العولمة ورخاوة الدولة المصرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كيف نشأت وتطورت الدولة الرخوة في مصر؟
د. جلال أمين
الجميع يتكلمون منذ فترة عن "الدولة الرخوة" في مصر. البعض يتكلم عن رخاوتها إزاء الأجنبي، وعلي الأخص إزاء الولايات المتحدة، فيصفونها بالدولة التابعة.
وآخرون يتكلمون عن رخاوتها إزاء أصحاب الأموال فيتكلمون عن الفساد، أو عن رخاوتها في الضبط والربط، سواء تعلق الأمر بالمحافظة علي مستوي التعليم، أو تطبيق قواعد المرور أو تنفيذ أحكام القضاء...إلخ، كل شيء في الواقع غير الأمن، الذي يبدو أبعد ما يكون عن الضعف، فيتكلم البعض عن "النظام القوي والدولة الضعيفة".
ولكن كثيرين منا مازالوا يذكرون أن الأمر لم يكن دائمًا كذلك. ففي الستينيات كانت الشكوي من إفراط الدولة في الشدة لا في الرخاوة.
من الواضح إذن أن شيئًا ما قد حدث في أواخر الستينيات أو أوائل السبعينيات أدي إلي إصابة الدولة المصرية برخاوة العظام، فما الذي حدث بالضبط؟ وكيف تطور ضعف الدولة إلي أن وصلت إلي ما هي عليه الآن؟
منذ نحو ثلاثين عامًا، هبّت علي العالم رياح شديدة يمكن أن نسميها، تمشيا مع الاصطلاح الشائع "رياح العولمة" لم تكن هذه بالطبع أول هبّة لرياح العولمة. فالحملات الاستعمارية، قديمها وحديثها، صورة من صور العولمة.
فالاستعمار يجعل البلاد البعيدة قريبة، ويوسَّع الأسواق، ويأتي بالمواد الأولية من أقصي أركان الأرض، أي أنه يقصّر المسافات التي تقطعها السلع ورؤوس الأموال والأشخاص، بل والأفكار والعادات، وهذا هو بالضبط معني العولمة.
ولكن تلك الموجات القديمة من موجات العولمة كانت تتخذ في الغالب الأعم صورة احتلال جيوش دولة لأراضي دولة أو أمة أخري، أما الموجة الحالية، التي بدأت في الثلث الأخير من القرن العشرين، فتتسم بما يمكن أن نسميه "تفكيك الدولة".
إن موجات العولمة، القديم منها والحديث، تكمن وراءها دائمًا عوامل اقتصادية، ولكن هذه العوامل الاقتصادية التي كان يناسبها في الماضي أن تتم العولمة عن طريق الاحتلال العسكري، أصبح الذي يناسبها الآن هو العولمة عن طريق تفكيك الدولة.
تفسير ذلك أن العولمة في المرحلة الحالية تأتي في أعقاب ما يقرب من ثلاثين عامًا "هي العقود الثلاثة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية: ١٩٤٥- ١٩٧٥" اتسمت بالتدخل الشديد من جانب الدولة في الاقتصاد والمجتمع. وأنا لا أقصد مصر وحدها بل العالم الثالث كله، بل "في بعض صورها" العالم المتقدم اقتصاديا أيضًا.
كان هذا التدخل الشديد من جانب الدولة يتخذ صورة التأميم، أو إقامة أسوار الحماية ضد الواردات والاستثمارات الأجنبية، أو فرض حد أدني للأجور وحماية العمال بشتي أنواع الحماية الاقتصادية والاجتماعية، أو التدخل في تحديد الأسعار وفرض الضرائب العالية، أو إعادة توزيع الدخل لصالح فئات الدخل المنخفض، أو لتحقيق ما يسمي بدولة الرفه في الدول الأكثر تقدمًا ((Welfare State أي قيام الدولة بخدمات أساسية لكل المواطنين دون تمييز، وبأسعار في متناول الجميع.
إن موجة العولمة الحالية تهدف إلي عكس هذا بالضبط، إنها ليست إلا فيضانًا من رؤوس الأموال والسلع التي تبحث لها عن أسواق جديدة للاستثمار والتصريف، في ظل تشبع البلاد التي تنتجها وانخفاض ربحية الاستثمار فيها، بسبب تشبع الطلب من ناحية وارتفاع الأجور من ناحية أخري.
هذا الفائض من السلع ورؤوس الأموال يبحث عن أسواق جديدة واسعة لا تحيط بها أسوار الحماية، وعن فرص جديدة للاستثمار لا تتدخل الدولة فترهقها بالضرائب العالية، وعن عمالة رخيصة لا تتدخل الدولة بحمايتها بفرض حد أدني لأجورها، أو بوضع الشروط القاسية لفصل العمال...إلخ.
ويا حبذا لو تحققت هذه الفرص الجديدة للاستثمار بشراء مشروعات جاهزة "أي بالخصخصة"، فيوفر أصحاب هذه الاستثمارات علي أنفسهم أعباء المجازفة بالدخول في مجالات جديدة، وأمامهم مشروعات تامة الصنع ورابحة وجاهزة للبيع. هذا هو ما يسميه بعض الكتاب بتراكم رأس المال عن طريق "الاستحواذ ووضع اليد" Accumulation by Acquisiton)) أو ما يمكن أن نسميه "بنزع الملكية للمنفعة الخاصة" وهو عكس "نزع الملكية للمنفعة العامة".
ولكن كل هذا يتطلب دولاً ضعيفة. فكلما كانت الدولة ضعيفة سهل الحصول علي أسواق جديدة، وفرص جديدة للاستثمار بأيسر الشروط، وعمالة بأقل الأجور، وخصخصة بأقل الأسعار. فإذا كانت الدولة قوية وجب تفكيكها.
هذه بلا شك سمة من أهم سمات التطور الاقتصادي والسياسي في الثلاثين عامًا الماضية، ليس في مصر وحدها بل وفي العالم ككل. حدث في الاتحاد السوفيتي فأدي إلي سقوط الدولة السوفيتية "علي عكس ما يقال من أن هذا السقوط كان بسبب شوق الناس للديمقراطية"، وحدث في بقية أوروبا الشرقية، فأدي إلي سقوط نظام شيوعي بعد آخر، بل وحدث في أوروبا الغربية نفسها بانتشار الخصخصة وتفكيك دولة الرفه، كما حدث في بلد بعد آخر من بلاد العالم الثالث. وقد تحمل الإنسان الروسي والأوروبي وفي كثير من بلاد العالم الثالث أعباء ثقيلة نتيجة لذلك، في التعليم والصحة وفرص العمالة المتاحة، كما تحمل الإنسان المصري أعباء ثقيلة لنفس السبب.
***
كان الإنسان المصري دائمًا في أحسن حالاته في ظل الدولة القوية، عندما تكون الدولة المصرية قوية يزدهر الاقتصاد، وتُحصّل الضرائب، فتنفق الدولة علي مختلف المشروعات والخدمات العامة، وينضبط نظام التعليم، وتخلق فرص العمالة، وقد تقدم الدولة الدعم للفقراء. وعندما تكون الدولة ضعيفة لا تحصّل الضرائب، ويخرق الناس القانون، ويفقد الناس احترامهم لرجل البوليس، ويختل الأمن، ولا تحترم قواعد المرور.
وفي العصر الحديث، تنتشر الدروس الخصوصية، وتختلط مياه الشرب بمياه المجاري، ويتحرش الشباب بالنساء في الطريق العام، وتكثر حوادث تصادم سيارات الميكروباص، وتغرق العبّارات، كما يغرق الشباب المصري الذي يريد أن يصل إلي شواطئ إيطاليا واليونان في قوارب مطاطية...إلخ.
قد يقال إن هذه القاعدة تنطبق علي أي دولة، وليس علي مصر وحدها. ولكن هذا ليس صحيحًا. أو ليس صحيحًا بنفس الدرجة. فلبنان مثلاً، ما أكثر فترات ازدهاره في ظل دولة ضعيفة. ودول المغرب العربي تبدو أقل احتياجًا بكثير لدولة قوية بالمقارنة بمصر. والأمريكيون ينفرون بطبعهم من الدولة القوية، ويفتخرون بالدولة التي تتركهم وشأنهم.
أما في مصر فسواء نظرنا إلي التاريخ الحديث أو المتوسط أو القديم، سنجد أن ازدهار الحضارة المصرية وتقدم أحوال الإنسان المصري يكونان دائمًا في عصور الدولة القوية.
كثير من الكتاب يفسرون هذه الظاهرة المصرية، باعتماد مصر هذا الاعتماد الكلي علي النيل، فالنيل يحتاج إلي تدخل مستمر من جانب الدولة، أي إلي دولة مركزية قوية، لمجرد استمرار الحياة نفسها، سواء عندما يكون النيل شحيحًا بمياهه، فتتدخل الدولة بتوزيعها توزيعًا عادلاً، أو عندما يكون النيل كريمًا أكثر من اللازم، فتتدخل الدولة بحماية الأرض والسكان من اكتساح الفيضان لها.
ولكن النيل قد يكون هو تفسير الحاجة إلي دولة قوية في مصر، ليس فقط كمصدر للمياه، بل وأيضًا كسبب للكثافة السكانية العالية المتركزة حول مجري النيل. إذ كلما زادت الكثافة السكانية اشتدت الحاجة إلي دولة مركزية قوية.
من ناحية أخري، قد يكون السبب سمات في الشخصية المصرية تجعلها تميل إلي تسليم قيادها إلي حاكم قوي ولا تستطيع تنظيم مشروع بنجاح اعتمادًا علي مجرد التعاون بين مجموعة من الأفراد، بل يحتاج هذا دائمًا إلي وجود رئيس قوي. ولكني أعود فأقول إن هذه السمات في الشخصية المصرية "بفرض وجودها بالفعل" قد تكون نتيجة لاعتياد المصريين وجود دولة مركزية لعدة آلاف من السنين، نتيجة لهذا الاعتماد الكبير علي مياه النيل.
أيا كان السبب، فإن من الصعب إنكار حاجة المصريين، أكثر من غيرهم من الشعوب، إلي دولة مركزية قوية. ومن الشيق أن نابليون بونابرت كتب في مذكراته وهو منفي في سانت هيلانا، أنه لا يعرف بلداً في العالم يحتاج إلي دولة قوية بالدرجة التي تحتاجها مصر (اقتطفها جمال حمدان في الجزء الثاني من "شخصية مصر").
كان لابد إذن أن تدفع مصر ثمنًا أعلي مما دفعه غيرها نتيجة هبوب رياح العولمة ابتداء من السبعينيات، فزلزلت قوائم الدولة المصرية حتي أفقدتها توازنها، وأصبحت آيلة للسقوط. وقد ضاعف من أثر العولمة في إضعاف الدولة المصرية ثلاثة عوامل مهمة:
الأول: هزيمة الدولة المصرية في ١٩٦٧، حيث نتج عن الاعتداء الإسرائيلي احتلال سيناء وما ترتب عليه من آثار اقتصادية، وضعف سياسي، وفقدان الدولة الناصرية ما كانت تتمتع به من ولاء غالبية المصريين.
والثاني: شخصية الرئيس الجديد الذي حلّ محل عبد الناصر في ١٩٧٠، إذ اجتمعت فيه عدة صفات ساعدت علي تفكيك الدولة المصرية. ومن ناحية لم يكن أنور السادات يشيع الرهبة في الناس مثلما كان يشيعها سلفه، وهو محب للترف والتمتع بالحياة مما جعله بطبعه يضيق بالقيود التي يفرضها القانون علي هذا التمتع، وأكثر تسامحًا مع ما قد يميل له المحيطون به والمقربون إليه منه إلي الخروج عن القانون. وهو بطبعه مفتون بكل ما هو غربي،
ومن ثم لديه استعداد طبيعي لقبول فتح الأبواب أمام الأجانب، وإزالة أي عقبة قائمة في وجوههم، ولو علي حساب القواعد المستقرة. وهو من ناحية أخري يأتي في أعقاب رئيس قوي أفرط في تقييد حريات الناس فكان من السهل علي الرئيس الجديد أن يخلط بين إتاحة مزيد من الحريات للناس "وهو أمر مطلوب" وبين تفكيك الدولة وإحلال دولة رخوة محل الدولة القوية "وهو أمر غير مطلوب".
والثالث: أن موجة العولمة الجديدة اقترنت بحدوث تضخم جامح "كانت العولمة نفسها أحد أسبابه" ساعد التضخم من أكثر من وجه علي الإسراع بتفكيك الدولة. فقد أدي التضخم إلي أن تفقد الوظيفة الحكومية الكثير من هيبتها واحترامها "لعدم مسايرة المرتبات الحكومية لمعدل التضخم"، وجعل من الأسهل لصاحب المال، مادام يملك القدر الكافي منه، أن يشتري ذمة المسؤول الحكومي أو المسؤولين عن القطاع العام، كما أدي ارتفاع معدل التضخم إلي تضاؤل قدرة الحكومة والقطاع العام علي منافسة الشركات الأجنبية، بقدر انخفاض قيمة الجنيه المصري بالنسبة للدولار.
اجتمعت هذه العوامل كلها، مع رياح العولمة، لتحدث تأثيرها في إضعاف الدولة الذي بدأ المصريون يشعرون به ويستغربونه، منذ أوائل السبعينيات، وهم الذين تعودوا علي تعليق الآمال علي الدولة القوية للسهر علي مصالحهم وحمايتهم، ولم تكن نتائج هذا الضعف نتائج طيبة علي الإطلاق، مما نتناوله في المقال التالي.