جريدة الجرائد

لبنان: الخارج يسلّم على الداخل .. وبالعكس

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



إياد أبو شقرا


من جديد يشهد اللبنانيون عداً تنازلياً للأزمة اللبنانية المتفاقمة التي غدا من المستحيل معالجتها داخلياً فحسب، كما غدا متعذراً على سعاة الخير في الخارج إغفال شدة اعتمالها الداخلي أيضاً.

إنها أزمة مستعصية مستحكمة تختصر حقيقتين خطيرتين: الأولى، انعدام القواسم المشتركة بين مكونات الشعب اللبناني. والثانية، أن لبنان ـ على أبواب القمة العربية في الرياض ـ وبرغم ما فيه من انقسام يعيش بالمقارنة مع عدد كبير من أشقائه أزمة مفتوحة و"جرحاً مكشوفاً" يسهل تشخيصه وإن صعبت معالجته، في حين أن أزمات هؤلاء الأشقاء والجيران مكبوتة وفي أجسامهم السياسية أورام يُخشى ألا تكون حميدة.

فاللبنانيون، حاكمين ومحكومين، يدركون منذ بعض الوقت وليس البارحة فقط أنهم مختلفون ... وفي العمق. ويدركون أيضاً أن النيات الطيبة والكلمات الأطيب باتت لا تسمن ولا تغني من جوع، وقد تبين بالدليل القاطع أن المبادرات التوفيقية مجرّد محاولات تبذل لكسب الوقت ـ أو رفع العتب ـ بانتظار أن يحلها رب العالمين.

ولكن تظل المقاربة التي ربما تختصر الكثير من المشاكل وتتجاوز باللبنانيين وإخوانهم العرب الكثير من وجع القلب، هي المقاربة العقلانية العملية، ولا أقول "الأخلاقية"، لأننا تعلمنا من مسلسل التجارب "النضالية" و"الوطنية" و"التحريرية" .. وغيرها، والحمد لله، أن التشديد على المسألة الأخلاقية قد يكون في غير محله.

ولنبدأ من الشق الداخلي للأزمة ..

شهدنا خلال الأسبوع الفائت ما يشبه انهيار لقاءات السيدين نبيه برّي وسعد الحريري اللذين يمثلان حالياً على الصعيد اللبناني، وفق تصور البعض، نقطة تلاقٍ "معتدل" وضروري .. من ناحية بين تياري الحكومة والمعارضة، ومن ناحية ثانية بين القيادتين الشيعية والسنيّة في البلاد.

وواقع الأمور يقول إن عناصر الأخفاق المحيطة بهذه اللقاءات الاضطرارية كانت منذ البداية أقوى من فرص النجاح. فبرّي عاجز عن الفكاك من خطاب "حزب الله" السياسي والعسكري .. حتى إذا أراد، و"حزب الله" عاجز عن التخلي عن ارتباطاته الاستراتيجية حتى إذا خطر لبعض قادته ذلك، والسقف المطلبي الذي التزمت به الكتلة الشيعية المعارضة سواء على صعيد استقالة وزرائها أو تصعيد تحركها في الشارع دفاعاً عن مكتسباتها وسلاحها وموقعها في السلطة يجعل من أي تنازل يبدو وكأنها هزيمة.

أما بالنسبة للحريري، فإن لديه هو الآخر قضايا لا يستطيع تقديم تنازلات فيها، أولها المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستنظر في اغتيال والده ورفاق والده وحلفائه، وثانيها الدفاع عن حكومة تمثل الأكثرية النيابية المنتخبة التي يترأسها، وثالثها حق هذه الحكومة في أن تمارس الحكم في وجه محاولات الالتفاف عليها من قبل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب وجيش "حزب الله" الذي هو اليوم أكبر من الجيش اللبناني، ورابعها التعامل مع التخوف السنيّ ـ مضافاً إليه تخوف الغالبية العظمى من المسيحيين والدروز ـ من إصرار المعارضة وامتداداتها الإقليمية على رفض مشروع قيام "الدولة" في لبنان.

والحقيقة المرة أنه يتساقط بمرور كل يوم على لبنان مزيد من الخيارات والآمال الخافتة وما تبقى من قطرات حسن النية والرغبة الصادقة في التعايش. كما تنهار يوماً بعد يوم ليس صدقية الساسة الذين نجح معظمهم في "غسل أدمغة" جماعته وما عاد يكدّر طموحه مكدّر، بل النخب الفكرية والمرجعيات الدستورية والمؤسساتية، التي كانت فوق الخلاف، فأضحت جزءاً من المشكلة بخطاباتها القاصرة وفتاواها "القبلية". ومعلوم أن الأحزاب العلمانية التي طالما جسرت الهوة الطائفية كانت قد سقطت لقمة سائغة لقوى الأمر الواقع الأمنية، وها هي تلحق بها تباعاً الجامعات والنقابات المهنية الكبرى، والشخصيات الجليلة من السبعينيين والثمانينيين، الذين أثروا الجدل السياسي ولجموا شططه لعقود خلت، بمداخلاتهم القانونية والدستورية القيّمة.

وهكذا، أمام اللبنانيين أن يبدأوا بحثهم على حل ما .. بالتساؤل حول ما إذا كان لبنان دولة ذات سلطة أحادية مركزية أم سلطة تقوم على "فدرالية الطوائف". فالإجابة على هذا السؤال تساعد على اختصار جزء من الأزمة الحالية. إذ بوجود السلطة المركزية الأحادية لا مجال لحكومات "الثلث المعطل/الضامن" ولا يعود هناك أي قيمة لاستقالة وزراء من هذه الطائفة أو تلك بهدف نزع شرعية الحكومة. أما إذا كانت السلطة "فدرالية طائفية" فعندها يتوجب ترسيخ ذلك بالعودة إلى اعتماد بنود الدستور المقرّ في الطائف حول "اللا مركزية الإدارية" وإنشاء مجلس شيوخ .. وإذ ذاك تضبط قواعد هذه الفدرالية الطائفية بصورة رسمية.

ونصل إلى الشق الخارجي..

إن واقع تقسيم منطقة الشرق الأدنى بفعل "اتفاق سايكس ـ بيكو"، وتوأمه "وعد بلفور"، يعني استحالة الفصل بين ما يحصل داخل كياناتها الراهنة وخارج حدود هذه الكيانات. وإذا تذكّرنا بأن معظم حدود هذه الكيانات مصطنعة سنفهم عبثية الكلام عن مقومات السيادة واحترام حقوق الجار.

ثم أن الخطاب الديني ـ الإلهي الذي لم ولا ولن يعترف بالحدود "الدنيوية" .. صار المنبر والراية والسلاح والشرعية والحل الأوحد، بعد انهيار مشروعي الاشتراكية ـ بما فيه خيار "حرب التحرير الشعبية" ضد إسرائيل "صنيعة الإمبريالية" ـ،

والوحدة العربية بين كيانات مهددة اليوم "أقطارها" و"أقاليمها" بالتفتت أكثر من أي وقت مضى في تاريخها.

وها هي صوَر "السقيفة" و"تحكيم صفين" و"كربلاء" ـ بعاشورائها التذكّرية التذكيرية ـ تُستحضَر اليوم إلى قلب الحالة السياسية كما لم تُستحضَر من قبل .. بإزاء خلطة تفجيرية لا سابق لها تتداخل فيها الحسابات النفطية والنووية واختلاف الأولويات بين الحليفين الأميركي والإسرائيلي حول أساليب التعامل مع "العدو" ومع "الصديق"!!

أمام "قمة الرياض" إذاً ملفات مصيرية. وأمام العرب ومَن حولهم خيارات صعبة، والجميع في مأزق .. مما يجعل من سوء التقدير خطأ قاتلاً. وليس هناك ما هو أخطر من سوء تقدير ما يمكن أن يحدث من انزلاق نحو المجهول في النقاط الساخنة الثلاث .. العراق ولبنان وفلسطين.

فهل من مجال لوقف هذا الانزلاق نحو المجهول؟ وهل ظلت ثمة فرصة لإيجاد أرضيات تفاهم مشتركة ولو على الحد الأدنى؟ وإذا توفرت مثل هذه الأرضيات .. مَن سيدفع ثمنها وكم سيكون هذا الثمن؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف