الكويت : عود على بدء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مشاري الذايدي
في الكويت، حيث أكتب منها هذا المقال، رأيت في يوم واحد ما يمكن أن يلخص المشهد الكويتي كله، وربما الخليجي معه.
هنا في الكويت، لا حديث للمشهد السياسي والإعلامي الا حديث تعديل الدستور وحل المجلس وكلمة الأمير التي قالها في اجتماع حاشد لأبناء الأسرة الصباحية، أمس الأول، اجتماع حضره من يبلغون الأربعين عاما فما فوق، هذا الحديث الذي اتفق أعضاء مجلس الأمة في جلستهم التي عقدت أمس على أنه كلام حاسم، ألغى اللغط حول قصة تعديل الدستور أو حل المجلس، على الأقل إلى فسحة معينة من الوقت كما رأى البعض.
حضرت الجلسة البرلمانية التي كان مقررا لها أن تناقش مشكلة "انفلونزا الطيور" مع وزيرة الصحة د. معصومة مبارك، استعاضت عن نقاش انفلونزا الطيور، بالانلفونزا السياسية التي رشحت منها الكويت خلال الأيام الماضية، وكانت تهدئة هذه الرشحة والعارض الصحي على الجسد السياسي من خلال ترياق الكلمة الاميرية التي نفى فيها الأمير بشكل حاسم تعديل الدستور أو حل المجلس، مع انه سبق أن ذكر هذا الشيء كما نبه بعض النواب في مداخلاتهم، ولكن قيمة الكلمة التي جاءت في اجتماع ـ يفترض ـ أنه سري بين الأمير وأعضاء الأسرة الحاكمة، ونشرتها الصحف وأشاد بها النواب، من كل الأطياف والكتل، قيمتها أنها تضمنت نقدا من الأمير لأبناء الأسرة الذين تسربت بعض خلافاتهم إلى الصحف، وقال الأمير صراحة لهم إن العيب ليس في الدستور بل في بعض مطامح أبناء الأسرة وفي إخراجهم لخلافاتهم المصلحية علنا، وأنه يجب أن تكون الأسرة قدوة ومرجعية لكل أبناء الكويت، لا بل إن الأمير ذهب أبعد من ذلك وقال إن النائب المعارض الشهير احمد السعدون، زعيم التكتل الشعبي، قد فهم بشكل خاطئ من قبل بعض الصحف الموالية وحورب على غير أساس، وأنه شخصيا لا يرى فيما قاله السعدون شيئا خاطئا، فهو كان يدافع عن مكتسبات الدستور والديمقراطية.
هذه الإشادة من الشيخ صباح بالنائب الشرس احمد السعدون كانت محط اهتمام المراقب الكويتي، وقد سمعت ذلك شخصيا من الدكتور احمد الخطيب، الرمز المعارض العلماني الأشهر في الكويت، ونائب رئيس المجلس التأسيسي الذي أصدر دستور الكويت سنة 1962، ذكر الخطيب ملاحظته هذه حول دفاع الأمير عن السعدون حينما رأيته في ديوانية مجلة الطليعة، وقال إنه يعتبر هذه الإشادة نقطة تحول.
هل يعني هذا أن الحياة السياسية في الكويت قد تعافت؟ وان الجدل قد انتهى، والنقاش والهواجس حول مستقبل الحكم، وصيغته، حسمت الى غير رجعة ؟ كثيرون ممن التقيت في الكويت، بقدر ما هم مرتاحون لهذا المطر الاميري الذي اطفأ نار السجال بين المعارضة، وبين بعض محازبي الحكومة، حول تعديل الدستور، لا يرون ان هذا الجدل قد انتهى، بل إن البعض، وهذا من الغرائب، وعلى خلاف المعارضة المطلقة لتعديل الدستور، لا يرون في مبدأ تعديل الدستور بأسا، لأن الدستور نفسه وضع آليات لهذا التغيير، فهو من حيث المبدأ غير مرفوض، ولكن الخشية من عدم صلاحية الأجواء الحالية فتح النقاش حول هذا التغيير، بسبب عدم "استقرار الأجواء" كما قال لي المحامي محمد الدلال عضو المكتب السياسي للحركة الدستورية الإسلامية (ذراع الاخوان المسلمين السياسية).
المحامي الدلال قال، ومن قبله رئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي، إن الدستور ليس قرآنا غير قابل للمس والتغيير، ولكن المشكلة تكمن في النفوس وتوتر الجو، خصوصا بعد أكثر من تجربة من تجارب حل المجلس التي لم تثمر أداء سياسيا أفضل، والأمر كما قال لي احد أقطاب أسرة الصباح :"جربنا حل المجلس حلا غير دستوري أكثر من مرة، فلم تتحسن النتيجة ولم تنجز القوانين، ولم تتسارع الحركة، فلماذا نعيد تجربة فاشلة".
لكن هناك من يخشى في الكويت على منجزات الدستور الأساسية، فالدستور صبغ الكويت بصبغة مدنية، ويخشى من فتح باب التعديل، أن يكون ذريعة لتغيير هوية الكويت إما لصالح القوى الاصولية او لصالح قوى اخرى.
حديث الشارع السياسي الكويتي حديث غني وثري وحافل بالإثارة، وطالما اعتقدت شخصيا، مع حفظ ملابسات كل حالة على حدة، ان المشهد الكويتي يصلح، إلى حد كبير، كنموذج مصغر، أو مكبر، لحالات أخرى في دول الخليج لم تمر بنفس التجربة السياسية الكويتية، من باب "قياس الغائب على الشاهد"، كما يقول علماؤنا الأول.
ولكن الأمر الذي رأيته يحتل مساحة كبيرة من اهتمام الساسة والمراقبين في الكويت، غير لغط الداخل، هو الحديث عن الضربة الأمريكية المزمع توجيهها لإيران، باعتبار أن الكويت على مرمى حجر من الشواطئ الإيرانية. وفي أمسية ببيت احد الساسة الكويتيين، وحينما جرى الحديث عن ضربة إيران، اخبرني أنهم قلقون جدا، ثم أشار إلى نافذة بيته المطل على البجر، وقال:"انظر من هنا، خلف هذا المنظر الجميل الذي تراه، تقبع مفاعلات بوشهر الإيرانية، أنا كنت أرى نيران الحرب في هدأة الليل تلمع من (الفاو) أثناء الصراع الإيراني العراقي". يضيف محدثي:"نحن في فوهة المدفع"، ويتابع :"المشكلة ان هناك غموضا يلف الضربة، فلا الامريكان يخبرون أحدا بما هم فاعلون حقا، ولا نحن نعرف بالضبط ما الذي سيجري".
لكن هذا الغموض لم يطل الصحافة الكويتية، فقد كان لافتا لكثير من الصحفيين التحقيق الذي أجرته صحيفة "الأنباء" الكويتية من خلال قيام موفديها بزيارة صحفية ـ عسكرية، الى حاملة الطائرات الامريكية القابعة على مياه الخليج، وقال لي الصحافي محمد الحسيني، الذي قام بهذا التحقيق مع زميله:"سألت قائد الحاملة عن الحرب الإيرانية، فقال: لم نؤمر بشيء لكننا جاهزون جدا".
طبعا هذا الامر مقلق لكل الخليجيين، لكنه مقلق للكويتيين بدرجة متقدمة بسبب تبعات الحرب على الاستقرار، ولكن ما هو الحل؟ هل تترك ايران نووية؟! هي تريد السيطرة والاندفاع بدون الأنياب النووية، فكيف إذا ما برزت لها مخالب وأنياب من يورانيوم؟!
النفط! لا تنسوا النفط، فهو سلعة الكويت الأساسية، وفي السنتين الأخيرتين سجلت الكويت فائضا في الميزانية، وإن كان هناك عجز في الميزانية المعلنة، لكنه بمصطلح أهل الاقتصاد "عجز دفتري" أي انه بحسبة وزارة المال، ايرادات النفط المحسوبة في الميزانية محسوبة على أسعار معينة للنفط قبل أن يرتفع ليناهز حاجز السبعين دولارا، بل انه قد يصل إلى حاجز المائة دولار، كما قال لي شخص ممن يوثق بمثله في مثل هذه الأمور.
الكويت، لا تملك منفذا غير الخليج لتصدير نفطها، وبالتالي فأي إغلاق او مشكلات في مضيق هرمز، ستكون خطيرة جدا على نفط الكويت.
المشاهد في هذا البلد المطل على فم الخليج كثيرة، والهواجس الكويتية، الداخلية والخارجية أكثر، وهي في جلها هواجس خليجية أيضا، إنما أحببت تسجيل بعضها هنا، ومن ثم السؤال: هل يدرك بعض من يتحدث عن بعد هنا من إخواننا العرب المناضلين والثوريين الدائمين ضد امريكا، انه توجد هناك لغة أخرى غير لغة الثوريات والشعارات التي ما قتلت ذبابة. هناك مصالح وموارد أساسية عرضة للخطر، ولا علاقة لها بما يحبه او يكرهه المنظرون عن بعد، كما فعل "الطيبون" من الأحزاب السياسية في الأردن وغيرها ممن هتفوا تضامنا مع احمدي نجاد ضد الشيطان الأمريكي.
الخلاصة التي خرجت بها في المسألة الإيرانية من هناك: نعم هناك خطر من ضرب إيران، يكمن في الفوضى وربما الإرهاب الإيراني، بل بعض المشكلات البيئية، ناهيك من حالة التحريض الإعلامي على دول الخليج حتى ولو أبدت معارضتها لضرب إيران، كل هذا صحيح، ولا يوجد عاقل يرغب في حصوله، ولا يوجد إنسان سوي يحب أن تقع حرب على بشر، فالحرب طاعون الحياة. ولكن، وفي المقابل، هناك أيضا سيناريو خطر، وجدي يكمن في أن ايران نجاد الثورية ذاهبة في اتجاه التسلح النووي، الأمر الذي سيعني تمكين ايران من اسباب قوة غير تقليدية ستحاول بها فرض أجندتها على "الخليج الفارسي"، خصوصا بعد أن ينجح مسعاها في "تطفيش" الامريكان من العراق، كما تتمنى وتخطط وتنفذ، هناك في العراق، وبالتالي، وبعد أن يطفش الامريكان، ويهربوا من العراق، يخلو لها الجو، بعد أن خلا أصلا من عدويها الاكبرين في المنطقة: صدام حسين من الغرب، وطالبان من الشرق، وهنا يصير السؤال، خليجيا : كيف تترك إيران تصل إلى لحظة الوحش الكامل، ونحن نراها تستعد لاعتقالنا، ولا نفعل سوى الفرجة ؟
خياران صعبان، ولكن هكذا هي الحياة، من قال انها اختيار بين الصح والخطأ، او بين الاسود والابيض؟ احيانا قد يكون الأبيض فيه شيء من السواد والأسود فيه شيء من البياض، وقد تحتج الى تجرع العلقم حتى تشفى.
هذا هو الانطباع الذي راقبته على شطآن الكويت، وفي نفوس كثير من اذكيائها.. ولسان حالهم وهم يرون الجدل الداخلي الساخن: نار الأهل ولا جنة الأغراب.
وربما كانت مياه الخليج تنقل ذات القلق إلى ضفاف الخليج الأخرى، وتسجل نفس الهواجس...
الكويت، منصة تستطيع أن ترى منها نخيل العراق المحترق، ومفاعلات إيران التي توشك على الاحتراق، ورمال الجزيرة العربية التي تعودت على السكون وابتلاع المخاطر كلها، ثم السكون مجددا .