حكاية ’’المسجد الأحمر’’ الباكستاني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. عبدالله المدني
رغم أن اللون الأحمر ماركة مسجلة باسم الشيوعيين والماركسيين و"الماويين" ومن في حكمهم، فإن ذلك لم يمنع أعداءهم من الإسلاميين الباكستانيين من إطلاق "الأحمر" اسماً على مسجدهم الكبير في وسط العاصمة إسلام آباد.
الأمر الأكثر غرابة أن هذا حدث في الثمانينيات يوم كانت باكستان مُجندة بقضها وقضيضها للوقوف في وجه ما وصف بالخطر "الأحمر" السوفييتي القادم عبر أفغانستان، فكان الجهاد ضد "الحُمر" سياسة رسمية باكستانية، لا تعلو عليها أية سياسات أخرى.
على المسجد الأحمر (لال مسجد) هذا الواقع بالقرب من المقر العام لجهاز المخابرات الباكستانية، الذي تولى دعم وتدريب المجاهدين الأفغان وأنصارهم، كان يتردد كبار قادة البلاد والنخب السياسية ورموز المؤسستين العسكرية والأمنية، بما فيهم الرئيس الأسبق الجنرال "ضياء الحق"، الذي جمعته علاقات خاصة مع إمام المسجد في حينه مولانا عبدالله الذي اشتهر بخطبه النارية ضد الروس و"الأفغان الحمر" وبتحريضه المسلمين على الجهاد ضدهم.
منذ تلك السنوات المبكرة عرف الباكستانيون هذا المسجد كمركز لتجمع الأصوليين والمتشددين من الداخل والخارج، وتالياً كمؤسسة ضخمة تتبعها المعاهد الدينية المجانية وأماكن الإيواء والإعاشة للآلاف من الدارسين من أبناء القبائل، حيث كانت تجري عمليات غسل دماغ منظمة لتوفير الوقود البشري لحرب الجهاد الأفغاني.
وباغتيال إمامه مولانا عبدالله في التسعينيات، انتقلت إدارة المسجد وملحقاته إلى ولديه "مولانا عبدالعزيز" ومولانا "عبدالرشيد غازي"، اللذين واصلا عمل والدهما في إشاعة الأفكار المتطرفة وتهيئة الفتية والفتيات لحروب الجهاد -رغم زوال "الخطر الأحمر"- تحت علم وبصر السلطات، بل لقد راحا يتفاخران بعلاقتهما واتصالاتهما برموز تنظيم "القاعدة" بما فيهم أسامة بن لادن. كان هذا بطبيعة الحال قبل هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، أما بعدها فقد دأب الرجلان إيثاراً للسلامة على نفي وجود أية علاقة لمسجدهم ومدارسهم الدينية بـ"القاعدة"، لكنهما لم يتوقفا عن التحريض علناً على الجهاد ضد الأميركيين مع توجيه انتقادات قاسية لنظام حكم الرئيس الجنرال برويز مشرف، بل الدعوة إلى اغتياله.
وبتكرر المحاولات الفاشلة لاغتيال مشرف، وثبوت ارتباط أحد الذين قاموا بتفجيرات مترو الأنفاق اللندنية في يوليو 2005 (الشاب البريطاني من أصل باكستاني شاهزاد تنوير) بـ"المسجد الأحمر" ومدارسه الدينية، صار المسجد وملحقاته هدفاً للتضييق والإغارة من وقت إلى آخر من قبل الأجهزة الأمنية، لاسيما بعد إعلان "مشرف" أن التحقيقات أشارت إلى أن منفذ الهجوم الانتحاري على فندق "ماريوت" في إسلام أباد في يناير من العام الجاري كان متواجداً بالقرب من المسجد في يوم تنفيذ العملية.
غير أن عمليات الأجهزة الأمنية ضد المسجد ظلت تتسم بالسطحية، لاسيما وأنها جوبهت بمقاومة شرسة من طلبة
وطالبات المعاهد الدينية الملحقة به، وتحديداً معهدي حفصة وفريدة الدينيين اللذين ظهر طالباتهما المبرقعات بالعصي ورشاشات الكلاشينكوف، الأمر الذي ساعد على تمادي مولانا عبدالعزيز (46 عاماً) وأتباعه في تحدي الدولة ومؤسساتها.
والحقيقة أن حكاية المسجد الأحمر تقدم مثالاً جديداً على أنه متى ما تهاونت السلطة في تطبيق القانون والنظام أو راهنت على ذلك من أجل تحقيق مكاسب سياسية خاصة، فإن الوطن يصبح عرضة للتمزق والتفسخ، كي لا نقول الانهيار التام على حد وصف أحد الصحفيين الباكستانيين ممن كتبوا مؤخراً ينعون إسلام أباد الجميلة التي كانت يوماً ما واحة للسلام والتعايش والأمن، فإذا بها اليوم على شفا الفوضى.
وبعبارة أخرى، فإن تراخي قبضة السلطة في تطبيق القانون والنظام لأي سبب هو مدعاة وحافز على خروج كل من هب ودب على الدولة ومؤسساتها ونظامها، على نحو ما فعله مولانا عبدالعزيز مؤخراً حينما أمهل الحكومة مدة شهر لتطبيق أحكام الشريعة كما يفهمها هو، وأعلن عن قيام ما يشبه الحكومة البديلة والمحاكم الشرعية الخاصة على النمط "الطالباني" داخل مسجده، وحذر من أن أية محاولة من قبل السلطات لإخضاعه ستواجه بعمليات انتحارية ضد منشآت الدولة ورموزها، بل لقد بدأ العمل فعلاً في تطبيق أحكامه الشرعية "الطالبانية" بإصدار فتوى بمعاقبة وزيرة السياحة "نيلوفر بختيا" على خلفية مجرد ظهورها مع مظليين فرنسيين. هذه الأفعال والتهديدات التي تؤسس لظاهرة خطيرة غير مسبوقة في تاريخ هذه البلاد ذات القدرات النووية جاءت تتويجاً لما قام به أتباع الرجل في الأشهر الأخيرة من عمليات تهديد وحرق لمحال بيع أشرطة الفيديو وأقراص الكومبيوتر المدمجة وصالونات الحلاقة الرجالية ومحال الخياطة بدعوى تغريب الشباب وإفسادهم، وخطف للنساء بدعوى إدارتهن لأماكن البغاء أو عدم التزامهن بالتقاليد والملابس الإسلامية، وغير ذلك مما لقي استحسانه ودعمه معطوفاً على إعلانه عن استعداده للزواج من المختطفات التائبات. هذا فضلاً عن حملات أتباعه وطلبته وطالباته المبرمجة لإعاقة عمل الحكومة في استرداد أراضي الدولة التي سطت عليها الجماعات الأصولية لإنشاء المساجد العشوائية، وقيامهم باحتلال بعض المباني العامة كمكتبة الأطفال القريبة من مسجدهم "الأحمر".
مثل هذه الجرأة في تحدي القانون ومؤسسات الدولة ونظامها، ما كان لها أن تظهر، وتستمر لو أن الحكومات الباكستانية المتتالية منذ رحيل "ضياء الحق"، تصرفت بحزم وحسم مع محاولات الجماعات الأصولية المتشددة "طلبنة" المجتمع الباكستاني، والتي حذرنا منها في مقالات سابقة قديمة، يوم قلنا إن خلق باكستان لحركة "طالبان" ودعمها من أجل استخدامها كمخلب لتحقيق طموحاتها الاستراتيجية في أفغانستان سينقلب عليها يوماً ما.
الأمر المخجل هو أن قوى الإسلام السياسي الممثلة في البرلمان وعلى رأسها حزب "جماعت إسلامي"، ذو التوجهات والروابط المعروفة بتنظيم "الإخوان المسلمين"، بدلاً من أن تستنكر أعمال تحدي النظام والقانون هذه مثلما فعلت الأحزاب السياسية الباكستانية الأخرى ومؤسسات المجتمع المدني وجماعات حقوق الإنسان المحلية، قادتها خصومتها مع نظام برويز مشرف وطموحاتها في إسقاطه إلى الصمت أو التحذير من استعمال القوة ضد إمام "المسجد الأحمر" وأتباعه. ومثل هذه المواقف لئن أكدت شيئاً، فإنما تؤكد للمرة الألف أن هذه القوى تضع مصالحها السياسية الخاصة فوق كل اعتبار، وإن كان الثمن خراب الوطن وتمزقه وسقوطه في أتون الفوضى والتخلف.