المهمة العالمية للاتحاد الأوروبي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جوزيف ستيجليتز ـ بروجيكت سنديكيت
في بعض الدوائر، خيّم جو من التشاؤم على الاحتفالات التي أقيمت أخيرا بمناسبة مرور خمسين عاماً على ميلاد الاتحاد الأوروبي. إن عدم الارتياح بشأن مستقبل الاتحاد الأوروبي أمر مفهوم بطبيعة الحال، وبصورة خاصة نظراً لعدم اليقين المحيط بالجهود الرامية إلى إحياء المعاهدة الدستورية. إلا أن المشروع الأوروبي حقق نجاحاً هائلاً، ليس فقط بالنسبة إلى أوروبا، بل وأيضاً بالنسبة إلى العالم أجمع.
لا ينبغي للأوروبيين أن يفزعوا من المقارنات بين معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في أوروبا، وبين نظيراتها في الولايات المتحدة على سبيل المثال. مما لا شك فيه أن أوروبا تواجه تحديات عظيمة فيما يتصل بإتمام اتحادها الاقتصادي والوصول به إلى مرتبة الكمال، بما في ذلك الحاجة إلى تقليص معدلات البطالة ودعم النشاط الاقتصادي. ولكن على الرغم من أن نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة كان في ارتفاع أخيرا، إلا أن أغلب الأمريكيين أصبحوا اليوم في حال أسوأ مما كانوا عليه منذ خمسة أعوام. والاقتصاد الذي يخلف مواطنيه، عاماً بعد الآخر، في حال أسوأ، ليس بالاقتصاد الناجح.
والأهم من ذلك أننا لا ينبغي أن نقيس نجاح الاتحاد الأوروبي بتشريعات أو تنظيمات معينة، أو حتى بالرخاء الذي جلبه التكامل الاقتصادي. ذلك أن الدافع الذي حرك مؤسسي الاتحاد الأوروبي كان تحقيق السلام الدائم. وكان من المرجو أن يؤدي التكامل الاقتصادي إلى قدر أعظم من التفهم المعزز بعدد لا يحصى من التفاعلات التي لابد أن تنبع من التجارة. فضلاً عن ذلك فإن ازدياد الاعتماد المتبادل من شأنه أن يجعل من الصراع أمراً غير وارد.
لقد أدرك الاتحاد الأوروبي ذلك الحلم. فلا يوجد أي مكان في العالم غير أوروبا، حيث يعيش الجيران معاً في سلام، وحيث يتحرّك الناس بقدر أكبر من الحرية وبقدر أعظم من الأمان. ويرجع ذلك في جزء منه إلى الهوية الأوروبية الجديدة غير المقيدة بالهوية الوطنية. وكل هذا يقف كمثال لا بد أن يقتدي به بقية العالم ـ حيث الحقوق والمسؤوليات مشتركة، بما في ذلك الالتزام بمساعدة الأقل حظاً. وهنا أيضاً كانت أوروبا في المقدمة، فقدمت القدر الأكبر من المساعدة إلى الدول النامية، مقارنة بأي جهة أخرى (وبحصة من ناتجها المحلي الإجمالي أعلى من نظيرتها التي تخصصها الولايات المتحدة للغرض نفسه).
لقد واجه العالم فترة عصيبة أثناء الأعوام الستة الماضية. فقد أصبح الالتزام بالتعددية الديمقراطية موضعاً للتحدي، كما أبطلت الحقوق التي كانت مضمونة طبقاً للمعاهدات الدولية، مثل المعاهدة ضد التعذيب. ولقد برزت في تلك الفترة دروس عديدة، بما في ذلك مخاطر الغطرسة ومحدودية القوة العسكرية، والحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب.
إن أوروبا، صاحبة أكبر تعداد سكاني في العالم بعد الصين والهند، وصاحبة أضخم ناتج محلي إجمالي في العالم، لابد أن تعمل كواحد من الأعمدة المركزية التي يقوم عليها مثل هذا العالم، وذلك من خلال إبراز أهمية ما اصطلح على تسميته بالقوة الناعمة ـ قوة ونفوذ الأفكار والمثل. والحقيقة أن نجاح أوروبا يرجع جزئياً إلى ترويجها لمجموعة من القيم الأوروبية في الأساس، إلا أنها عالمية في ذات الوقت.
والديمقراطية تمثل واحدة من أكثر هذه القيم جوهرية. وهذه الديمقراطية لا تعني الانتخابات الدورية فحسب، بل إنها تعني أيضاً المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار، الأمر الذي يتطلب وجود مجتمع مدني نشط، وقواعد قوية راسخة في التعامل مع حرية المعلومات، وإعلام نابض بالحياة والتنوع ولا تسيطر عليه الدولة أو قلة حاكمة.
القيمة الثانية هي العدالة الاجتماعية. إن أي نظام اقتصادي أو سياسي يحكم عليه بمدى قدرة الأفراد في ظله على الازدهار وتحقيق إمكاناتهم. فنحن كأفراد نشكل جزءاً من دائرة متواصلة الاتساع من المجتمعات، ولا نستطيع تحقيق إمكاناتنا إلا إذا عشنا في انسجام, وهذا بدوره يتطلب حساً بالمسؤولية والتضامن.
لقد عبّر الاتحاد الأوروبي بقوة عن ذلك الحس بمساعدته لدول ما بعد الشيوعية في أوروبا. فلم يكن التحول من الشيوعية إلى اقتصاد السوق بالأمر السهل اليسير، إلا أن الكرم الأوروبي غير المسبوق خلف آثاراً في غاية الإيجابية: فقد تفوقت الدول التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي على الدول الأخرى كافة في الأداء الاقتصادي. ولم يكن هذا النجاح راجعاً إلى القدرة على الوصول إلى الأسواق الأوروبية فحسب، بل إن السبب الرئيسي وراء هذا النجاح يتلخص في إصلاح تلك الدول بنيتها المؤسسية، بما في ذلك الالتزام التام بالديمقراطية والنطاق الضخم من القوانين والتنظيمات التي كثيراً ما نعتبرها من الأمور المسلم بها.
إن جزءاً من نجاح أوروبا يرجع إلى إقرارها أن حقوق الأفراد عالمية وغير قابلة للنزاع، كما يرجع إلى المؤسسات التي أنشأتها لحماية هذه الحقوق. أما أمريكا، وعلى النقيض من ذلك، فقد شهدت هجمة مكثفة على هذه الحقوق، بما في ذلك الحق في الاعتراض على الاحتجاز أمام قاضٍ مستقل. فهناك على سبيل المثال نجد تمييزاً بين حقوق المواطنين وغير المواطنين.
اليوم تستطيع أوروبا وحدها أن تتحدث بمصداقية عن قضية حقوق الإنسان العالمية. ومن أجل مصلحتنا جميعاً لا بد أن تستمر أوروبا في رفع صوتها عالياً، وبقوة أشد من أي وقت مضى، في الدفاع عن هذه الحقوق.
على نحو مماثل، وبينما يسعى المشروع الأوروبي إلى تحقيق "التناغم والانسجام" بين شعوب تتعايش في سلام، فلابد أن نسعى أيضاً إلى الحياة في تناغم وانسجام مع بيئتنا ـ التي تشكل أكثر مواردنا ندرة. وفي هذا المجال أيضاً كان لأوروبا السبق، وبصورة خاصة فيما يتصل بالاحتباس الحراري لجو الأرض، فأثبتت أن الأنانية التافهة لابد أن تنحى جانباً حين يتصل الأمر بتحقيق المصلحة المشتركة للعالم أجمع.
إن عالم اليوم يواجه أيضاً العديد من الإخفاقات. فعلى الرغم من أن التكامل الاقتصادي ساعد على تحقيق مجموعة أعرض من الأهداف في أوروبا، إلا أن العولمة الاقتصادية أسهمت في أماكن أخرى من العالم في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء داخل البلدان وبين الدول الغنية والدول الفقيرة.
إن الوصول إلى عالم أفضل ليس بالأمر المستحيل. ولكن يتعين على أوروبا أن تحمل مشعل الريادة من أجل تحقيق هذه الغاية العزيزة.
جوزيف إي. ستيجليتز حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد. وكان آخر كتاب من مؤلفاته بعنوان "إنجاح العولمة".