جريدة الجرائد

المشروع الوطني هو الحل لمأزق العملية السياسية في العراق

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الأربعاء 28 مارس 2007

ماجد أحمد السامرائي


بعد أربع سنوات من الاحتلال أصبح الوضع العراقي معقدا ومرعباً في جوانبه السياسية والاجتماعية والأمنية. فالحملة البربرية الدموية ضد الشعب العراقي التي تتحمل مسؤوليتها قيادة الاحتلال الأمريكي بشراكة الأحزاب الطائفية وقوى الإرهاب الداخلية والخارجية, ما زالت في أعلى درجات بطشها وعنفها, وقد أحدثت إضافة إلى فقدان أكثر من نصف مليون ضحية من الشباب وآلاف النخب العلمية والثقافية والعسكرية،أكبر موجة نزوح ملاييني خصوصا من العاصمة بغداد إلى الدول المجاورة خلال الشهور القليلة الماضية,وهي نتيجة مريحة لأصحاب مشروع إفراغ هذه العاصمة العريقة من سكانها التاريخيين, مما يفسر حاجتهم في الحلقات المتقدمة لإنجاز هذا المشروع التخريبي إلى أغطية وعناوين مبررة مثل"خطة أمن بغداد"للتمويه على الكارثة الكبرى, وهي عملية تشكل في أحد جوانبها جزءا احتياطيا لاحتمالات فدرلة العراق طائفياً وعرقياً.ذلك أن بغداد مثلت عبر القرون أنموذجا راقيا للمدنية والحضارة والتعايش الأهلي. لقد كان أصحاب المشروع التدميري للعراق يعرفون بأن مفاتيحه تكمن في قرارات حل الجيش والمؤسسات الأمنية وتنفيذ ما يسمى"باجتثاث البعث" لذلك تحمسوا وشجعوا قيادة الاحتلال للتسريع بالتنفيذ, وحرمان أكثر من مليونين من العسكريين والبعثيين من أبسط حقوق المواطنة في العيش الكريم, إضافة إلى أن تغييب وترهيب منتسبي هذا الحزب الكبير بحجمه قد سهل الطريق أمام هيمنة تلك الأحزاب الطائفية على السلطة, كما أن تلك الإجراءات التعسفية كانت من أسباب ذهاب منتسبيه إلى خيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال مع أن هذا الخيار واجب على جميع العراقيين لاسترداد وطنهم من الغزاة. إن ما حصل في العراق منذ التاسع من أبريل 2003 من قتل وتهجير وتدمير للبنية التحتية يشكل جريمة إنسانية لا يمكن تغافلها والقفز على وقائعها المريرة وتجاهل مسببيها السياسيين, وإذا كان للاحتلال هويته المعروفة تاريخياً فإن القوى والأحزاب المحلية التي تدير البرنامج التدميري أو ترعى أو تغض النظر عن أدواته التنفيذية تتحمل مسؤولية أكبر من مسؤولية الاحتلال نفسه.
ما يحدث اليوم في العراق والعاصمة بغداد ليس له صلة بتنفيذ أي مشروع سياسي حتى وإن كان في إطار"الإسلام السياسي المذهبي" بل هو أقرب إلى مشروع التدمير البربري المنظم لبلد ذي شعب حضاري كان يتطلع إلى حياة ديموقراطية منفتحة أصبح في أواخر القرن العشرين قريباً من خطواتها السلمية النهائية على يد نخب الطبقة الوسطى السياسية والثقافية ذات المنهج الليبرالي المدعوم بإمكانات هائلة من الوعي الوطني المنظم ذي التراث الفكري العراقي الأصيل. لقد نشأت وبأساليب وأدوات دموية خرائط سياسية وديموجرافية جديدة ذات مواصفات طائفية وعرقية تكثفت في بغداد العاصمة تحت نظرية ما يؤسس للعاصمة يعمم على البلاد كلها. تزامنت مع ما ينفذ من حملة تهجير منظمة في مدينة كركوك شمالي العراق لإلحاقها في هذه الظروف الاستثنائية بكيان كردستان. وهذه البيئة الشاذة التي صنعت في ظل الاحتلال يراد لها أن تؤسس لتقسيم البلاد إثنياً وعرقياً, قاتلة بذلك جميع الفرص التي اشتغلت عليها القوى الوطنية منذ عقود لبناء عراق ديموقراطي ذي هوية وطنية وانتماء عروبي تتحمل مسؤولياته شراكة التعددية السياسية وقواعد السلم الأهلي.
إن بنيان العملية السياسية الذي أنشئ بعد الاحتلال عام 2003 قد استند وبرعاية وتوجيه الحاكم الأمريكي "بريمر" على قواعد المحاصصة الطائفية التي استهوت من يدعون تمثيل الطائفة الشيعية وتحول فيما بعد إلى طغيان طائفي مقيت محمل بالثأر وإلغاء كل ما له صلة بمعايير القيم الوطنية العراقية. لدرجة أصبحت فيها محاولات الإصلاح السياسي صعبة التحقيق بعد حلقات الدمار وتعاظم المحنة بين العراقيين الذين هجَر أو هاجر مالا يقل عن سبعة ملايين منهم خارج الوطن بعد استحالة العيش داخله. لقد واصلت القوى الطائفية استثمارها لورقة نزيف الدم العراقي وأمدته بكل عناصر البقاء للحفاظ على السلطة الهشة, وفشلت في استثمار شعار"المصالحة الوطنية" الذي روجت له الحكومة لأغراض إعلامية استهلاكية,لأنها تجاهلت من خلال دعوتها تلك القوى الفاعلة على الأرض المتمثلة بالمقاومة الوطنية العراقية وقوى الحركة الوطنية المناهضة للطائفية والاحتلال.
ورغم حجم الكارثة فقد نفذت الأحزاب الطائفية الحاكمة ولأغراضها ومصالحها الخاصة وصايا وتوجيهات الرئيس الأمريكي بوش بعدم الاستماع إلى الحلول العملية الصادرة عن قوى المشروع الوطني العراقي وكذلك الكونجرس الأمريكي ومجموعة بيكر هاملتون التي رسمت هيكلا أقرب إلى الواقعية"للانسحاب الأمريكي المشرف" من العراق وبذلك خسرت تلك القوى الطائفية آخر فرصة لها للاصطفاف داخل الحركة الوطنية العراقية, ووضعت نفسها في خدمة مشاريع تتناقض ومصالح العراق العليا ووقعت في النهاية أسيرة مأزق تناقضات المصالح الإقليمية خصوصا بين (إيران وأمريكا) مع أن الفرصة ما زالت متوفرة أمامها للانضمام إلى فصائل الحركة الوطنية المناهضة للطائفية مثلما فعلت بجرأة قيادة حزب الفضيلة الإسلامي.
لقد وصلت تلك الأحزاب إلى طريق مسدود رغم الدعم السياسي والعسكري اللوجستي الهائل الذي يقدمه لحكومتهم الرئيس بوش بشكل لم يكن له سابقة في التاريخ, ومع ذلك فالمأزق السياسي يزداد انغلاقاً يوماً بعد يوم.ولأسباب تتعلق بالضغوطات الأمريكية التي يتعرض إليها الرئيس الأمريكي ومعرفته أنه يراهن على حصان محلي خاسر حيث لم يصله لحد اللحظة تقرير أو استشارة مدنية أو عسكرية تتوافق مع آماله بنجاح حكومة المنطقة الخضراء, لكنه سعى إلى عرض ورقته الأخيرة في بغداد عبر منح تلك الحكومة المبادرة لعقد الاجتماع التمهيدي للمؤتمر الدولي حول العراق الذي كانت فكرته أحد عناصر حلول السلة الكاملة التي قدم لها تقرير بيكر هاملتون المتضمنة ضرورة الحوار مع"الأعداء المفترضين في المنطقة "سوريا وإيران" ورأى بوش أنه يضرب في هذه الخطوة الديبلوماسية عصفورين بحجر واحد: فمن جهة يحاول مد الحياة بحكومة المنطقة الخضراء الآيلة إلى السقوط ومن جهة أخرى التعبير عن المكابرة أمام خصومه في الكونجرس الأمريكي بكونه ما زال يتوقع تجنب الاعتراف بالفشل في العراق. لكن معطيات الساعات القليلة لاجتماع بغداد أكدت دخول إدارة بوش في منحدر الاعتراف بذلك الفشل، وقبول التعامل مع نفوذ إيران في العراق ومن خلاله في المنطقة والذي صنعته أمريكا ذاتها عندما أسقطت نظام صدام العدو التاريخي للنظام الإيراني.
ولعل في تجديدات خطة بوش في العراق بعد زيادته لعدد القوات الأمريكية الخيار البديل لفشل حكومة المالكي, وذلك بالسعي لإنشاء كتلة سياسية من داخل البرلمان, ونجاح قيام هذه الكتلة مرهون بقبول أو رضوخ القيادة الكردية للمطلب الأمريكي بالموافقة على الانضمام لهذا التحالف البرلماني الجديد مقابل كتلة الائتلاف التي تصدعت أخيراً بخروج حزب الفضيلة واحتمالات تسرب أعداد غير قليلة من التيار الصدري, لكي تتمكن هذه الكتلة وبدعم أمريكي من تشكيل حكومة تكنوقراط قد يحضر لها الأمريكان رئيساً من خارج الوجوه المعتادة أو التي ثبت فشلها, لتساعد على تخفيف حالة الاحتراب الطائفي، وتعدل من حالة هيمنة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران. وهذه المحاولة عبارة عن تحريك لأحجار الشطرنج بقواعد ذات اللعبة, ولذلك لا يتوقع قبول كتلة الائتلاف الشيعي الحاكمة الرضوخ لهذا السيناريو إذا ما شعرت أنه سيغير من موازين تحكمها بالقرار والسلطة السياسية. وهذا ما صرح به نوري المالكي في آخر مقطع من كلمته في مؤتمر بغداد الأخير, ولعل في إصرار تلك الأحزاب والحكومة على الاحتفاظ بمليشياتها المسلحة, هو جزء من عدة المواجهة في معركة السلطة المقبلة إذا ما تعرضت للمحاصرة السياسية. ومع ذلك فهذا السيناريو الأمريكي إذا ما طبق في صورته المسربة إلى الصحافة لحد الآن لن يحقق حلاً للمأزق السياسي, لأنه لا يعالج جذور المشكلة, وسيبقي على الأركان الأساسية لبنيان العملية السياسية الطائفية وأدواتها وبرامجها النافذة وفي مقدمتها الدستور والقوانين الجائرة, والسياسات التي وفرت بيئة مثالية للإرهاب المتنامي ضد العراقيين, وفتحت أبواب الاحتراب بسبب الغبن المقنن الذي لحق بمكون اجتماعي دون آخر, كما أنه لا يعترف بالأخطاء الكارثية والجرائم التي لحقت بالعراقيين والتخريب الذي حصل للاقتصاد والثروات الوطنية ولا يتوقع له تبني البرنامج الوطني المتمثل بطلب جدولة الانسحاب الأمريكي وإعادة الجيش العراقي, وإلغاء قانون اجتثاث البعث وإعادة المهجرين وإطلاق سراح المعتقلين والأسرى. إضافة إلى احتمال عدم اعتماد هذا السيناريو على مبدأ شراكة القوى الوطنية العراقية والمقاومة المسلحة الفاعلة على الأرض في قيادة العملية السياسية الجديدة المفترضة.
من الصعب تجاوز نتائج الكوارث والمعضلات التي ارتكبها الاحتلال بحق العراقيين, دون ثمن ولهذا على إدارة بوش مسؤوليات تصحيح أخطائها الكبيرة وتحمل بعض الخسائر،قبل وبعد رحيلها العسكري من العراق, ووضع الحلول العاجلة لإعادة الأوضاع إلى صورتها الطبيعية, وذلك بالمبادرة إلى تبني مشروع دولي لحل الأزمة العراقية، تشارك فيه الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي وهي جهات مهيأة لمثل هذا المشروع, يقرر برنامجاً سياسياً للحل لا بد أن ينطلق من أولويات تعطيل العملية السياسية التي أنشئت في العراق بعد عام 2003،ووفق قرارات مجلس الأمن, ورفع الأغطية عن أدواتها التي خربت البلد, والدخول في حوار مع القوى والأحزاب العراقية الوطنية المناهضة للاحتلال والطائفية ومن بينها المقاومة المسلحة, لتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية, بعد امتلاك هذه القوى الاستعدادات التنظيمية والسياسية من حيث توصلها إلى اتفاق على المشروع الوطني والبرنامج الجبهوي والخطة السياسية العملية للخلاص, لا تستثني أية قوة سياسية عراقية تلتزم بثوابت المشروع الوطني, وللأسف الشديد لم تتوصل تلك القوى والشخصيات إلى قيام تلك الجبهة لحد الآن لأسباب ذاتية وتنظيمية غير مبررة. إن هذا التراخي لا يتناسب وحجم الكارثة التي يمر بها العراقيون مقابل ما يتمتع به مشروعا الاحتلال والطائفية من إمكانيات تنظيمية ولوجستية متناسقة في نتائجها على الأرض رغم الخلافات الثانوية الموجودة. إن قوى وأحزاب وشخصيات الحركة الوطنية العراقية مدعوة اليوم إلى الدخول في الخطوة التنفيذية التي تأخر حدوثها كثيراً من أجل قيام تحالف عراقي موحد يتبنى برنامجاً سياسياً عملياً عبر مؤتمر "طائف عراقي" موسع برعاية عربية ودولية, سبق لنا ولغيرنا أن اقترحناه ونتمنى ألا تظل تلك المعوقات الشكلية مانعة لانعقاده، ولإسقاط حجج المعنيين بالملف العراقي القائلة بعدم وجود البديل تداركاً للفراغ السياسي المحتمل، وهي حجة معقولة.. إن هذا المؤتمر قادر على انتخاب هيئة تنفيذية تتفاوض مع المجتمع الدولي والولايات المتحدة على برنامج الخروج من الأزمة الراهنة.


* كاتب وسياسي عراقي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف