حين يؤرخ التويجري لعبد العزيز وهيكل لعبد الناصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
فؤاد مطر يربط بين سيرتين في سياق واحد
بيروت -سمير شمس
لا يضم هذا الكتاب لفؤاد مطر سيرة قائدين كان لكل منهما أسلوبه في توحيد الأمة العربية، ولا سيرة كاتبين عايشا الأحداث فدرساها وأرّخاها ليقدماها للقارئ بتفاصيلها وخباياها وخفاياها، إنما يخلط السيرتين في سياق واحد: الشيخ عبد العزيز التويجري يؤرخ للملك عبد العزيز آل سعود، ومحمد حسنين هيكل يؤرخ لجمال عبد الناصر.
كتاب الشيخ عبد العزيز التويجري "لسراة الليل هتف الصباح" الصادر عام 1997 وكتاب "عند الصباح حمد القوم السرى" الصادر عام 2004 دراسة وثائقية عن الملك عبد العزيز آل سعود، هو مزيج من الذكريات والمذكرات ومن السيرة الذاتية. وأهميته تتوزّع على وجدانية لم تفارق قلم التويجري وهو يكتب كتابه، وعلى شهادات لها طابع الوثائق في بعض جوانبها، حرص على أن يثبِّتها في كتابه ليدعم المنحى الوجداني في التناول.
يرى المؤلف أن اعتماد بعض هذه الشهادات والوثائق- المنشورة في كتب وضعها عرب وأجانب وفي مجلات سبق أن صدرت في الأربعينيات من القرن العشرين- من قبل الشيخ التويجري أعطاها صفة الشهادة الصادقة والوثيقة التي لا شك بصحتها، وذلك من موقعه الرسمي من جهة وبعلاقته التراثية بالملك عبد العزيز من جهة أخرى مما يؤكد صحتها وسلامتها. فالكاتب لم يعايش بطل كتابه لسنوات فقط، وإنما كان من الذين عملوا في رحاب مملكته، وبطبيعة الحال فإنه لا يكتب بمنهج الزوّار أمثال أمين الريحاني، أو بمنهج المستشرقين الذين تتبعوا مسيرة الملك، وإنما يكتب بمنهج القريب من صاحب القضية ولديه رسائل بخط اليد تعود لسنوات 1939 و1942 و1947. وفي هذه الحال يسلّط الضوء على الجوهر أكثر من انبهاره بالمظهر كما هي حال الزوار العابرين وحال المستشرقين. إضافة إلى ذلك أن وضعية التويجري تتيح له أن يسمع من سعوديين، عاصروا الملك عبد العزيز، أو عملوا في ديوانه ما لا يمكن أن يرويه هؤلاء لأحد غيره. وهذا يحقّق الوصول إلى أعماق الملك عبد العزيز.
يستوقف قارئ كتاب التويجري، كما يلحظ المؤلف، هو التركيز إلى درجة الانبهار، على الرؤية الوطنية للملك الراحل، وتركيزه على خصال الملك التي فيها الكثير من خصال الذين كانت لهم في زمن الرسول العربي مواقف مبدئية أفادت في نشر الدعوة. في مجال الرؤية الوطنية يستوقفنا قول الملك عبد العزيز: "إن العروبة والإسلام جسد وروح، فلا عروبة إلاّ بالإسلام". وقول الملك الراحل: "وطننا العربي والإسلامي كما هو معلوم ومرئي قسّمته الأيدي الآثمة وبددته، وزرعت الفتن بين الأخ وأخيه. وأنا لا أهل لي غير العرب والمسلمين ولا وطن لي إلاّ وطنهم ولا عزّ إلاّ بعزهم، ولا حرية إلاّ بحريتهم.." وعند التأمل بأحوال الوطن العربي اليوم نلاحظ أن العلاج لما نحن عليه هو في اعتماد ما رآه الملك عبد العزيز قبل أكثر من نصف قرن.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد أدرك الملك باكراً خطورة وعد بلفور، وقال: إنه ليشرفني أن أموت في ميدان القتال كشهيد لحق فلسطين العربية". وقد أرسل مذكرة للرئيس الأميركي روزفلت مؤرخة في 10/3/1945، يجد المرء نفسه لدى قراءتها اليوم أمام تشخيص وتحليل بعيد النظر لمستقبل القضية الفلسطينية. فقد توقع أن يقوم الصهاينة بسلسلة من المذابح بين العرب، كما توقع مبكراً الاعتداءات والحروب الإسرائيلية على العرب حين قال: إن مطامع اليهود ليست في فلسطين وحدها، فإن ما أعدوه يدل على أنهم ينوون العدوان على ما جاورها من البلدان العربية... ففضلاً عن أن حشد اليهود في فلسطين لا يستند إلى حجّة تاريخية ولا حق طبيعي، وأنه ظلم مطلق، فهو في الوقت نفسه يشكل خطراً على العرب والشرق الأوسط. وصفوة القول إن تكوين دولة يهودية في فلسطين سيكون ضربة قاضية على كيان العرب ومهدداً للسلم في استمرار.. وإذا نفد صبر العرب يوماً من الأيام ويئسوا من مستقبلهم فإنهم يضطرون للدفاع عن أنفسهم وأجيالهم المقبلة إزاء هذا العدوان".
يقول المؤلف: مع أن التويجري لا ينهج المنهج الافتراضي في التحليل، إلاّ أننا نجد أنفسنا نفترض وفق المبادئ التي التزم بها الملك عبد العزيز وتمسك بها بأن الرجل ما كان ليرتضي ما حدث، وكان في ضوء الثوابت الواردة في مذكرته سيعتمد نوعاً من المواجهة تخفف من وطأة الظلم، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تلك المذكرة بمضمونها ومفرداتها كانت الدافع الأساسي وراء عقد مؤتمر القمة العربي الأول في "أنشاص" في 28/5/1946 الذي خرج بمقررات تقضي برفض فتح أبواب فلسطين لهجرة اليهود، وقرار آخر يعلن التمسك بهوية فلسطين العربية واستقلالها، وقرار ثالث قضى بتشكيل هيئة وطنية تمثل كل القوى الفلسطينية "على منهج واحد ينأى بهم عن الخلافات التي تستغلها الحركة الصهيونية".
وتستوقف دراسة التويجري، كما يرى المؤلف، صفات الملك الراحل وخصاله، فهو مقدام وشغوف بالانتصار في المواجهة العلنية، واثق من نفسه ومن حتمية الانتصار. محب للعلم، مسكون ببناء الدولة الحديثة، والتحديث ممارسة موروثة نفَّذها الأبناء الذين توالوا على الحكم بعد والدهم، متسامح تسامح الحاكم المقتدر مع الخصوم، محب للعمل على نحو ما اختصر التويجري الحالة بالقول: "عبد العزيز والوقت لا يفترقان". كما تأسر قارئ الدراسة بساطة العيش التي اعتمدها الملك.
قدّم لكتاب التويجري محمد حسنين هيكل، الأمر الذي يعني أن ما جذبه لكتابة المقدمة هو شغفه بالحالات المماثلة لحالته مع عبد الناصر، مع فارق جوهري هو أن هيكل سارع إلى كتابة تجربة عبد الناصر لعلمه بأن نصالاً كثيرة سيتم إطلاقها على هذه التجربة لمجرد مواراة ناصر التراب. أما تباطؤ التويجري في وضع دراسته عن الملك عبد العزيز فلا تأتي لضرورات دفاعية، وإنما تأتي بعدما استقرّت التجربة في ضمائر الناس. وهو يكتب ليس للدفاع وإنما يريد القول أن خلاص الأمة يكمن في العودة إلى بعض المنابع. فالملك عبد العزيز أحد حكام قلائل في العالم الثالث الحاضرين دائماً في أذهان شعوبهم ولا تنطبق عليهم الظاهرة المألوفة، التي تتمثل في أن الحكام الذين يتعاقبون على الحكم يعملون على تغييب من سبقهم.
وعن رأي هيكل في الملك عبد العزيز آل سعود، يعرض المؤلف كلامه التالي: "إن الملك أسس دولة وأنشأ نظاماً، وتلك مهمة تعهد بها المقادير لرجال لا يتكررون بسهولة، ذلك أن تأسيس الدول وإنشاء النظم يحتاج أول ما يحتاج إلى إرادة تستطيع في لحظة استثنائية أن تحرّك التفاعل الكيميائي الخلاّق بين الجغرافيا والتاريخ ممّا يولِّد ويفجِّر طاقة فعل هائلة... إن الملك عبد العزيز بكل المعايير شخصية تاريخية كبيرة ضمن مؤسسي الدول ومنشئي النظم".
يعرض المؤلف في الفصل الثاني سنوات حكم جمال عبد الناصر وقلم محمد حسنين هيكل، فيكشف عن أسرار وخصوصيات ووقائع وأمنيات لا يعرفها عن الرئيس الراحل سوى هيكل التي نشرها في مجموعة كتب عن المرحلة الناصرية أبرزها "عبد الناصر والعالم".
يقول إن عبد الناصر كانت تقلقه أبدية الحكم في العالم العربي، وكيف أن الذين يحكمون يتسمرون في الموقع ولا يغادرون إلاّ بفعل الوفاة أو الانقلاب. ويكشف أن عبد الناصر أراد ثلاث مرّات تجديد شباب الثورة وفي كل مرّة كان يحدث ما يبرر التأجيل. بعد الانفصال وسقوط تجربة الوحدة أراد التغيير، لكن المفاجأة اليمنية أوجبت التأجيل. وبعد نكسة 1967 أراد ذلك أيضاً، لكن الخوف من تحميل البديل عبء تداعيات كارثة لا علاقة له بها أوجب التأجيل، وعندما اشتدت وطأة المرض عليه عام 1969 كان على أهبة مفاجأة كبرى لأنه لا يريد لمصر أن تكون محكومة بقيادة مرحلة تتطلب قدرات تتسم بالحيوية والتحرك والسفر والتواجد الدائم مع القوات التي تستعد لإزالة آثار العدوان. ثم جاءت الوفاة لتنهي الآمال والخطط والأحلام.
ويكشف أيضاً عن العلاقة السلبية بين عبد الناصر وصديق عمره عبد الحكيم عامر منذ منتصف الخمسينات فكان يطلب من هيكل أن يشارك في الوفود التي يترأسها عامر لينقل للرئيس الصورة الحقيقية للمفاوضات. أما عن الدور العربي لمصر فيرى أن عبد الناصر كان مؤمناً بأن لا مصلحة لمصر بأن تدير ظهرها للمشرق العربي لأنها بذلك تكون قطعت بيديها عن نفسها جذورها، فضلاً عن أن الأمن المصري كله موجود في الشرق، وأن اللغة جاءت إلى مصر من الشرق وكذلك الدين.
يرى المؤلف أن هيكل عقد علاقة متميزة بين الكلمة والرقم، فكان يتحدث كلاماً مقروناً بالأرقام عن أحوال مصر والعالم العربي والعالم مما وثّق المرويات وجعلها حقائق دامغة.
وبطبيعة الحال فإن إعجاب هيكل الصحافي والكاتب بعبد الناصر والنظرة إليه مثل نظرة الشيخ التويجري للملك عبد العزيز تجعل حروف الكلمات مضيئة في استمرار، فعلى مدى الكتاب يكشف التويجري وهيكل أسرار وخلفيات الأحداث وتعقيدات العلاقات التي صاغت الكثير من المواقف، يربط فؤاد مطر من موقعه الشخصي بين الكاتبين لينير خفايا أحداث تاريخية لا زلنا نعيش تداعياتها.
هيكل سارع إلى كتابة تجربة عبد الناصر لعلمه بأن نصالاً كثيرة سيتم إطلاقها على هذه التجربة لمجرد مواراة ناصر التراب. أما تباطؤ التويجري في وضع دراسته عن الملك عبد العزيز فلا تأتي لضرورات دفاعية، وإنما تأتي بعدما استقرّت التجربة في ضمائر الناس.