ترياق لبنان في الرياض؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عرفان نظام الدين
سألت صديقاً لبنانياً، وهو وزير سابق، ما رأيك بمواقف فلان بالأمس وهل ستقابل بردود فعل عنيفة؟ بكل هدوء وجدية اجابني: "لا أعرف ولم أتابع. فأنا لا أستمع الى الأخبار منذ مدة... لقد فضلت ان أنضم الى ابني في متابعة وقائع مباراة مانشستر يونايتد واي سي ميلان فتمتعت بها وسعدت بالروح الرياضية التي يتمتع بها اللاعبون على عكس معظم اللاعبين في ديارنا غير العامرة".
صعقت لهذا الرد المؤلم وسألت نفسي إذا كان الصديق السياسي يتخذ مثل هذا الموقف الرافض والمقاطع لهذه المضحكات المبكيات التي يعيشها لبنان منذ الصيف الماضي، فكيف بحال المواطن العادي الذي يكتوي بنار الخلافات وتهتز فرائصه من أحاديث الفتن ومخاوف فتح صفحات الحرب السوداء ويتعذب يومياً، بل كل لحظة، بالاعتصامات التي شلّت البلاد والتصريحات النارية والخطب الرنانة والتظاهرات والتظاهرات المضادة والاتهامات المتبادلة التي انحدرت الى درك الشتائم والتهديدات والتخوين والأكاذيب والمغالطات والأضاليل، بحسب توصيف الإعلام ورجال السياسة الأشاوس.
هذا المواطن الضائع وسط هذه الأمواج العاتية التي تهدد حاضره ومستقبله وحياة أطفاله ومصير أحفاده، بل ومصير الوطن كل الوطن، وسط إسفاف ما بعده إسفاف دخل فيه الإعلام طرفاً، فسقط في درك السياسيين إن لم يكن قد أسقط نفسه في فخ الانحياز واللاموضوعية والتضليل فتحول بعضه، إن لم أقل كله، الى أبواق تردد في مقدمات نشرات المحطات ومانشيتات الصحف مواقف مجتزأة واتهامات ما أنزل الله بها من سلطان كأنها متاريس حرب كلامية تمهد السبيل لمتاريس حرب حقيقية مدمرة. وهكذا ضعنا وضاع معنا المتلقي المغلوب على أمره في هذه المتاهات فلجأ الى المنجمين لحل الألغاز وفك العقد أو اضطر الى الخضوع لجلسات تعذيب عبر "الريموت كونترول" لمتابعة جميع المحطات والاستماع مرغماً الى نشرات اخبارها وبرامج الزعيق والصراخ والحوارات الساخنة والنعيق لعله يعرف الحقيقة فيصل الى حائط مسدود يضرب به رأسه، لأن الحقيقة ضائعة، وفي بعض الأحيان مغتصبة أو ذبيحة قدمت كقرابين على مذابح الشهوات والمطامع والعناد والتعنت والأحقاد والطائفية والمذهبية والحزبية الضيقة التي ادت في الماضي الى إشعال نار حروبها وحروب الآخرين على ارض لبنان.
ولم أكد أستفيق من صدمة الصديق اللاجئ الى كرة القدم هارباً من لغة الأقدام و "الرفس" و "اللبط" السياسي حتى فاجأني صديق آخر بالقول: انا لا أحب كرة القدم لهذا لجأت الى برامج الحيوانات لأعيش معها في عالم المحبة وأتحسر على أحوالنا ورفضنا الاقتداء بها في تضامنها وأسلوب حياتها القائم على العمل الجماعي والانضباط فترى القرود تطلق صرخات الإنذار عن خطر قادم فتتجمع موحدة الصفوف على الأشجار، ثم تتابع مسيرة الفيلة فتجد أنها تسير في صف واحد لا انحراف فيه ولا خروج ولا شذوذ. إنه عالم ساحر يأسف لمن يغوص في أعماقه لحالنا كبشر وكعرب ما ان أفقت من الأحلام والأشجان التي أثارها الصديق حتى فاجأني صديق ثالث بقوله: هذا هو الواقع المرير فحتى الحمار الذي ظلمناه وقذفناه بالتهم وسخرنا من "غبائه" لا يقع في الحفرة نفسها مرتين بينما نحن نقع في الحفرة مرات ومرات، وهي حفرة الفتن والحروب والخلافات والأحقاد والعصبيات ولا نتعلم من الدروس ولا نتعظ ثم ندعي اننا على حق وأن غيرنا على باطل ونمضي في غيّنا لننحر انفسنا وندمر اوطاننا ونتلذذ بالدماء البريئة المسفوكة ظلماً.
ولبنان اليوم يقف على مفترق طرق مملوءة بمثل هذه الحفر القاتلة ولم يعد ينفع معها المسكنات والمهدئات والحلول الجزئية، فالأزمة خطيرة والنيران لا تهدد كيانه وحاضره ومستقبله فحسب بل مصير المنطقة بأسرها ولا بد من تحرك سريع وجدي لنزع الصواعق وإطفاء النيران التي تقترب من براميل البارود.
ويبدو واضحاً من خلال المواقف المعلنة او الخفية، ان الطريق مسدود على صعيد الحل من الداخل، أي بيد الأفرقاء اللبنانيين، وهذا ما يستدعي تحرك الأشقاء وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية راعية اتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهلية اللبنانية عام 1989.
فبعد نداء رئيس مجلس النواب نبيه بري وتجاوب رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري وترحيب الأمين العام للأمم المتحدة تأزمت الأمور وبدا واضحاً ان ترياق لبنان متاح في الرياض، وأن العلاج يتطلب رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز نظراً الى ما يتمتع به من حكمة ودراية ووزن ثم بصفته رئيساً للقمة العربية.
ولكن أي تحرك من جانبه يتطلب توافقاً لبنانياً على الحل ولو من حيث المبادئ العامة وبيان النيات، لأن السعودية ترفض ان تكون ساحة للخلافات والجدل البيزنطي وترفض الانحياز لأي طرف بل هي تريد ان تكون حاضنة للاتفاق وراعية للقاء وضامنة له ولأطرافه وسبل تنفيذه وفق آلية واضحة وبرنامج زمني محدد.
ولهذا لا بد اولاً من إنهاء كل مظاهر التوتر والتشنج، واستئناف الحوار الوطني ما يستدعي عودة الأمين العام للجامعة العربية برفقة مبعوث سعودي خاص يمثل رئيس القمة بديلاً عن ممثل الرئيس السابق الموفد السوداني مصطفى اسماعيل. فإذا خلصت النيات واتفقت الإرادات على إنقاذ البلاد والعباد ووقف مسيرة الانهيار التام والتفكك في مؤسسات الدولة يمكن وضع تصور عام لإقرار نظام المحكمة الدولية أولاً وسحبها من التداول ثم البحث في تشكيل حكومة وحدة وطنية والاتفاق على إجراء انتخابات الرئاسة في موعدها أو في موعد مبكر ووضع قانون عصري للانتخابات والعمل على تسريع خطوات الانتخابات العامة والاتفاق على آلية تنفيذ القرار الدولي 1701 والوصول الى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار.
فإذا تم نزع صواعق التفجير ووضع ميثاق شرف لوقف التراشق الاتهامات وتجنيب الإعلام اللبناني مزالق الانحياز والالتفات إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه يمكن الانتقال في مرحلة لاحقة الى الرياض لوضع اللمسات النهائية على إعلان الاتفاق الوطني المبشر للبنانيين بزوال الغمامة ورسم بداية مشرقة لوطن جميل كان مثالاً للتعايش والتطور والانفتاح والحرية والديموقراطية في المنطقة والعالم.
ولا شك في ان كل هذا يتطلب وقف المهاترات وتوافر النيات السليمة البعيدة من التدخلات الخارجية وتوجيه كل الجهود نحو الوفاق الوطني وهذا ما يسعى إليه الراعي السعودي الذي يمثله خير تمثيل السفير الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة الذي نجح في نزع الكثير من الصواعق وأزال العديد من الألغام مكملاً مسيرته الناجحة منذ كان وكيلاً لوزارة الإعلام ثم سفيراً في تركيا والاتحاد السوفياتي. ومن يعرف شخصية الملك عبدالله بن عبدالعزيز يدرك جيداً صدق نياته وتصميمه الأكيد على حل الأزمات العربية وحقن الدماء وتحقيق الوفاق... فبعد ايام قليلة على اتفاق مكة بين الأخوة الفلسطينيين برعاية السعودية تحدث خادم الحرمين الشريفين بعاطفة جياشة عن محبته لبنان وعزمه على مساعدته ودعمه لإخراجه من محنته، وعندما سألته: هل هناك من امل في الحل، اجاب بثقة المؤمن: الأمل بالله عز وجل قبل كل شيء وبإخواننا اللبنانيين ثانياً فحرام عليهم التفريط بوطنهم الرائع وتدمير إنجازاتهم. وعدنا لسؤاله: هل في الأفق احتمال الدعوة الى "طائف-2"، قال: إن شاء الله كل شيء ممكن، ولكننا نعمل بتؤدة وحذر... خطوة خطوة ولن نتخلى عن مسؤولياتنا العربية والإنسانية في إنقاذ لبنان وإعادة البسمة الى شفاه أطفاله وإعادة الأمل إلى قلوب أهله الأعزّاء.
بهذه الكلمات لخص الملك عبدالله الموقف، ولا شك في أن توليه رئاسة القمة سيزيد من تصميمه على المضي قدماً في إيجاد المخرج المناسب لحل الأزمة اللبنانية ولكن هذا سيتطلب تحركاً مماثلاً من القادة اللبنانيين ودعماً عربياً وإقليمياً ودولياً لمساعيه الحميدة.
ومع هذا لا بد من التحذير من أن أي اتفاق على القضايا الخلافية الراهنة ما هو إلا مشروع تهدئة ومجرد دواء مهدئ ومسكّن للآلام، إذ أن المطلوب أكبر بكثير بعد الانتهاء من حل مشاكل المحكمة والحكومة والرئاسة والانتخابات حتى يتم قطع دابر كل ما يروج على تقسيم وتفتيت وفيديراليات.
فالمطلوب حل دائم يمنع تجدد الأزمات ويعيد الثقة للبنانيين بوطنهم وللعرب والعالم بلبنان. فمن غير المعقول ولا المقبول أن يعيش البلد، أي بلد، على هاجس حرب طائفية أو أزمة مستعصية بمعدل مرة كل عشر سنوات. ولهذا لا بد، بعد أن تهدأ النفوس، من بدء الحوار الحقيقي من أجل الوصول إلى حل دائم وثابت لا يهتز عند أول هبة ريح؟
ولا بد من تنفيذ جميع بنود اتفاق الطائف أولاً ثم البحث في إمكانات تصحيح مساره أو تعديل بعض بنوده. ولا بد أيضاً من إلغاء الطائفية ونزع الفتن المذهبية وحل مشكلة الديون وإيجاد فرص العمل للعاطلين وحل قضايا المغتربين وإيجاد صيغة لإقامة علاقات أخوية متينة بين سورية ولبنان وفق الصيغة التي توصل إليها مؤتمر الحوار الوطني والمبادئ التي رسمها الميثاق الوطني وإزالة أسباب الجفاء وإعادة اللحمة إلى روابط الدم والنسب والقرابة والمصالح المشتركة بين الشعبين والبلدين إضافة إلى وضع إستراتيجية دفاعية تعيد الاعتبار للجيش الوطني وتحل معضلة السلاح ومخاطر الحروب.
وأدرك تماماً صعوبة التوصل إلى حلول لكل هذه القضايا التي تحول بعضها إلى معضلات مستعصية على الحل، بكل أسف، ولكن الخطوات الأولى ضرورية في رحلة الألف ميل وهي تبدأ في العودة إلى الحوار وإزالة كل مظاهر الأزمة الأخيرة وإعادة بناء الثقة بين أبناء الوطن الواحد والمصير المشترك وبعدها تبدأ رحلة البحث عن الترياق من الرياض، كما قيل لا بد من الرياض ولو كان السفر. لتبدأ بعدها رحلة العلاج الطويلة ومرحلة النقاهة والشفاء من أدران مرض مزمن يفتك بجسد لبنان ويقض مضاجع كل اللبنانيين.
وما دمنا في حديث الترياق من الرياض لا بد من التذكير بوصية الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز للبنانيين بعد مؤتمر الطائف وجاء فيها:
"إن وطناً مثل لبنان عاش في كنفه التعايش والوئام، لا يجوز أن يتحول لأي سبب من الأسباب إلى معترك وإلى الصراع المرير الذي عصف به واستمر طيلة هذه السنين، فالحوار السياسي أفضل السبل لاحتواء الخلافات. ولكن كما للحرب عدتها فإن للسلم أيضاً عدته، عدة الحرب الشك، وعدة السلم التعاون. إن لبنان لم يعد يتحمل المزيد من النزاعات المدمرة ولا المزيد من الخلافات العميقة. إن وطنكم أمانة في أعناقكم ولن يصنع السلام إلا الثقة والوئام، وباب الحوار والاتفاق مفتوح لإنهاء المأساة اللبنانية والإدراك بأن كل النزاعات والخلافات مهما كبرت لا تساوي دمعة في عين طفل أو صرخة من أم ثكلى فقدت ولدها أو آهة تصدر من أسرة فقدت رب الأسرة أو معيلها".
بهذه الكلمات المؤثرة والمعبرة خاطب الفقيد الكبير اللبنانيين والعرب، أوردها هنا متمنياً أن يأخذوا منها العبر والدروس ويعملوا على تنفيذ مضامينها، ومن خلالها أيضاً خاطب أمته لعلها تستخلص منها العبر.
أذكّر بها اليوم لتكون نبراساً للعمل العربي والعقل العربي!
كما أذكر للمناسبة الزعيم الوطني الراحل صائب سلام صاحب شعارات "لبنان واحد لا لبنانان" و "التفهم والتفاهم" و "لا غالب ولا مغلوب" ومن حكمه اختار ما يصلح للأوضاع الراهنة مثل: "علينا أن نعمل على إنقاذ الحرية لكي ننقذ هذا الوطن". و "التفهم والتفاهم يبقيان الصيغة الوحيدة الضامنة عندما تسلط عليها قوى العقل والرؤية والمصلحة العامة في جميع الأمور.
و "لبنان يعيش على المحبة، ولا يمكن أن يكون لبنان من دون المحبة".
نعم المحبة هي كلمة السر، ومشكلة البعض أنهم يدعون حب لبنان ويعملون على تدميره ونسف الأسس التي قام عليها وبنى سمعته وزين تجربته الفريدة عليها.
وقد تنبه شاعرنا الراحل الرائع نزار الذي نذكره اليوم في ذكرى وفاته إلى هذا العامل الحيوي وإكسير الحياة للبنان وللعرب وهو الحب عندما قال: كل ما يطلبه لبنان منكم أن تحبوه... تحبوه قليلاً ثم عندما حذر اللبنانيين وغيرهم بقوله: إن يمت لبنان متم معه/ كل من يقتله كان القتيلا.
وماذا يستفيد الرابح من سجادة نادرة مثقوبة بمليون رصاصة؟!