لبنان وألعاب النفوذ الأميركية في الشرق الأوسط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
روبرت فيسك - الاندبندنت
بينما ينظر الغرب بقلق إلى العراق وأفغانستان، تنفتح صدوع عميقة في لبنان ويبدو البيت الأبيض مصمماً على دعم حكومة فؤاد السنيورة.
مطر الربيع يوقع ضرباته مثل الكرات الصغيرة على السقف المنبسط لمكتب الجنرال كلاوديو غرازيانو. وقد بدا الكثير من الجنوب اللبناني أشبه ببحيرة من الوحل هذا الأسبوع، لكنه كله ظل يمثل تفاؤلاً وإشراقاً بالنسبة للقائد الإيطالي لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، والتي بلغ عددها الآن 11000، والذي ما يزال ينتظر أن تضيف كوريا الجنوبية حصتها إلى جيشه المدهش المكون من تسع وعشرين دولة. لم يتذكر كيف أن الوحدة الفرنسية كادت تطلق النار على نفاثة إسرائيلية في السنة الماضية، فقد كان ذلك قبل ولايته. كما أغفل إطلاق النار الذي جرى على الحدود في الشهر قبل الماضي بين القوات الإسرائيلية واللبنانية.
لم تكن هناك أي تهديدات يعتد بها قد توجهت إلى قوات اليونيفيل، كما أصر رجل الأمم المتحدة في جنوب لبنان، رغم أنني لاحظت توقفه لبرهة قبيل أن يجيب على سؤالي. وقد أصبحت قواته الآن معززة بحوالي 9000 من القوات اللبنانية التي تجري أعمال الدورية على الحدود اللبنانية الإسرائيلية. كان هناك بعض الحديث الغامض عن "تهديدات إرهابية... مرتبطة بالقاعدة. -نادراً ما يستخدم جنرالات الأمم المتحدة كلمة "إرهاب"، لكن غرازيانو يظل أيضاً جنرالاً في الناتو-، ثم لا مصاعب أخرى. نعم، لقد أبقته المخابرات العسكرية اللبنانية على اطلاع مباشر. وهكذا، فإن الجنرال الطيب لا بد وأنه قد أصيب بصدمة عندما أعلن وزير الداخلية اللبناني حسن صبيح أواسط الشهر الماضي أن قوات الأمن الداخلي اللبنانية قد اعتقلت أربعة عناصر سوريين ينتمون إلى "جماعة إرهابية فلسطينية" مرتبطة بالقاعدة، ويعملون لحساب جهاز الاستخبارات السوري، والذين قيل إنهم كانوا مسؤولين عن تفجير قنابل في حافلتين لبنانيتين صغيرتين في الثالث عشر من شباط الماضي، مما أفضى إلى قتل ثلاثة مدنيين وجرح عشرين آخرين.
الآن ينبغي القول بأن هناك الكثير من الشكوك تدور حول هذه القصة. ليس لأن سوريا نفت قطعياً أي صلة لها بالتفجيرات في لبنان، ولكن لأن بلداً لم يستطع طوال ثلاثين عاماً أن يحل لغز أي عملية اغتيال سياسي، وبحيث لا يصدق أن تستطيع الشرطة المحلية أن تحل هذه القضية بالذات، وهو تفسير مناسب أيضاً لأن حكومة السيد صبيح المؤيدة لأميركا تستمر باتهام سورية بكل شيء وحشي يجري في لبنان. ووفق الحكومة اللبنانية، أو لواحد من تلك المصادر المجهولة التي تعشقها الصحافة، فإن الرجال المعتقلين كانوا يخططون أيضاً لشن هجمات على قوات اليونيفيل وكانت لديهم خرائط لطرق دوريات قوات الأمم المتحدة في جنوب البلاد. وتكشف الرحلة على طول خط الحدود مع إسرائيل عن أن الأمم المتحدة لا تتجشم أي مخاطر، حيث تمتد أميال من الأسلاك الشائكة وجدران إسمنتية بارتفاع 20 قدماً لحماية الكثير من وحداتها.
أنشأ الإيطاليون، شأنهم شأن أقرانهم من الفرنسيين، "مناطق خضراء" صغيرة -ويبدو أننا نحن الغربيين نفعل ذلك في كل أنحاء الشرق الأوسط- حيث تطلب الشرطة العسكرية هويات مصورة حتى من أكثر الصحافيين تواضعاً. وهذه وحدات قتالية متكاملة بدروعها ودباباتها الخاصة، رغم أن أحداً ما لا يفسر لي الآن تحت أي ظروف يمكن استخدام الدبابات، وأنا أشك بأن أحداً لا يعرف. إنهم بالتأكيد لن يطلقوا النار على الإسرائيليين -وإلا إذا ما أرادوا أن يخوضوا الحرب إلى جانب حزب الله- فإنني لا أستطيع تخيل أن دبابات ليكليرك الفرنسية سوف تطلق النار على أكثر مقاتلي العصابات في الشرق الأوسط انضباطاً.
لكن اليونيفل، سواء أحببت ذلك أم لا، لا تتمركز فقط على جانب واحد من الحدود، الجانب اللبناني، وعلى الرغم من علاقاتها المتحسنة باطراد مع السكان الشيعة المحليين -حيث يقوم فتيان الأمم المتحدة بتوزيع هبات نقدية لتحسين الطرق وشبكات المياه، أو "المشاريع سريعة التأثير" كما تدعي في حديث الأمم المتحدة المريع عن جنوب لبنان- فإن هناك القليلين جداً من اللبنانيين الذين لا يرون إليهم على أنهم قوات فصل لحماية إسرائيل. ولا ينص قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الصادر في السنة الماضية على ذلك، ولكنه يدعو إلى "نزع أسلحة كافة الجماعات المسلحة في لبنان." وكانت هذه العبارة، بالطبع، قد قوبلت بالموافقة المتحمسة من جهة الولايات المتحدة. لأن "الجماعات المسلحة"، تعني "حزب الله".
إن الحقيقة هي أن واشنطن قد أصبحت الآن أكثر تورطاً وعلى نحو أعمق في الشؤون اللبنانية مما يدرك معظم الناس، بما فيهم اللبنانيون أنفسهم. وفي الحقيقة، فإن هناك خشية من أن الحكومة الأميركية -بينما تواجه تجربتها "الديمقراطية" الكارثية في العراق، إنما تحاول الآن التطلع إلى لبنان لتحسين قدرتها على تصدير الديمقراطية إلى الشرق الأوسط. ولعل من الغني عن القول أن الأميركيين والبريطانيين كانوا كرماء في تزويد الجيش اللبناني بأي معدات، بالجيبات ومدرعات الهامفي وأدوات مكافحة الاضطرابات (لتستخدم ضد من؟ أنا أتساءل) بل وقد كان هناك تقرير سرعان ما نُفي بسرعة يقول إن وزير الدفاع ميشيل المر سوف يختار بعض الطائرات العمودية المطلقة للصواريخ بعد زيارته الأخيرة إلى واشنطن. ويسأل المرء نفسه ثانية: على من ينبغي لهذه الصواريخ الأسطورية أن تُطلق؟
إن أي زعيم لبناني، كما يبدو الآن، إنما يوجه وجهه شطر واشنطن. ووليد جنبلاط، اللماح، الأكثر نهلستية والأكثر ذكاء بطرق كثيرة، هو أيضاً من بين أكثر المشهر بهم. وكان قد حرم من تأشيرته لدخول الولايات المتحدة حتى عام 2005، لأنه قال بشكل قاس إنه تمنى لو أن قذيفة مورتر أطلقها المتمردون العراقيون على "المنطقة الخضراء" في بغداد قد قتلت باول وولفويتز، الذي كان حينذاك مساعداً لوزير الدفاع. ولكن لا تخافوا. ذلك أن لبنان العجوز المسكين ما دام سيصبح آخر النجوم في سياسة الولايات المتحدة الأميركية، فقد جرى نقل جنبلاط إلى الولايات المتحدة لإجراء مقابلة بطول 35 دقيقة مع الرئيس جورج بوش -وهي فترة تقل 10 دقائق فقط عن تلك التي حظي بها رئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت- كما التقى أيضاً بكوندي رايس، وديك تشيني، ووزير الدفاع غيتس، والرجل الأكثر إقلاقاً إلى حد ما، ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي الأميركي. وهناك معجبون لبنانيون بجنبلاط ممن كانوا يسائلون أنفسهم عما إذا كانت خطبه المسهبة العنيفة الأخيرة عن سورية وحزب الله المناوئ للحكومة اللبنانية، ناهيك عن ذكر مقابلاته في واشنطن-، إذا لم تكن تلك مخاطرة بحفر قبر جديد في مقابر لبنان التي لا تني تتسع. رجل شجاع هو جنبلاط. رغم أن القول بأنه رجل حكيم سيظل مفتوحاً لحكم التاريخ.
لكنه ذلك الدعم الأميركي لحكومة فؤاد السنيورة -والتي يشكل جنبلاط حجر زاوية فيها- هو الذي يقلق اللبنانيين. فبوجود الشيعة خارج الحكومة ضد إرادتهم، فإنه يحتمل كثيراً أن تعتبر حكومة السنيورة، كما يقول الرئيس إميل لحود الموالي لسورية، غير دستورية. وكانت الطبيعة الطائفية للسياسة اللبنانية قد عادت إلى الحياة بعنف في كانون الثاني الماضي برجم الحجارة ونشوب معارك إطلاق النار في شوارع بيروت.
لأن العراق وأفغانستان حظيتا بانتباه الغرب الغامر مذ ذاك، فإن هناك مع ذلك نزوعاً إلى إهمال المؤشرات المستمرة والخطرة لتنامي النزعة الطائفية في لبنان. ففي ضاحية طارق الجديدة السنية في أغلبها في بيروت، غادرت العديد من العائلات الشيعية لقضاء "إجازات" غير مرتب لها. كما أن الكثير من السنة لن يعودوا يتسوقون من المحلات الكبيرة الأرخص في ضاحية "الضاحية" الجنوبية التي تقطنها أغلبية شيعية. أما الأكثر خطورة، فهو أن قوات الأمن اللبنانية قد أرسلت إلى بلدة عنجر الأرمنية المسيحية في سهل البقاع بعد أن تم العثور على منشورات في أحد أطراف المدينة، والتي تدعو قاطنيها إلى "مغادرة أراضي المسلمين". وغني عن القول أن أي تقارير لم تظهر عن هذا التطور الخطير في الصحافة اللبنانية.
كانت بلدة عنجر قد منحت في الحقيقة إلى الأرمن من قبل الفرنسيين بعد أن كانوا قد أرغموا على مغادرة مدينة الاسكندرونة عام 1939 -وكان الفرنسيون قد سمحوا بإجراء استفتاء زائف هناك ليمكنوا الأتراك من تولي الأمور على أمل يائس بأن أنقرة ربما تقاتل هتلر- ويحتفظ مواطنو عنجر بألقابهم. لكن تسلمهم تهديدات بأنهم سوف يتعرضون إلى تطهير عرقي من منازلها، تشكل بالنسبة للأرمن تذكيراً مريعاً بتعرضهم للإبادة الجماعية على أيدي الأتراك عام 1915. ولبنان تحب سكانها الأرمن الصناعيون وذوي التعليم العالي الممثلين أيضاً في البرلمان. ولكن أن تمسهم مثل هذه الكراهية الآن إنما يشكل شاهداً محبطاً على هشاشة الدولة اللبنانية.
صحيح أن سعد الحريري، الابن السني لرئيس الوزراء اللبناني السابق المقتول رفيق الحريري، كان يجري مباحثات مع نبيه بري، المتحدث باسم الشيعة في البرلمان، وأن السعوديين كان يتحدثون إلى الإيرانيين والسوريين حول "حل" للأزمة اللبنانية. كما أن السنيورة -الذي كان قد عين في منصبه ولم ينتخب- يبدو مستعداً تماماً لتوسيع التمثيل الشيعي في وزارته ولكن ليس على حساب منحهم حق الاعتراض على قراراته. وأحد هذه القرارات هو إصرار السنيورة على استمرار الأمم المتحدة في عقد المحاكمة الدولية المتعلقة بمقتل الحريري، والتي تعتقد كل من الحكومة اللبنانية وواشنطن بأنه من فعل السوريين.
ومع ذلك، فإن الصدوع تظهر. ففرنسا اليوم لم يعد لديها مانع من إجراء محادثات مباشرة مع دمشق، كما أن خافير سولانا قد ذهب إلى هناك ليطلب من الرئيس بشار الأسد مساعدة سورية من أجل تحقيق "السلام، والاستقرار والاستقلال" للبنان. فأي ثمن تشكله المحكمة الدولية إذا ما وافقت سورية على تقديم المساعدة؟ يقول وزراء الأسد فعلياً إنه إذا وجد أن هناك مواطنين سوريين متورطون في مقتل الحريري، فإنه ينبغي أن تتم محاكمتهم في المحاكم السورية -وهو شيء لا يسوغ نفسه ليروق لا للبنانيين ولا للأميركيين.
وفي الغضون، يمكن للسنيورة الآن أن يستظل بحقيقة أن الإدارة الأميركية بعد أن طلبت من الكونغرس الموافقة على تقديم 770 مليون دولار لحكومة بيروت للإيفاء بالتزاماتها في مؤتمر باريس الثالث للمانحين، فإن لبنان سيكون آخر أكبر ثلاثة متلقين للمساعدات الأميركية بالنسبة للفرد من السكان. كم من ذلك سوف يتم إنفاقه على الجيش اللبناني، لا نعرف ذلك حتى الآن. وكان السنيورة، بالمناسبة، قد منع من دخول الولايات المتحدة بسبب منحه القليل من أموال الصدقة الإسلامية كان قد قام بها قبل عدة سنوات إلى تجمع بيروتي كان قد استضافه السيد حسين فضل الله، والذي كانت وكالة المخابرات المركزية الأميركية قد حاولت قتله عام 1985 بسبب صلاته المزعومة بحزب الله. والذي بات الآن بطلاً أميركياً.
كل ذلك يجري لصالح حزب الله. فهما كان قائده السيد حسن نصر الله موالياً مخلصاً لإيران (أو سوريا)، وكلما بات ينظر أكثر إلى حكومة الأغلبية التي يرأسها السنيورة على أنها رهينة لأميركا، كلما ازداد عمق الشقاق السياسي والاجتماعي في لبنان. ويمكن للبعض أن يطلقوا عنان خيالهم إزاء الفرص الأميركية. وكان ديفيد شينكر من "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" قد قال مؤخراً "إن الدعم الدولي للحكومة اللبنانية سوف يفعل الكثير من أجل تقدم قضية الديمقراطية والمساعدة في تجنب الحرب الأهلية". وأضاف "...إن إدارة بوش قررت بحكمة أن لا تهمل اللبنانيين تحت رحمة إيران وسوريا، وهو ما يمثل تقدما هاماً باتجاه ضمان نجاح الحكومة."
ما كنت لأكون واثقاً كثيراً إزاء ذلك. ففي أي مكان دعمت في واشنطن "الديمقراطية" في الشرق الأوسط مؤخراً، فإن جهودها قد تحولت إلى كابوس -رغم أنها تخلت بسرعة عن لبنان في حربها الملوثة بالدماء في الصيف الماضي على أساس الافتراض السخيف بأنه يمكن لها عن طريق تأجيل وقف إطلاق النار أن تمكن إسرائيل من سحق حزب الله. والآن بتنا نعلم أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت كان قد خطط مسبقاً للحرب ضد لبنان في حال وقوع جنوده أسرى بيد حزب الله. ويستطيع نصر الله أن يحتفظ بجيشه بوصفهم مدافعين عن لبنان أكثر من كونهم مثيرين لنزاع كلف اللبنانيين ما لا يقل عن 1.300 من المدنيين. ويبدو ذهاب كل المسافة إلى واشنطن لإنقاذ لبنان طريقة غريبة في السلوك. لأن الإجابات تكمن هنا، وليس في الولايات المتحدة. وكما قال لي أحد الأصدقاء ملخصاً المسألة "إذا ما أصبت بألم شديد في الأسنان، فإننا لا أحجز لنفسي في عيادة في بوسطن وأطير عبر الأطلسي - إنني أذهب إلى طبيب أسناني في بيروت."