جريدة الجرائد

القذافي أيضاً..! مع الاعتذار للقراء

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


غسان الإمام


أبادر أولاً لأقدم اعتذاري إلى القراء عن الأخطاء اللغوية والإملائية الفادحة في موضوع نشرته في هذه الجريدة يوم الخميس الفائت، عن مقاطعة القذافي لقمة العرب في الرياض. لا أدري لماذا اخترت الكتابة بخط اليد، ربما كسلاً. الخط المستعجل وضيق الوقت تسببا في الأخطاء المحرجة والموجعة لي. وفي مقدمتها ما فُهم من النص عن اغتيال كمال جنبلاط. والواقع ان القذافي "تسبب" في اغتياله، بعدما عاد الراحل الكبير عن تأييده "للوثيقة الدستورية" التي طرحتها سورية كحل سياسي ينهي الحرب الأهلية. ومن مفارقات السياسة العربية أن جنبلاط مات عقوبة له على موقفه المؤيد لاستمرار الحرب، فيما اختفى الزعيم الشيعي موسى الصدر خلال زيارته لليبيا (وليس كما ورد في النص انه اختفى بعد الزيارة) لأنه رفض المضي في الحرب التي مولتها ليبيا بسخاء، إلى أن أنهاها اتفاق الطائف الذي رعته السعودية. أنا من أنصاف المتفائلين. أُؤمن بأن الله، جلت معرفته وحكمته، قد يغفر لي أخطاء السهو التي ارتكبتها في حياتي. لكن عباد الله لم يغفروا لي أخطائي في الصحافة. لو درست الحقوق والقانون لما ارتكبت خطأ نشر خبر عن "إفلاس" رجل أعمال كبير. كنت في بداية عملي في الصحافة. كنت أحسب أن الصحافي وليس القاضي هو الذي يصدر الحكم بالإفلاس.

كانت سورية في تلك الأيام البعيدة دولة فيها قانون وأنظمة وقضاء نزيه. أقام الرجل المتضرر دعوى على الصحيفة اليومية التي أحررها. بعد أيام، رأيت المدير المسؤول يدخل السجن بحكم قضائي. ومن سوء الحظ أن المدير المسؤول كان صاحب الجريدة نفسه. سأذكر ما حييت مشهدا لا أنساه. كنت أقف على مقربة من الرئيس شكري القوتلي في حفل رسمي عام. فجأة رأيت الرئيس الراحل يستدير ويدعو بصوته الجهوري رجل الأعمال صاحب الدعوى القضائية الذي كان حاضرا الحفل: "تعال يا فلان، لماذا لا تسقط حقك عن فلان؟ أليس من المعيب أن يظل صحافي في عهدي خلف القضبان؟".

لو أن رئيسا في هذه الأيام دعا رجل أعمال متضرراً لإسقاط دعواه في مثل هذه الحال، فهل يجرؤ على الرفض؟ اقترب الرجل من الرئيس، وقال له بصلافة العجرفة: "سيدي الرئيس، لو أن فلاناً ذبح أولادي الثلاثة على ركبتي، لما ألحق بي الضرر الذي ألحقه الخبر. لقد تضررت سمعتي ومكانة أعمالي الممتدة من هونكونغ وعدن الى لندن". سكت الرئيس الطيب. لم يضع رجل الأعمال في السجن. لم يهدده. لم يصادر تجارته. فقد كانت سورية آنذاك دولة القانون والحقوق والاحترام. ترك الرئيس القوتلي بحكمته وصبره للوساطات الحميدة أن تتابع القضية، الى أن خجل رجل الأعمال وأسقط حقه ودعواه. كنت قد بدأت عملي في الصحافة مصححا. وكنت مصححا فاشلا. لو نجحت في التصحيح لما أصبحت صحافيا. عملت في شبابي في صحف كثيرة، لكن لاحقني نحس الأخطاء الصحافية. سها المصحح عن خبر استبدل فيه عامل الصف اليدوي حرف الشين بحرف الضاض في كلمة "مدير الشرطة". ولم ينقذنا من مدير الشرطة سوى نقله المفاجئ، بعد حملة نيابية عليه لقسوته في التعامل مع تظاهرة سلمية. عملت فترة في صحيفة "الأيام" كبرى الصحف الدمشقية وأكثرها عراقة واتزانا. سهوت أنا والمصحح عن تصحيح برقية تهنئة لقائد الجيش. صدرت "الأيام" في اليوم التالي والمهنئون يقولون للقائد: "سدد الله خطاياكم" بدلا من "خطاكم"، ولك عزيزي القارئ، أن تتصور كيف يمكن حل الإشكال مع عسكري بصعوبة وعناد الفريق عفيف البزري.

اتصل بي نصوح بابيل صاحب "الأيام". كان رحمه الله رجلا خجولا وفاضلا. قال لي: "أنا في المخبأ. لن أنزل الى المكتب". وظل بابيل مختبئا الى أن اقتنع قائد الجيش بأن الخطأ سهو عرضي، ولم يكن "مؤامرة انقلابية". ما لبثت "الأيام" أن وقعت في سهو ظريف لكنه مخيف. لا أدري ماذا فعل الصحافي المؤدب نصوح بابيل. فقد كنت تركت العمل في صحيفته الى صحيفة أخرى. في أول زيارة للرئيس عبد الناصر الى سورية، خرجت "الأيام" بعنوان / مانشيت عريض تقول فيه: جماهير الشعب والوزراء والدواب يستقبلون عبد الناصر" وتقبل عبد الناصر خطأ السهو من "النواب" بتسامح فيه خفة الدم المصرية: "هُوَ أنا مش عارف أن الدواب عندكو يستقبلوا الرؤساء". ثم ما لبثت أن وقعت ضحية لخطأ السهو عن التصحيح، خطأ لم أرتكبه، ولم أكن مسؤولا عنه. فقد كان الدكتور عزة النص مرشحا قويا لتشكيل أول حكومة في سورية بعد الانقلاب على دولة الوحدة. وكان النص مثقفا تربويا وأديبا ومعلما فاضلا. ورأى عسكر الانقلاب في محافظته ويمينيته ما يكفي لترشيحه للمنصب، على الرغم من أنه لم يكن سياسيا محترفا. رغب الدكتور النص في أن يزكي ويعرف السوريين بنفسه. كتب الرجل مقالة واختار أن ينشرها في صحيفة "الوحدة" التي استولى عليها الانقلابيون. تشاء المصادفات أني كنت نائبا لرئيس التحرير ورئيسا لقسم الأخبار في هذه الصحيفة الكبيرة التي أصدرها عبد الناصر في سورية.

وبالفعل صدرت "الوحدة" وهي تحلي صدر صفحتها الأولى بمقالة بقلم: الدكتورة عزة النص. حرصُ الدكتور النص على اللغة العربية وضعه في مأزق محرج ومضحك أمام السوريين. انطلقت الشائعات والدعابات اللاذعة عن ضرورة فحص الدكتور النص للتأكد من فحولته. ولم يكن ذنبه سوى أنه كتب اسمه بلغة صحيحة بالتاء المربوطة، وليس بالتاء المفتوحة، كما تُكتب هذه الأيام خطأ أسماء عزت ونصرت وطلعت... لكن الخطاط ظن الدكتور أنثى، فتبرع من عنده باضافة التاء الأنثوية أيضا على لقب الدكترة. مر خطأ السهو على سكرتير التحرير والخطاط والمصححين. خاف الجميع. كانت دبابات الانقلابيين في الشارع. الوفاء في مهنة الصحافة "ًمعروف". لم يجد الزملاء سواي يحملونه المسؤولية "المتعمدة" في الايقاع بالدكتور النص. وكنت من المغضوب عليهم لدى الانقلابيين. فقد كنت مشبوها عندهم باعتباري سكرتيرا لنقابة الصحافة السورية في عهد الوحدة. وهكذا، كنت أول صحافي يُسَرَّح في سورية بعد سقوط الوحدةmiddot; لم أتلق تعويضا. منعت من العمل في الصحافة، إلى ان سقط الانقلابيون بانقلاب البعثيين والناصريين (1963). جاء صديقي صلاح البيطار رئيسا لحكومة الانقلاب الجديد.

وكنت قد ساعدته في إعادة إصدار صحيفة "البعث" في عهد الانفصال، بتزويده بالأخبار والأسرار وبعمال الصف والطباعة والخطاطين. ألحق صديقي رئيس الحكومة صحافيي الانفصال بصحف الحزب والدولة ووكالة الأنباء الرسمية. ثم أغلق الصحيفة التي أعمل فيها، ومكتب وكالة الأنباء التي أراسلها! لم أحتج. لم أذهب إليه شاكيا أو متوسلا. آثرت أن أخرج من بلدي صامتا. بعد سبعة عشر عاما، لحق بي صلاح البيطار إلى باريس شاكياً. نسي أخطاء "السهو" في الماضي. عاد ليطالبني بمساعدته في إصدار صحيفته الجديدة "الإحياء العربي". كالعادة قدمت له ما طلب، من محررين وكتاب وعمال كومبيوتر. ثم مات صلاح البيطار قتيلا برصاصة أودعها في رأسه النظام الذي كان زعيما لحزبه وأول رؤساء حكوماته. مات صديقي البيطار نتيجة أخطاء "السهو" القاتلة التي ارتكبها في صحيفته الجديدة. أنستني أخطاء السهو في حياتي "السهو" الكبير في حياة العرب.

بعد مسرحيته على "تياترو الجزيرة"، خرج القذافي على خشبة مسرح أقامه لقبائل وعشائر "شمال افريقيا" الذي كان عنده قبل "صرعة" الأفرقة "المغرب العربي"، ليطالب عرب المغرب بالتخلي عن المذهب السني، واعتناق المذهب الشيعي، شاكراً لإيران تفضلها على العرب والمسلمين باعتناق المذهب الشيعي، تشيعا "لآل البيت". ثم يطالب بعد تشييع المغرب بإعلان الجهاد لاستعادة "الدولة الشيعية الفاطمية". القراءات المشوشة أوقعت "المفكر" القذافي في العجز عن تشكيل موقف "عقائدي" ثابت ومستقر. من اختراع نظرية "ثالثة" في عصر الآيديولوجيات السياسية، الى اختراع مذهب ديني في عصر الآيديولوجيات الدينية. يقع القذافي في خطأ السهو. المذهب الشيعي الجعفري لا يعترف بتشيع المذهب الاسماعيلي الذي كان مذهب الدولة الفاطمية. وكم ذا في القذافي من مضحكات، لكنه ضحك كالبُكا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف