جريدة الجرائد

تبنّي الإخوان المسلمين للنموذج التركي مخرج لمصر ولغيرها

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


محمد علي الأتاسي

جاءت التعديلات الأخيرة التي أدخلها الرئيس حسني مبارك على الدستور المصري، وتمت المصادقة عليها من قبل مجلس الشعب ومن ثم من خلال استفتاء شعبي مشكوك في شرعيته، لتقضي على الآمال المتبقية في إمكان أن تقود النخب المصرية الحاكمة (أو بعض منها على الأقل) عملية التحول الديموقراطي السلمي والتدريجي في مصر، ولتعلن استمرار بقاء أهم وأكبر بلد عربي أسير الحجر الديموقراطي المفروض عليه منذ عشرات السنين، وتالياً إبقاء المنطقة العربية برمتها أسيرة هذه المعادلة المغلقة: الاستبداد أو الفوضى.
إن أخطر ما في هذه التعديلات التي تشمل 34 مادة من الدستور، أنها تعطي رئيس الجمهورية الحق في حل مجلس الشعب وتحظر إنشاء الأحزاب على أساس ديني وتحصر الترشيح إلى انتخابات الرئاسة بالأحزاب الممثلة بالبرلمان، و"تدستر" حالة الطوارئ من خلال قانون للإرهاب يسمح بانتهاك الحريات الفردية ويجيز تقديم المدنيين إلى محاكم عسكرية لا تخضع لسيطرة الجسم القضائي. وأخيراً وليس آخراً، فإن هذه التعديلات تقلص من الإشراف القضائي على انتخابات مجلس الشعب، وهذا الأمر هو الأخطر، كونه يلتف على أهم تطور شهدته الانتخابات النيابية المصرية في دورتيها الأخيرتين في 2000 و2005، وأعني به إشراف القضاء المصري على لجان الانتخاب الرئيسية تطبيقاً للحكم التاريخي الذي صدر في 8 تموز 2000 عن المحكمة الدستورية العليا والذي قضى بضرورة إشراف القضاة على الانتخابات، تطبيقاً لنص المادة 88 من الدستور المصري.
لكن بدلاً من الإبقاء على مبدأ إجراء انتخابات مجلس الشعب على ثلاث مراحل ليتمكن الجسم القضائي، المحدود العدد، من الإشراف على العملية الانتخابية برمتها من خلال زيادة إمكاناته لتشمل الإشراف على لجان الانتخاب الفرعية بالإضافة إلى اللجان الرئيسة، فإن التعديلات الجديدة للمادة 88 من الدستور تنص على إجراء الانتخابات في يوم واحد وزيادة عدد لجان التصويت والفرز بما يجعل رئاسة القضاة للجان الفرعية مستحيلة بسبب نقص عددهم، بحيث يجري الاستعاضة عنهم بموظفين وإداريين تابعين لأجهزة السلطة.
لقد حاول النظام المصري في العام 2005، في أعقاب تعديل المادة 76 من الدستور بشكل يسمح بتعدد المرشحين لرئاسة الجمهورية، أن يروج لجديته في المضي قدماً في عملية الإصلاح السياسي، وافتتح الرئيس المصري ولايته الخامسة بخطاب حاول من خلاله مجاراة الضغوط الداخلية والخارجية ووعد أن تكون فترة حكمه الجديدة حافلة بالتحول الديموقراطي الحقيقي. لكن لم تمضِ فترة وجيزة على هذا الخطاب حتى تبين في أي اتجاه ستتم هذه التغيرات، فرئيس "حزب الغد" أيمن نور الذي خولت له نفسه أن ينافس، ولو شكلياً، مبارك في الانتخابات الرئاسية، يقبع اليوم في السجن، في الوقت الذي يتابع فيه ابن الرئيس السيد جمال مبارك صعوده السريع في مؤسسات الحزب الوطني الحاكم، في حين يزداد التضييق السياسي على أحزاب المعارضة الفاعلة وسجن ناشطيها كما حدث اخيراً جماعة لـ"الإخوان المسلمين" وحركة "كفاية".
إن هذا النكوص المصري عن وعود الإصلاح يأتي في ظل ظروف إقليمية ودولية مواتية ومختلفة جذرياً عن تلك التي تلت أحداث الحادي عشر من ايلول 2001. فمع اكتشاف الإدارة الأميركية أن معظم الانتحاريين المشاركين في هذه الهجمات أتوا من السعودية ومصر، الحليفين الأقرب لها في المنطقة، ساد الاعتقاد لدى البعض أن الولايات المتحدة باتت مستعدة للتضحية بالجمود الأزلي للأنظمة الحليفة لها في المنطقة من أجل الدفع في اتجاه إصلاحات حقيقة تسمح بتنفيس الاحتقان السياسي المزمن ضدها وتجنبها غضب الشعوب العربية والمسلمة وكراهيتها.
وإذا وضعنا جانباً الضغوط الاميركية الخجولة التي لاحت في البداية، فإن هذه الأوهام سرعان ما تبددت مع انكشاف الاستخدام الذرائعي لمقولة نشر الديموقراطية من قبل الإدارة الاميركية من أجل غزو العراق وتبرير احتلالها له، وعجزها عن ممارسة الضغوط الحقيقية على حليفتها إسرائيل ومن ثم رفضها السافر للخيارات الديموقراطية للشعب الفلسطيني.
في ضوء هذه المعطيات، لم تعد النخب الحاكمة في مصر تخشى أن ينالها أي ضغط حقيقي من جانب حليفها الاميركي المتورط حتى النخاع في المستنقع العراقي والخائف من تكرار سيناريو فوز "حماس" في بلدان عربية أخرى. لا بل إن هذه النخب باتت تتجرأ على هذا الحليف في مواجهة الانتقادات المبطنة التي قد يوجهها البعض من المسؤولين الاميركيين، كما حدث أثناء الزيارة الأخيرة لوزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس إلى القاهرة وتعبيرها الخجول عن القلق وخيبة الأمل من التعديلات الدستورية الأخيرة. فرداً على رايس، ما كان من وزير الخارجة المصري أحمد أبو الغيط إلا أن صرح أن "مصر لا يمكن أن تقبل أي تدخل في شؤونها من أي من الأصدقاء" مضيفاً بأن "الشعب المصري فقط هو الذي له الحق في إبداء الرأي بشأن الاستفتاء، وإذا لم تكن مصرياً فشكراً كثيراً لك". والطريف في هذا الأمر أن النخب العربية الحاكمة لا تتجرأ على عصيان رغبات راعيها الاميركي، إلا عندما يتعلق الأمر بالدعوة لإجراء إصلاحات سياسية داخلية، عندها تتبارى هذه النخب في إظهار جرعات زائدة من الشجاعة والغيرة الوطنية في مواجهة الطلبات الاميركية المواربة! لقد جرت العادة لدى تقصي أسباب حالة الضعف العربي المزمن، أن تتم الإشارة إلى خروج مصر من معادلة الأمن القومي العربي جراء توقيعها معاهدة "كمب - ديفيد" وما رافقها من محاولة عزل عربية لم تدم طويلاً، وما نتج عنها من التزامات وشروط وحوافز أميركية وإسرائيلية لا تزال مفاعيلها قائمة إلى يومنا هذا. غير أن ما هو أعمق وأشد خطراً في هذا التحول الكبير، كان خروج مصر، الثقافة والسياسة ومختبر الأفكار، عن دورها كقاطرة للحراك العربي لمصلحة ما بات يعرف بالحقبة النفطية، التي كان من علائمها الأساسية خلال الأربعين سنة الماضية، النزوع الدائم نحو التقليد والمحافظة والاستقرار الكاذب وإبقاء الأمور على حالها، والخوف الغريزي من أي دينامية تغييرية فاعلة في المجتمعات العربية.
إن مصر التي كانت في قلب كل دينامية التغيير السياسي والاجتماعي والثقافي في منطقتنا العربية منذ بداية ما سمي عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر، هي اليوم في قلب الاستعصاء السياسي الذي يشل منطقتنا العربية ويقصي شعوبها عن الفعل ويجعلها أسيرة النظم الاستبدادية من جهة والأطماع الاستعمارية من جهة ثانية. أما الوجه الآخر لهذه الثنائية فهو نمو تيارات الإسلام السياسي كفعل احتجاجي أخير في وجه هذه المعادلة المجحفة.
لقد ارتكبت جماعة "الأخوان المسلمين" المصرية في الآونة الأخيرة الكثير من الأخطاء الفادحة، مثل تلهي نوابها الثمانين بمعركة الحجاب مع وزير الثقافة المصري بحثاً عن شعبية رخيصة أو انزلاق جسمها الطالبي إلى استعراضات عسكرية فارغة أو رغبة بعض رموزها بالاستئثار بالعمل المعارض من دون بقية أحزاب المعارضة. ومن المؤسف أن هذه الممارسات تمت بدلاً من تركيز الجهود على معركة التحول الديموقراطي ومنع توريث السلطة وطمأنة التيارات السياسية الأخرى لقبول الجماعة الحقيقي بشروط اللعبة الديموقراطية واحترام الرأي الآخر. لكن بالرغم من كل ذلك، فلا شيء آخر غير دمج جماعة "الأخوان المسلمين" في اللعبة السياسية وشرعنة وجودها وتشجيعها على تبني نموذج الإسلام السياسي التركي وتمكينها حتى من المشاركة بالسلطة وفقاً لشروط محددة، يمكنه أن يخرج مصر، ومن خلفها الكثير من البلاد العربية، من ثنائية الاستبداد أو الفوضى.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف