موقع «المحكمة» في المسألة اللبنانية والتعاطي الدولي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
اتخاذ المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان تلك المكانة والأولوية لدى القيادات الدولية والاقليمية ليس بمسألة عابرة أو خالية من الأهمية السياسية والقانونية والرمزية. فلقد تعدت المحكمة جريمة اغتيال رئيس حكومة لبنانية ولم تعد عبارة عن محاكمة الذين اغتالوا رفيق الحريري للتعرف الى الحقيقة حصراً. انها الآن البوصلة الى مصير الضالعين في الاغتيالات السياسة الارهابية كما الى الأسباب الكامنة وراء إصرار الرافضين لها والذين يحاربونها.
والمحكمة اليوم هي ايضاً بوصلة لعلاقات الدول الكبرى بعضها ببعض وبدول المنطقة وبحروبها الجماعية والفردية كما هي بوصلة لمعادلة المحاسبة والإعفاء في موازين الاغتيالات والارهاب والمصالح الوطنية. الصين لن تضحي بالمحكمة الدولية. روسيا لن تحارب ضدها. الدول العربية الفاعلة أوضحت انها لن تتخلى عنها. والآن، وقد كشف الأمين العام لـ "حزب الله" السيد حسن نصرالله انه لا يريد المحكمة وانما يريد اطلاق سراح الجنرالات المتهمين بالتورط بالاغتيالات السياسية من السجون واصفاً الجنرالات اللبنانيين الاربع بأنهم معتقلين سياسيين، فان القاعدة الشعبية لـ "حزب الله" باتت مطالبة بأن تحك رأسها وتقف بشموخ ضد تجييرها. الآن وبعدما لجأت الحكومة اللبنانية المنتخبة شرعياً، ومعها 70 نائباً الى الأمم المتحدة، على مجلس الأمن الدولي والأمين العام بان كي - مون رفع لواء المحكمة الدولية عالياً لأن انشاء المحكمة ليس اطلاقاً مسألة محلية لبنانية وانما هو مسؤوليته دولية لا مفر منها. الكرة ليست ابداً في الساحة اللبنانية وانما هي في ساحة بان كي - مون لأن من فاوض على نظام المحكمة هو وكيل الأمين العام للشؤون القانونية، ولأن مجلس الامن صادق على النظام الأساسي للمحكمة، ولأن الحكومة اللبنانية استهلكت كل سبيل دستوري لإقناع رئيس البرلمان بعقد جلسة للتصويت على ابرام المعاهدة، وفشلت. وعليه، فإن كي مون مطالب بتحمل مسؤولياته نحو المحكمة الدولية ليجعل منها المحور الرئيسي في زيارته الاسبوع المقبل الى دمشق. فإذا عاد من العاصمة السورية بالتزامات قاطعة بدعم المحكمة والتوقف عن تعطيلها، يكون حقق انجازاً يحول دون تحويل زيارته الى زيارة مشابهة للزيارة الفاشلة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الاميركي نانسي بيلوسي. بان كي كون مكلف، بحكم منصبه، ان يتأبط قرارات مجلس الأمن ويطالب حازماً بتنفيذها، فوظيفته ليست ساعي بريد يحمل رغبات اسرائيلية كما فعلت بيلوسي، ولا هي وظيفة تلميع صورة حكومة وفقاً لبرنامج شركة وظفتها لهذا الهدف. انه الأمين العام الجديد وقد يكون مفيداً له ان يدقق بتفاصيل الوعود السورية الى سلفه كوفي انان أثناء زيارات مماثلة وان يتعرف تماماً على ما حدث لهذه الوعود.
دمشق تعرفت في الفترة الاخيرة الى فوائد توظيف شركات كبرى تقوم بالعلاقات العامة وظيفتها شن حملات تلميع الصورة وترتيب المقابلات الصحافية والتأثير في بعض صناع القرار في المؤسسات الفكرية والأكاديمية والسياسية. وحسبما يشاع، دفعت دمشق 12 مليون دولار، سنوياً لشركة "ساتشي وساتشي" لتقوم بمهمة إدلاء النصائح لها وإقناع الآخرين بأن سورية محورية في مستقبل العلاقات مع المنطقة وانها بريئة من المسألة اللبنانية.
حملة التلطيف والإغراء التي تقوم بها هذه الشركة القديرة لها بعد اقليمي ودولي يضاف اليه بعد قانوني كلف به محامون وخبراء قانون راجعوا يومياً تطورات المفاوضات على المحكمة الدولية، وهذا حق حماية مسبقة لأي كان، لكنه يصبح مريباً عندما ترافقه محاولات تغيير نظام المحكمة الاساسي لإفراغه من ناحيتين اساسيتين هما: مسؤولية الرئيس عن أفعال المرؤوس الذي نفذ الجريمة، وترابط الاغتيالات السياسية، إذا اثبته التحقيق، وذلك لأن اثبات النمطية في هذه الاغتيالات يؤدي الى نوع من المحاكمة على ارتكاب جرائم ضد الانسانية.
بان كي مون يعرف تماماً ان هذه المطالب سورية وان الوفد السوري لدى الأمم المتحدة رافق يومياً مع الدائرة القانونية تفاصيل النظام الاساسي للمحكمة الدولية. وبالتالي، يصعب جداً تصديق الزعم بأن لا علاقة لسورية بالمحكمة وان أمر المحكمة عائد الى توافق داخلي لبناني.
بان كي مون تعرف الى الرئيس السوري بشار الاسد في الرياض عندما اجتمعا معاً على هامش القمة العربية قبل اسبوعين، ولا بد انه لمح له عما يتوقع من زيارته الى دمشق الاسبوع المقبل.
ما يجب على الامين العام الجديد ان يصر عليه هو استكمال ما ذكره في تقريره حول تنفيذ القرار 1701 الذي جاء في اعقاب حرب اسرائيل مع "حزب الله" في لبنان الصيف الماضي، وبالذات حول آلية مراقبة تسريب الاسلحة عبر الحدود السورية - اللبنانية الى "حزب الله" بصورة اساسية. وهنا مهم جداً للامين العام الجديد ان يتذكر ان الرئيس السوري تقدم بوعود الى كوفي انان حول تلك الحدود دون تنفيذها. كذلك الأمر في ما يتعلق بترسم الحدود وبمزارع شبعا. على بان كي مون ان يطالب دمشق بترسيم الحدود والتبادل الديبلوماسي مع لبنان تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن وان يعود من زيارته الى دمشق بالتزامات قاطعة وفورية يُكف معها عن بدعة اخضاع مصير مزارع شبعا لـ "انهاء احتلال إسرائيل لها وللجولان السوري بموجب قراري مجلس الأمن 242 و338 مع تأكيدنا بأن مزارع شبعا هي لبنانية".
هذه بدعة أخرى في الموقف السوري الجديد والمتجدد نحو المزارع التي رفعتها دمشق راية تبرير استمرار "المقاومة اللبنانية" ونصبها "حزب الله" قضية مصيرية للبنان.
الآن، ومن دون أي حياء أو اعتذار، بل بكل فجور، تربط دمشق مزارع شبعا بالجولان السوري وتؤكد في الجملة ذاتها أن المزارع لبنانية. إذا كانت لبنانية لماذا لا تخضع هذه المزارع للقرار 425 الذي يخص لبنان وإسرائيل ولماذا يجب أن تخضع للقرارين 242 و338 اللذين يخصان سورية وإسرائيل ولا علاقة للبنان بهما؟ هذا ما يجب على بان كي مون أن يسأله في دمشق، وبإصرار على اجابة واضحة فالأمين العام يعرف أكثر من غيره ما إذا كانت هذه المزارع لبنانية أو سورية لأن خبير المسح الجغرافي الذي عينته الأمم المتحدة أوشك على التوصل الى استنتاجات في شأن هذه المزارع. فإذا كانت لبنانية، كما تقول سورية نفسها وحتى الآن، يجب على بان كي مون أن يكون حازماً في مطالبته دمشق برفع أياديها عن شبعا بدلاً من اخضاعها لتحرير الجولان السوري المحتل. ويجب عليه أن يطالب إسرائيل باستكمال تنفيذ القرار 425، وأن تنسحب من مزارع شبعا اللبنانية.
الموقف السوري يبرر، عملياً، استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا وفيه يتلاقى في إطار الغزل والغمز الطرفان على حساب لبنان. فإسرائيل وجهت رسالة إلى الأمين العام ورئيس مجلس الأمن اعتبرت فيها مزارع شبعا مسألة "بين سورية ولبنان"، مشددة في الوقت نفسه على أن ولاية الخبير الطبغرافي "محددة بتحديد المنطقة جغرافياً وليست جزءاً من عمليات ترسيم الحدود" كما اقترح بان كي مون في تقريره.
أما "حزب الله" فلقد أبلغنا السيد حسن نصرالله هذا الأسبوع أن مزارع شبعا لم تعد راية المقاومة اللبنانية وأن ما يريده، حسبما قال، هو المقاومة لتحرير "القرى السبع وفلسطين واستعادة بيت المقدس"، منبهاً إلى أن "ما يجري على الساحة اللبنانية يرتبط بصراع الآخرين لتغيير هويته وموقعه، والموضوع ليس موضوع تشكيل حكومة" لبنانية، إذ أن "هذا ظاهر القصة، والمسألة أعمق من هذا بكثير".
جزء من عمق المسألة يتعلق بالمحكمة الدولية، التي أوضح حسن نصرالله أنه لا يريدها، وإنما يريد اجهاضها. قال إن "نظام المحكمة مكتوب على قاعدة وجور أحكام صادرة ومنتهية. هذا هو تقويمنا للمحكمة ونظامها، وهذه الصورة موجودة الآن في لبنان". أضاف: "عندنا معتقلون سياسيون في لبنان. هناك أربعة ضباط لبنانيين كبار موجودون في السجن في اعتقال سياسي"، في إشارة الى الضباط الأربعة الموقوفين بسبب اغتيال الحريري.
لافت أن السيد حسن نصرالله تحدث عن اعتقالات سياسية ولم يذكر الاغتيالات السياسية في بلاده، والتي شملت رئيس حكومة وصحافيين وقادة فكريين وسياسيين. لافت أن يصف الضباط بأنهم "معتقلون سياسيون"، على رغم أن لدى القضاء اللبناني الأسباب القانونية لابقائهم في السجون. لافت أنه استهتر بالتحقيق الذي تقوم به "اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمق الإرهابي"، وأنه أوضح معارضته للمحكمة الدولية على أساس أن نظامها مكتوب على قاعدة "وجود أحكام صادرة ومنتهية". فالسيد حسن نصرالله يعرف، حسبما تفيد تصريحاته، ماذا لدى التحقيق الدولي في الاغتيالات السياسية في لبنان، ولذلك لا يريد المحكمة.
الأمين العام لـ "حزب الله" تعهد ليس فقط باجهاض المحكمة، وإنما أيضاً بارتهان لبنان للوضع الراهن من أجل غير مسمى. قال إنه لا يريد حرباً أهلية "وإذا اضطر الأمر أن يبقى الوضع هكذا لمدة زمنية محددة إلى أن نجد حلاً، وبين أن نذهب الى حرب أهلية، فنحن نفضل أن يبقى الوضع هكذا". مشكور السيد حسن نصرالله لأنه لا يريد حرباً أهلية إنما استمرار الوضع "هكذا لمدة زمنية محددة"، يعني عملياً انهيار لبنان وشله اقتصادياً وسياسياً. ويترافق مع استمرار الوضع الراهن تزايد الكلام عن حرب أخرى لصيف لبنان المقبل تريدها الأطراف الاقليمية والمحلية المعنية، كل لغاية في نفس يعقوب. وهذا ما على أعضاء مجلس الأمن الدولي والأمانة العامة للأمم المتحدة التدقيق فيه والحؤول دونه.
فلبنان يشكل الآن مشروعاً دولياً اما في صدد الاكتمال أو في صدد الفشل. إنه الحرب المفتوحة بين الدولة والميليشيات، بين الحكومة المنتخبة وبين أحزاب تريد الاستيلاء على الحكم والبلد لاجهاض الديموقراطية والمحاسبة على استخدام الاغتيالات السياسية الإرهابية وسيلة للتغيير السياسي. هذه الحرب ليست معركة محلية وإنما هي حرب دخلت الأمم المتحدة طرفاً فيها عبر قراراتها، وعبر لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة، وعبر قوة "اليونيفيل" المعززة بين لبنان وإسرائيل، وعبر قرار الحظر الالزامي لتسريب الأسلحة عبر الحدود السورية - اللبنانية، كما عبر الحدود اللبنانية - الإسرائيلية إلى أي طرف كان في لبنان باستثناء الجيش اللبناني.
حان الوقت الآن لكل من الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية ان تقرا بأن الحوار اللبناني لن يحل المشاكل القائمة، بل ان انتظار قدوم هذا الحوار غير الآتي سيرسخ المشاكل ويهدد بنسف الأوضاع.
مصير المحكمة الدولية ليس مسألة لبنانية محلية، وانما هو الآن مسؤولية دولية تقع على أكتاف مجلس الأمن وكذلك الأمانة العامة. فلقد عجزت الحكومة اللبنانية عن اقناع رئيس البرلمان نبيه بري بعقد جلسة للبرلمان للتصويت على ابرام معاهدة انشاء المحكمة ونظامها الاساسي الموقعة بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية. أمام هذا الفشل، توجه رئيس الحكومة فؤاد السنيورة الى الأمم المتحدة طالباً من بان كي كون ان يستطلع هو ومجلس الأمن الدولي البدائل عن انتظار استكمال العملية الدستورية اللبنانية المعطلة بقرار سياسي وباستقواء ميليشيات تطالب قرارات الأمم المتحدة بتفكيكها.
مرة أخرى، هذه معاهدة تحمل توقيع الدائرة القانونية للأمم المتحدة جاءت بعد مفاوضات لاكثر من سنة بين الدائرة القانونية الدولية وبين السلطات القضائية اللبنانية. هذه معاهدة صادق عليها مجلس الأمن الدولي بالاجماع وهو الذي انشأها لتكون المصب المنطقي للتحقيق الدولي في الاغتيالات السياسية في لبنان. انها معاهدة تلقى دعم 70 نائباً لبنانياً يتوسل بلا جدوى الى رئيس البرلمان اخراج المفتاح من جيبه لعقد جلسة لإبرام المعاهدة.
الكرة الآن في ملعب الأمم المتحدة بشقي مجلس الأمن الدولي والأمين العام بان كي مون. لقد انتهت العملية الدستورية اللبنانية بعد ان استهكلت جميع الوسائل لاستكمالها. ولقد حان الوقت للأمم المتحدة ان توجه رسالة حازمة الى جميع المعنيين بتعطيل انشاء المحكمة تتمثل في إصدار قرار دولي ينشىء المحكمة الدولية وينتشلها من المزايدات السياسية البائسة الرامية الى اجهاضها والى استئناف نمط اللامحاسبة.
بعض ممثلي بان كي مون في لبنان وفي مقر المنظمة الدولية في نيويورك يتحدث بلغة عدم التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية وبضرورة التحاور مع جميع الأطراف اللبنانية، وهو مخطئ تماماً في هذا وفي النصيحة التي يقدمها الى الأمين العام. واجب الأمانة العامة هو ان تحمي المعاهدات التي توقعها وليس فتح قنوات غزل وتلطيف مع الأطراف التي تعمل على إجهاض تلك المعاهدات. ان فتح تلك القنات الجانبية هو التدخل في الشؤون الداخلية المحلية للبلد، ذلك ان واجب الأمم المتحدة هو التحدث فقط مع الحكومة المنتخبة وليس مع الميليشيات المسلحة التي تطالبها المنظمة الدولية بالتخلي عن سلاحها فترد بمضاعفة عدد الصواريخ التي تمتلكها والإجهار بذلك.
بان كي مون ارتكب عدداً من الأخطاء أثناء جولته على الشرق الأوسط الشهر الماضي بسبب نصائح جاهلة لبعض مستشاريه، زيارته الى دمشق مسؤوليته هو بغض النظر عمن يتقدم اليه بالاستشارة والنصيحة، انها زيارة قابلة للنجاح الباهر إذا عاد منها بالتزامات قاطعة وواضحة نحو المحكمة والحدود. أما إذا قفزت الزيارة على المطالب الدولية من سورية في شأن لبنان، يكون بان كي مون أطلق رصاصة على قدميه ورصاصة على هيئة الأمم المتحدة ويكون فتح جبهة بنيران على لبنان.