كانت المعلومات الاستخبارية الأمريكية الخاصة به خاطئة، كان صدام يستخدم بيوت المدنيين، كان موجوداً في أماكن لم يقترب منها قصف، مثل شارع الأميرات الذي بقي فيه صدام خمسة أيام متتالية،
وكان موجوداً في أيام أخري في فيلا عادية في حي الزهراء، لم يكن صدام قريباً من القصف في أي وقت، وفي مرة واحدة كنا في اجتماع معه، وكان القصف قريباً علي بعد كيلو متر واحد، وكانت هذه هي أقرب مرة بالنسبة لقرب القصف من صدام، لقد التقيت الرئيس عدة مرات لكنني لم أكن أعرف مسبقاً أين هو.
توالت المعارك في حرب العراق، من أم قصر إلي البصرة إلي الناصرية إلي كربلاء إلي بغداد، يقول الصحاف: قبل الحرب بيوم، أرسل صدام إلي قواته في أم قصر يسأل عن الوضع، قالوا له: اعتبر أنها سقطت، فقال لهم: أعيدوا النظر، فوضعوا قوة هناك حيث صمد اللواء ٤٥ وقاتل قتالاً ممتازاً، لكن البريطانيين قاموا بإنزال قواتهم خلفها ثم توجهوا إلي البصرة، سألت وزير الدفاع العراقي عن ذلك، فقال: نحن ندرس الأمور بدقة.
واصلت قوات الغزو مسيرتها نحو الوسط وبغداد، كانت لدينا هناك قوات عسكرية بأعداد ضخمة وكانت لدينا ميليشيات مسلحة في شكل رعاة غنم، قاتلنا بقوة لكن القوات الغازية أعلنت سقوط الناصرية قبل أن يدخلوها، ولا حتي كانوا قد دخلوا بدايتها، لقد خسروا كثيراً في معارك الأيام الأربعة التي وقعت في الصحراء الواقعة بيننا وبين السعودية.
ولقد واصلت بعض قوات العدو التقدم دون توقف عند الناصرية، وأرادت بذلك أن تؤثر علي الروح المعنوية وتوحي بأن الناصرية قد احتلت، فأقاموا الحواجز شمال المدينة فاعتقد الناس أنها سقطت، لقد استخدم العدو في احتلال الناصرية قوة نيران جنونية.
في هذه الأثناء، أثناء معركة الناصرية قال وزير الدفاع سلطان هاشم: إن القوات الأمريكية قد تكون في بغداد خلال خمسة أو عشرة أيام، بينما قام صدام حسين بإقالة عضو القيادة في الناصرية، يقول الصحاف: سلطان صديقي، وما بيننا هو أكبر مما بين وزيرين في الحكم، وما قاله عن الوصول الأمريكي إلي بغداد كان تقديراً خاصاً منه بسير المعارك.
سقطت أم القصر، سقطت البصرة، سقطت الناصرية، إلي النجف التي سقطت قبل أسبوع واحد من سقوط بغداد، يقول الصحاف: كان "مزبان" قائد المنطقة الوسطي وقائد معركة النجف مرتبكاً، ولا يسمع كلام المستشار العسكري، فأدي إلي تعثر وتأخر إجراءات القتال يوماً كاملاً،
وقد ساعد هذا الارتباك في أن تتقدم القوات الأمريكية دون مقاومة، وحدث هذا أيضاً في كربلاء، كان أداء القائد مزبان سببا رئيسياً، لكن أيضاً كان هناك قسم منظم من المواطنين تمرد ضد القيادة والحزب، وبدأ يحرض ضد النظام.
كان لابد من إجراء تعديلات كثيرة، ولكن جري ضرب عدد من الوحدات التي جري تحريكها بقسوة شديدة، بحيث إن أرتالاً من الدبابات وحاملات الجنود تم حرقها تماماً، حوالي ثلاثين أو أربعين دبابة تم القضاء عليها بشكل كامل.
كان لدينا الكثير من قوات الاحتياط لا يلتحقون بمراكزهم، لأن الأمريكيين كانوا يقطعون عليهم الطريق بعد احتلالهم أجزاء متفرقة، أما عدد المتطوعين العرب الذي قد يصل إلي ١٥ ألف مقاتل فقد تم الترحيب بهم، لكن انشغالاتنا أثناء الحرب كانت كبيرة.
إلي بغداد.. يقول الصحاف: كانت معركة المطار هي بداية المعارك الحقيقية لبغداد، لقد كبدنا القوات الغازية في معركة المطار الأولي خسائر فادحة، لكن ما أثار استغرابي هو إلحاحي في تصوير ذلك ورفض السلطات مطلبي،
وقد ذهبت إلي المنطقة ووجدت فيها حريقاً كبيراً، ليس فقط حريقاً للقوات بل تم حرق الأرض، لم يكن ممكناً إخفاء اللون الأسود في كل مكان، لم تكن في المطار أنفاق متصلة بنا تحت الأرض، هذه أسطورة، هذا مطار بناه الفرنسيون وليس فيه شيء من ذلك.
اتصلت بوزير الدفاع سلطان هاشم، لكن لم يكن موجوداً، بدءاً من يوم ٦ أبريل، لقد اختفي أثناء معركة المطار، كانت القوات العراقية مرتبكة وحدث هروب واسع من الجنود،
وقال لي أحد المسؤولين إن هناك ضباطاً يتصلون بالوحدات ويقولون لهم: كل شيء انتهي، كل شيء انهار، فعليكم بالانصراف، وهناك ضباط صرفوا الحماية التي معهم، وقالوا للجنود: اذهبوا إلي منازلكم لقد انتهي كل شيء.
لكن الرئيس لا يزال في بغداد، وقد التقيناه في اليوم التالي لمعركة بغداد، كان صدام منزعجاً من معركة المطار، لكنه كان متماسكاً وقرر عزل قادة هذه الوحدات.
كان آخر اجتماع لي مع الرئيس صدام حسين يوم ٦ أبريل، لكنني لم أعد قادراً علي الاتصال به منذ يوم ٧ أبريل، وأنا أرجح خيانة "سفيان" رئيس أركان الحرس الجمهوري، الذي تقول الروايات إن طائرة أمريكية هبطت إلي المطار وأخذته هو وأسرته أثناء الحرب، إن الذين هربوا من المعارك وتركوا القتال يقدرون بعشرات الآلاف.
في ٩ أبريل عام ٢٠٠٣ سقطت بغداد، بعد حرب ركيكة رديئة، لا انتماء ولا شرف، لا قيادة ولا بطولة، فقد العرب الأمل وفقد العراق الحياة، شلة من العيال أدارت سلطة بلا رجال، فأغلقت الوطن وأطفأت الأنوار!
الخميس القادم: شتاء بغداد.. رئيس يشتاق وملك ينتظر!