مبارك وتركة السادات: همٌّ بالليل.. وذلٌّ بالنهار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. جلال أمين
عندما كان الاقتصاديون المصريون يضجون بالشكوي من حالة الاقتصاد المصري كما تركه الرئيس السادات في ١٩٨١ كانت إحدي شكاواهم الأساسية ضخامة عبء الديون الخارجية، فالديون الخارجية إذا زادت عن الحد "وقد تركها السادات بالفعل وهي زائدة عن الحد" هي بالضبط كما يقول المثل الشعبي المصري "هم بالليل وذل بالنهار"
فهي هم بالليل لأن الديون لابد لها من خدمة "يسميها الاقتصاديون خدمة الديون" أي دفع الأقساط والفوائد وهذه إذا زادت عن الحد لا تترك ما يكفي للإنفاق علي الضروريات وهي ذل بالنهار لأن الدائن لا يرحم وقد يستبد بالمدين ويستخدمه لتحقيق أغراضه مهما كانت سفالتها.
وقديما كان العجز عن تسديد الدين يحول المدين إلي عبد وهو حتي الآن قد يفضي به إلي السجن، فإذا كان الدائن هو الولايات المتحدة الأمريكية، فنحن نقول إن الديون إذا زادت عن الحد حولت الدولة المدينة إلي دولة تابعة.
كانت ديون مصر الخارجية في عهد السادات من هذا النوع بالضبط "هم بالليل وذل بالنهار" كان عبء الديون قد بدأ بلفت نظر السادات بعد خمسة أعوام من بداية حكمه، ففي عام ١٩٧٥ صرح السادات بأن حالة الديون خطيرة ووصف الاقتصاد المصري بأنه بلغ درجة الصفر ولكنه قدم تبريرات غريبة لهذه الحالة منها قوله: إن أحدا لم يخبره من قبل بخطورة الأمر، ومنها أن الأرقام التي عرضت عليه كان يظن أنها بالدولارات ثم تبين له مؤخرا أنها بالجنيهات الإسترلينية!
كانت مصر مطالبة بدفع ٢٠٨٤ مليون دولار "في ١٩٧٥ وحدها" سداداً لأصل وفوائد الديون قصيرة الأجل التي كانت تشكل نحو ثلث إجمالي القروض المصرية وكانت أسعار فوائدها تتجاوز أحيانا ١٥% وكان هذا المبلغ "٢٠٨٤ مليون دولار" يعادل ٧٨% من حصيلة الصادرات المصرية كلها في ذلك العام.
شهدت تلك السنة "١٩٧٥" والسنة التي تلتها جولات متعاقبة للرئيس السادات ولرئيس الوزراء ووزراء المالية والاقتصاد المصريين في دول الخليج يرجون فيها زيادة حجم المعونات العربية المقدمة لمصر، مستخدمين كل ما يمكن استخدامه من حجج، من بطولة الجيش المصري في حرب أكتوبر إلي ما قدمته مصر من تضحيات للقضية الفلسطينية إلي ما تؤديه العمالة المصرية من خدمات لتنمية دول الخليج، ولكن دون طائل فقد كان رد حكومات النفط في ذلك الوقت، أن هذا الذي نقدمه هو أقصي ما نستطيع، وأنه حتي لو كان باستطاعتنا تقديم المزيد فإنه ليس لدينا ما يضمن أن مصر سوف تحسن استخدام ما نقدمه من معونات،
كانت هناك أيضا تلميحات إلي ما يسود تصرفات الإدارة المصرية من فساد وتبديد وهي أمور كانت حكومات النفط العربية آخر من يحق له أن يشير إليها، كانت هناك أيضا ردود تعلمتها حكومات النفط من رجال البنك الدولي والمؤسسات الدولية، مثل القول بأن تقديم المساعدات لدعم ميزان المدفوعات يساعد علي التبديد وأن الأفضل تقديم مساعدات لتمويل مشروعات بعينها يتفق عليها ولكن مصر للأسف "هكذا قيل" لا تتوافر لديها كمية كافية من دراسات الجدوي،
لم يكن الأمر في الحقيقة إلا أن حكومات دول النفط، لم تكن قد تلقت بعد إيماءة الموافقة من الولايات المتحدة وهيئات المعونة الدولية بزيادة حجم معوناتها لمصر، ولم يكن هذا ليتم إلا إذا أظهرت مصر استعدادها نهائيا لقبول توجيهات صندوق النقد الدولي ولاتخاذ خطوة حاسمة في اتجاه عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل وهو ما حدث بالفعل بقيام السادات بزيارة القدس في ١٩٧٧ ثم بتوقيعه اتفاقية السلام مع إسرائيل في ١٩٧٩.
عندما حدث حادث المنصة الذي أودي بحياة السادات في ١٩٨١ كانت ديون مصر الخارجية قد زادت إلي ثلاثين بليون دولار بالمقارنة بخمسة بلايين دولار عند وفاة عبدالناصر أي أن إجمالي مديونية مصر الخارجة بمختلف أنواعها "المدني والعسكري، العام والخاص، وذات الأجل الطويل والمتوسط والقصير" تضاعف خلال حكم السادات نحو ست مرات لم يكن هذا الدين أكبر فقط من ديون الخديو إسماعيل الشهيرة في حجمه المطلق،
فهذا بديهي "٣٠ بليون دولار بالمقارنة بـ٩١ مليون جنيه في حالة الخديو إسماعيل" بل كان أيضا عبئا أكبر بكثير سواء قيس هذا العبء بنسبة الديون إلي الدخل القومي أو بنسبة خدمة الديون "الأقساط والفوائد" إلي حصيلة مصر من العملات الأجنيبة.
لم يكن الرئيس حسني مبارك بتكوينه النفسي في وضع يسمح له بأن يغير اتجاه السياسة المصرية الذي اتخذه السادات ولم يجد الناصحون المحيطون به مصلحة خاصة لهم في أن ينصحوه بهذا التغيير لأسباب تتعلق بتكوينهم النفسي هم أيضا ولكن الأهم من ذلك أن كل هؤلاء الناصحين كان السادات قد اختارهم بعناية منذ بداية حكمه ممن يدينون بالولاء للولايات المتحدة، ليس لأنهم أفضل رجال البلد بل اعتقاداً منه بأن الولايات المتحدة هي القو ة الوحيدة التي يمكن أن تحتفظ له بعرشه.
وزاد الطين بلة أنه بتوقيع السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل في ١٩٧٩ توقفت البلاد العربية عدة سنوات عن منح أي معونة لمصر "عقابا" لها علي هذا السلوك المشين فإذا بكل الظروف تدفع مصر دفعا إلي الارتماء في أحضان الولايات المتحدة وإلي الاعتماد علي ما تقدمه لها من معونات.
هكذا استمر الرئيس مبارك في سياسة الاستدانة طالما كانت الاستدانة متاحة له ولم يتوقف إلا عندما انتهي الدائنون من امتصاص آخر قطرة دم من جسم الاقتصاد المصري ولم تعد لديهم رغبة في الاستمرار، فالمريض لم تعد حالته تبشر بأي قدرة علي السداد، وهم أنفسهم لم يعد لديهم من الأموال الجاهزة للإقراض، بعد انتهاء فورة فوائض أموال النفط التي كانت من قبل تتدفق علي البنوك الغربية وتبحث لنفسها عن مجالات للاستثمار.
في السنوات الخمس الأولي من عهد مبارك "٨١- ١٩٨٦" استمرت مصر في الاقتراض من الخارج حتي بلغ إجمالي الديون الخارجية "مدنية وعسكرية" ٤٥ بليون دولار أي بزيادة قدرها ٥٠% في خمس سنوات وهو معدل، رغم خطورته، أقل بكثير من معدل زيادة الديون في عهد السادات.
ثم استمرت ديون مصر الخارجية في الزيادة ولكن بمعدل أقل حتي سنة ١٩٩٠ عندما تفجرت أزمة الخليج بهجوم صدام حسين علي الكويت، حيث كان إجمالي ديون مصر الخارجية في تلك السنة قد بلغ ٤٧.٦ مليون دولار أي أكثر من ١٥٠% من الناتج المحلي الإجمالي مما جعل عبء الدين الخارجي علي مصر من أعلي أعباء الديون في العالم إذا قيس بنسبة الناتج المحلي، وأعلي كذلك من عبء الدين الخارجي الثقيل الذي كانت تحمله مصر قبل قرن من الزمان "نحو ١٠٠% من الناتج المحلي الإجمالي" والذي أدي إلي عزل حاكم مصر في ذلك الوقت "الخديو إسماعيل" واحتلال بريطانيا لمصر.
في ١٩٩٠ كان مبلغ خدمة الديون المستحقة علي مصر قد ارتفع إلي ٦ بلايين دولار أي ما يمثل ٥٤% من قيمة جميع صادرات مصر من السلع والخدمات، وضاقت بشدة فرص الاقتراض التجاري أو الرسمي المتاحة لمصر وبدأت الحكومة تواجه صعوبات شديدة في تمويل بعض الواردات الأساسية من المواد الغذائية.
كان هذا هو الوقت الملائم بالضبط لأن يقتطع شيلوك "الدائن" رطل اللحم من جسم أنطونيو "المدين". كان رطل اللحم المطلوب في هذه الحالة هو وقوف مصر إلي جانب الولايات المتحدة ضد صدام حسين إلي حد إرسال قوات مصرية للاشتراك في الحرب إلي جانب القوات الأمريكية، وذلك كطريقة للوفاء بديون لم يكن لدي مصر أي موارد لتسديدها، ومن الطريف أن نلاحظ أنه خلال الأشهر الستة التالية لبدء أزمة الخليج، حصلت مصر علي تعهدات بمساندات مالية بلغت ٤٧٢٦ مليون دولار من بعض الدول، أهمها المملكة السعودية والكويت ودولة الإمارات، وهي نفس الدول التي كانت قد خاصمت مصر وأدارت لها ظهرها منذ عشر سنوات بسبب توقيعها اتفاقية السلام مع إسرائيل،
ولكن الأهم من ذلك ما حصلت عليه مصر من إعفاءات كبيرة من ديونها. أعفيت مصر أولا من جانب الولايات المتحدة ودول الخليج من ديون قدرها ١٣.٧ بليون دولار، ثم دعيت مصر إلي عقد اتفاق في مايو ١٩٩١ مع الدول المكونة لنادي باريس، أسفر عن إعفاء مصر من ٥٠% من ديون أخري علي مراحل، مع الاشتراط بأن يكون حصول مصر علي الإعفاء في المرحلتين الأخيرتين "١٩٩٢ و١٩٩٤" متوقفا علي تنفيذ مصر توصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي فيما سمي "برنامج الإصلاح الاقتصادي".
ترتب علي هذا أن انخفضت ديون مصر الخارجية من ٤٧.٦ بليون دولار في يونيو ١٩٩٠ إلي ٣٤ بليونا في فبراير ١٩٩١ ثم إلي ٢٤ بليون دولار في منتصف ١٩٩٤ أي نصف ما كانت عليه في منتصف ١٩٩٠.
المدهش حقا ما حدث لديون مصر الخارجية من ثبات نسبي في العشر سنوات التالية "١٩٩٤ - ٢٠٠٤" بالمقارنة بزيادتها بمقدار ستة أضعاف في العشر سنوات التي حكم فيها السادات وبمقدار ٦٠% في العشر سنوات الأولي من حكم مبارك.
ففي الفترة "١٩٩٤ - ٢٠٠٤" لم تزد ديون مصر الخارجية إلا بمقدار ٥.٤ بليون دولار "فوصلت إلي ٢٩.٤ بليون" أي بنحو ٢٢% في عشر سنوات.
كيف نفسر هذا الثبات النسبي في ديون مصر الخارجية بعد ربع قرن من الزيادة السريعة؟
من الممكن أولاً أن نقول إنه لا يمكن لأي دولة أن تستمر في الاقتراض والتورط في الديون إلي ما لا نهاية، إذ لابد أن يأتي الوقت الذي يظهر فيه عجز الدولة عن خدمة ديونها، ويبدأ الدائنون في القلق علي أموالهم، فتدخل الدولة في فترة جديدة، تتسم بتسديد الديون السابقة أكثر مما تتسم بعقد قروض جديدة، بعبارة أخري لابد أن تدخل الدولة المقترضة في دورة من ازدياد المديونية ثم انحسارها.
تزداد ديونها ليس عندما تشتد بها الضائقة الاقتصادية، بل علي العكس عندما تتدفق عليها الأموال فتزداد ثقة الدائنين بقدرتها علي السداد، ثم تتوقف عن الاقتراض ويطالبها الدائنون بسداد الديون السابقة عندما يفقدون الثقة في مستقبلها الاقتصادي، لقد حدث هذا مع الخديو إسماعيل في القرن الماضي،
إذ انهال عليه المقرضون عندما كانت أسعار القطن مرتفعة بسبب الحرب الأهلية الأمريكية، وبدأوا يضيقون عليه الخناق عندما زال عهد الرواج، ثم حدث مرة أخري مع السادات عندما انهال عليه المقرضون الذين أسال لعابهم ارتفاع أسعار النفط وتحويلات المهاجرين المصريين إلي الخليج، ثم ضيقوا الخناق علي مبارك عندما انخفضت أسعار النفط وبدأ المهاجرون المصريون يعودون إلي مصر.
من الممكن أيضا أن نفسر هذا الثبات النسبي في الديون المصرية ابتداء من أوائل التسعينيات وحتي الآن بما أصاب الاقتصاد المصري من تدهور في معدل النمو منذ ذلك الوقت، ومن ثم تباطؤ الزيادة في الواردات، ترتب علي هذا تحسن في ميزان المدفوعات أغني مصر عن الالتجاء إلي المزيد من القروض،
ولكنه تحسن لا يعكس زيادة القدرة علي التصدير، بل يعكس انخفاض القدرة علي الاستيراد، فضلا عن تخلص مصر من جزء كبير من عبء خدمة الديون بما حصلت عليه من إعفاءات لأسباب سياسية.
علي أي حال وأيا كان السبب فالديون الخارجية لم تعد في نهاية عصر مبارك مشكلة ملحة، أو حتي مشكلة مطروحة علي الإطلاق، مثلما كانت في بداية عهده، فحجم الدين الخارجي في سنة ٢٠٠٤ لم يكن يمثل أكثر من ٣١.٢% من الناتج المحلي الإجمالي بالمقارنة بـ١٤١% في بداية عهد مبارك، ولا يمثل عبء خدمة الديون في سنة ٢٠٠٤ أكثر من ١٠% من مجموع قيمة صادرات مصر من السلع والخدمات بالمقارنة بـ ٢٨% في ١٩٨١.
يبدو إذن أن الهم الذي تجلبه الديون بالليل قد زال أو كاد يزول ولكن المدهش أن الذل بالنهار أصبح أشد مما كان، فقد استمرت مصر تابعاً ذليلاً للولايات المتحدة تفعل ما تؤمر به، وتمتنع عما تنهي عنه، بل هناك ما يدل علي أن هذا الخضوع قد أصبح أشد مما كان في بداية عهد مبارك.
من الممكن تفسير استمرار الذل علي هذا النحو بعدة أمور، فالديون وإن كانت وسيلة فعالة لإخضاعك، فإنها ليست الوسيلة الوحيدة فهناك مثلا الخوف من الفضيحة إذا كان ممارس القهر يعرف لك زلة تخاف أن تعلن علي الملأ، وهناك اعتمادك علي سلاح يملكه الغير ولا تستطيع حماية نفسك بغيره، ولكن هناك فوق كل شيء مجرد "الإدمان" فإذا كنت قد اعتدت نمطاً من الحياة بسبب ديونك السابقة وأصبح من الصعب عليك أن تتخلي عنه، فإن من السهل إملاء الإرادة عليك من جانب من يمكنك من ممارسة هذا النمط من الحياة
. إن التاجر قد يستدرجك إلي متجره بتشجيعك علي الشراء مع تأجيل الدفع، حتي تتمكن منك الرغبة في الحصول بأي ثمن علي ما يبيعه من سلع، وهنا لا حاجة بالبائع إلي تأجيل الثمن، أي لا حاجة للإقراض إذ إن خضوعك لإرادته قد أصبح مضمونا.
لقد حدث شيء كهذا لمصر بين منتصف السبعينيات ونهاية الثمانينيات إذ أدي الانفتاح الاقتصادي بلا حدود إلي اعتياد "أو إدمان" الشرائح العليا من المجتمع المصري نمطاً جديداً من الحياة، بل وحدث أيضا خلال هذه الفترة التحول من تسليح الجيش بأسلحة سوفيتية إلي تسليحه بأسلحة أمريكية، وهذا التحول في الحالين يصعب جداً الرجوع عنه ومن ثم فقد حققت الديون هدفها، وأدت وظيفتها، ولم يعد هناك ضرورة لزيادتها، ولو إلي حين.