التطهير العرقي الجديد في كركوك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت 7 أبريل 2007
د. صالح عبد الرحمن المانع
وافقت الحكومة العراقية في الأسبوع الماضي على قانون جديد يقضي بترحيل العائلات العربية من مدينة كركوك العراقية إلى مدن ومحافظات أخرى في الجنوب، "وتشجيعهم" على ذلك بمنحهم 15.000 دولار وقطعة أرض في جنوب العراق، مقابل نزوحهم من المدينة. ويعدّ هذا القرار توطئة لاستفتاء سوف يعقد في نهاية هذا العام يقرر مصير هذه المدينة النفطية الغنية، وهل ستتبع الإقليم الكردستاني وحكومته شبه المستقلة في الشمال، أم ستكون جزءاً من بقية الوطن العراقي.
والحقيقة أن تحالف الأحزاب الكردية والطائفية الذي قدم من إيران عقب الغزو الأميركي للعراق، وآلية الغزو نفسه قد نجحت في إذابة الجسد السياسي في العراق، وتحطيم بنى المجتمع الذي كان موحداً فيما مضى، وغدا اليوم وطناً مقسماً يتخبط أبناؤه في دوامة عنف ومجازر يومية لا نهاية لها.
ومنذ بدأت أحزاب المعارضة العراقية تخطط في المنفى مع مندوبي وزارة الخارجية الأميركية عام 1992 في اجتماعها الشهير في فينيا، فإن هذه الأحزاب كان مطلوباً منها أن تكون أحزاباً طائفية تمثل فقط فئة معينة من أبناء الشعب العراقي، وليس أحزاباً شعبية وطنية تمثل جميع أبناء العراق. وهكذا من ناحية هيكلية كان المطلوب ليس فقط إسقاط نظام صدام حسين، ولكن إحلال نظام طائفي ومذهبي جديد يسعى إلى تقسيم الوطن الواحد، والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد. وعلى رغم إعطاء الزعماء الأكراد مناصب رفيعة في النظام السياسي الجديد، ومنها منصبا رئيس الجمهورية ووزير الخارجية، فإن هذا لم يكن كافياً لإبقاء كردستان داخل المظلّة العراقية. وإنما نص الدستور على بقاء الحكومة المحلية في كردستان، والموافقة على جميع قوانينها التي سنتها منذ عام 1991 وحتى الوقت الحاضر.
والعجيب أن الدول العربية لم تكترث حتى الآن لعملية الترحيل الجماعي لسكان مدينة كركوك، وللعشائر العربية التي تسكن هذه المحافظة. ويبني الأكراد حجتهم في ترحيل العشائر العربية، بأن هذه العشائر قد وفدت من جنوب العراق، فهي "دخيلة" على المدينة وأهلها. وقد حاولوا أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة لسكانها التركمان، إلا أن الحكومة التركية قد وقفت تدافع عن حقوق التركمان في المدينة، ليس فقط حباً وحماية لهم، ولكن كذلك لتحرم الإقليم الكردي الشمالي، الذي يوشك على الانفصال عن الحكومة المركزية في بغداد، من حقول النفط الضخمة في كركوك، ومداخيلها العالية.
وقد خطب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع القمة العربية في الرياض، وأشار بشكل واضح إلى خطورة طرد جزء من سكان كركوك العرب والتركمان، وإحلال السكان الأكراد محلهم. كما أشار إلى أن مدينة كركوك تمثل صورة مصغرة للعراق في تجانس فريد بين ثلاث مكونات عرقية، هي الأكراد والعرب والتركمان. وعقدت الحكومة التركية قبل شهر ونصف مؤتمراً مهماً عن مستقبل مدينة كركوك، هددت فيه الساسة العراقيين بعدم المساس بمصالح الأقلية التركمانية في المدينة. والحقيقة أن بعض أجنحة الحكومة العراقية الحالية لا تمثل العراق أو العراقيين، فهي قد سلّمت زمام أمرها لقوات الاحتلال الأميركية، وتحالفت بشكل وثيق مع المخابرات الإيرانية، وسهلت خلال العامين الماضيين عودة بعض المهجَّرين العراقيين الذين كانوا يسكنون في إيران منذ عام 1981، ومعهم آلاف مؤلفة من إيرانيين آخرين وشخصيات رسمية مرتبطة كذلك بالنظام الإيراني لاستيطان جنوب العراق، والعمل على ربطه بإيران. وقد أغرقت السلع الإيرانية الأسواق العراقية، وأصبح الجنوب العراقي يتعرض بالفعل لحملة "تفريس"، بينما تتعرض المدن الشمالية لحملة "تكريد ". وهكذا ضاع عرب العراق، وضاعت عشائره في ضوء كيد الاحتلالين، الأميركي والإيراني للعراق، وتخاذل أبناء الشعب العراقي نفسه في حماية هويتهم الوطنية والعربية، ولجأوا إلى هويات طائفية وعرقية بديلة.
وللتدليل على ذلك ما على الفرد اليوم إلا أن يشاهد المحطات التلفزيونية العراقية، وبعض منها لا زالت تتحدث بالعربية، لكن أعداداً كبيرة منها أصبحت تبث برامجها بلغات ولهجات عراقية مختلفة، ظن الكثيرون أنها قد اندثرت.
قد يرى البعض في مثل هذا التحليل أنه يمثل انتهاكاً لحقوق الأقليات في العراق. ولكن ذلك ليس بصحيح، فالعراق منذ فجر التاريخ بلد عربي تتعايش فيه طوائف متعددة، ولكن معظمها يفخر بانتمائه للديانة الإسلامية، وصلته بالحضارة العربية. أما وأن عروبة العراق، ومصالح قبائله وعشائره قد انتهكت بادعاء إلغاء سياسات صدام حسين، فإن هذه الادعاءات غير صحيحة. فإذا كان يحق للكردي وغيره من العراقيين أن يعيش ويتملك في بغداد، فإنه يحق كذلك للعرب والتركمان أن يعيشوا أو يتملكوا في كركوك. وإذا كانت هناك بعض التجاوزات التي اقترفها النظام السابق في كركوك، فإن مثل هذه التجاوزات ينبغي إثباتها قانونياً وحصول المتضررين منها على تعويضات نقدية مجزية. أما ما يحدث اليوم من محاولة إخلاء المدينة قسراً بداية من حوالى 12.000 من سكانها العرب، تحت سطوة رجال البشمرجة الذين يهيمنون على قوات الشرطة في المدينة، فإن ذلك يعتبر شكلاً جديداً من أشكال التطهير العرقي الذي يجري تحت أعين سلطة الاحتلال الأميركي، وبمباركة حكومة يصعب على المرء أن يسميها بالحكومة الوطنية.
أما وقد وافقت هذه الحكومة على مثل ذلك الإجراء الطائفي التعسفي بحق السكان العرب في المدينة، فإنها تؤذن وتتحمل ما يحدث هذه الأيام في المدينة من أعمال عنف شنيعة تطال المؤسسات الحكومية والأمنية، وكذلك مؤسسات مدنية مثل المدارس وغيرها. وكان أجدى بحكومة المالكي التي تقول إنها تحاول إيجاد حوار وطني يقود إلى توافق سياسي، أن ترفض الخضوع للضغوط الأميركية، وضغوط الأحزاب الكردية، وألا توافق على مثل هذا القانون الظالم بحق جزء مهم من شعبها.
والمقولة التي تذهب إلى أن قدوم العرب وسكنهم في كركوك مرتبط بنظام صدام حسين مقولة غير صحيحة. فمعظم المصادر التاريخية البريطانية تشير إلى أن الوجود العربي في المدينة يعود إلى الفتح العربي في القرن السابع الميلادي. وإلى أن الوجود الكردي في المدينة يعود إلى حكم عائلة "الدقوق" في القرن السادس عشر الميلادي. وهو نفس التاريخ الذي كانت فيه عشائر التكريتي والحديدي تقطن المدينة. وتقول المصادر نفسها إن قبائل الجبور والعبيد، قد قطنت هذه المدينة والإقليم في العهد العثماني.
كما أن قبائل عربية عديدة مثل قبيلة "الحويجات" وقبائل عربية أخرى غيرها قد قطنت المدينة وضواحيها في عهد حكومة ياسين الهاشمي التي حكمت العراق عام 1935. وهكذا فإن الوجود العربي في المدينة هو سابق لحكم صدام حسين، إلا أن حكومته ربما ساعدت بعض السكان العرب على النزوح إلى المدينة، كما أن الاشتغال بالنفط والعمل في آباره ومصافيه، قد جذب خلال القرن الماضي أعداداً كبيرة من العراقيين للنزوح والعمل في هذه المدينة.
وهكذا فإننا لو قبلنا مجازاً أن الحكومة العراقية السابقة قد أضرت عدداً من مواطنيها الأكراد، فإن حل هذه المشكلة لا يعني ارتكاب خطيئة جديدة أخرى بحق السكان العرب في كركوك. وكان الأجدى بالحكومة أن تعوض السكان الأكراد السابقين مادياً ومعنوياً عما حلّ بهم، لا أن ترتكب عمليات تطهير عرقي جديد بحق سكان المدينة العرب.