تركيا والإسلام السياسي... أبعاد جديدة للسجال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كلير بيرلينسكيـ واشنطن بوست
أعرب "بولانت" و"دوجو"، وهما شابان تركيان يعيشان حياة على النمط الغربي، عن تأييدهما للتهديد الذي صدر عن الجيش مؤخراً بالتدخل لحل أزمة الانتخابات الرئاسية في تركيا. وفي هذا الإطار، يقول "دوجو": "على أحد أن يهددهم؛ فقد تمادى هؤلاء الأشخاص كثيراً". أما المقصود بـ"هؤلاء الأشخاص"، فهو حزب "العدالة والتنمية"، الذي يحكم تركيا منذ أربع سنوات بقيادة رئيس الوزراء رجب طيب أردوجان، والذي يُمثل (حسب موقف مخاطَبك) الوجهَ الواعد لإسلام حديث وجديد، أو الوجه الحديث للأمل الجديد لإسلام راديكالي.
أما ما يقصده "دوجو" بقوله إنهم "تمادوا كثيراً"، فهو اختيار أحد أعضاء الحزب -وزير الخارجية عبدالله جول- ليكون الرئيس المقبل لتركيا، وهو رأيٌ (التمادي) شاطرته "المحكمةُ الدستورية" العلمانية في تركيا الثلاثاء الماضي حين اعتبرت الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية لاغية وباطلة على اعتبار أن النصاب القانوني لم يكتمل خلال عملية التصويت على "جول". أما الحقيقة، فهي أن المعارضة قاطعت عملية التصويت، إدراكاً منها لحقيقة أنها لا تتوفر على عدد كافٍ من الأصوات.
يقول "دوجو": "لا أريد أن يدخل القصرَ الرئاسي شخصٌ يرتدي الحجاب"، في إشارة إلى زوجة "جول"، مضيفاً "لا ضير في ذلك إذا كان حجاباً أناضولياً. أما إذا كان الأمر يتعلق بحجاب عربي، فلا أرغب في أن يدخل حاملُه القصرَ". ويقصد "دوجو" بذلك القول أن التركيات الأناضوليات يرتدين الحجاب لأن ذلك ما يرتدينه دائماً -أما الحجاب العربي، فهو حجاب يحمل دلالة سياسية، ويرى أن "العدالة والتنمية" لن يهدأ له بال حتى يرى كل امرأة في تركيا محجبة (ولنلاحظ الشعور القومي القوي: "نحن الأتراك لسنا العرب المتخلفين والبدائيين").
يُذكر هنا أن مصطفى كمال أتاتورك، الذي أسس الجمهورية التركية عام 1923، فرض علمانية صارمة على المجتمع التركي؛ حيث منع الدين في الحياة العامة. وكانت حشودٌ من المحتجين خرجت إلى الشوارع خلال الأسابيع الأخيرة للتعبير عن تأييدها للنظام العلماني الذي أرسى دعائمَه أتاتورك، وهو ما قد يميل معه الغربيون الذين شاهدوا صور هذه المظاهرات إلى الشعور بالارتياح والتعبير عن تأييدهم، معتبرين هذا الأمر تعبيراً جماعياً عن التعاطف مع قيم التنوير الليبرالية والتمسك بها. إلا أنهم مخطئون.
يقول خصوم "العدالة والتنمية" إنهم لا يرغبون في رؤية تركيا تتحول إلى إيران أخرى. والحال أنه من الواضح أنه ليست لحزب "العدالة والتنمية" أي نيةٍ في القيام بذلك. أما تفسير الاحتجاجات، فيكمن في التخوف من أن يشكل هذا الحزب تهديداً على سلطة الطبقة العلمانية الحاكمة ومزاياها البيروقراطية ومصالحها الاقتصادية، والتي يشكل عددٌ مقلق منها قوميين متشددين سلطويين.
لا أقصد بهذا الكلام التقليل من شأن تخوفات العلمانيين من حزب "العدالة والتنمية"، الذي لا يجادل أحد بشأن امتداد جذوره في الإسلام الراديكالي. فأستاذ "أردوجان" السياسي هو رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، الذي وصل إلى السلطة متعهداً بـ"إنقاذ تركيا من مُشركي أوروبا"، وانتزاع السلطة من "الإمبرياليين والصهاينة"، وإعلان الجهاد لاستعادة القدس. غير أن "العدالة والتنمية" يقول إنه نضج وتخلص من هذه الشعارات؛ كما أن أعضاءه يؤكدون على التزام الحزب الكامل اليوم بالديمقراطية والعلمانية؛ ويُقسمون بأنهم لا يسعون إلى فرض حكم أصولي مستبد على تركيا.
الحقيقة أنني ما كنت لأصدقهم من قبل؛ ولكنني عشت هنا لفترة عامين؛ فلم أشاهد عمليات جلد أمام الملأ، ولا بتراً للأطراف في الساحات العمومية، ولا إعلان جهاد على الصهاينة والأميركيين الإمبرياليين. وإضافة إلى ذلك، فقد أصبحت إسطنبول مدينة أكثر ازدهاراً ورخاء. ففي العام الماضي، مثلاً، افتُتحت ثلاثة مقاهي "ستارباكس" في الشارع الرئيسي لإسطنبول، وهو ما يعكس عدد الأتراك الذين يستطيعون اليوم إنفاق 5 دولارات على فنجان قهوة. وإلى ذلك، تحمل اللوحات الإعلانية العملاقة في الشوارع التركية صوراً لنساء نصف عاريات؛ وتنتشر حركة البناء في كل مكان؛ حيث أُصلحت الطرق، وأعيد تأهيل الأحياء الفقيرة.
علاوة على ذلك، فقد جلب "العدالة والتنمية" لتركيا استثمارات خارجية قياسية؛ حيث تدفقت على البلاد العام الماضي نحو 20 مليار دولار من الاستثمارات، وهو ما يمثل ضعف حجم العام الماضي. كما حقق الاقتصاد نمواً بنحو الثلث أثناء وجود "العدالة والتنمية" في السلطة. إضافة إلى ذلك، فقد تحكم الحزب في التضخم، وأعاد التوازن إلى العملة الوطنية، وشهد عهدُه ارتفاعَ الدخل الفردي من 2598 دولاراً إلى 5477 دولاراً اليوم. كما تم تقليص القطاع العمومي التي تديره البيروقراطية العلمانية، وهو ما كانت "مارجريت تاتشر" تعترض عليه.
والحقيقة أن حزب "العدالة والتنمية" انتُخب لأسباب تعود في جزء كبير منها إلى أن الحكومات العلمانية السابقة أساءت إدارة الاقتصاد لفترة طويلة -يُذكر هنا مثلاً أن مدخرات تركية كبيرة ضاعت قبل الانتخابات الأخيرة، وأثارت انهياراً اقتصادياً كاملاً في إطار فضيحة بنكية كبيرة.
وقد يتوقع المراقب العادي أن يكون المحتجون الأتراك، بحكم عدائهم للتطرف الإسلامي، أصدقاء للولايات المتحدة. والحال أن الحقيقة هي خلاف ذلك؛ ذلك أن العلمانيين في تركيا أكثر معاداة للغرب من "العدالة والتنمية"؛ فقد صوت العديد من المشرِّعين العلمانيين في 2003 ضد منح القوات الأميركية حق التحليق فوق الأجواء التركية حين كانت في طريقها لغزو العراق. ثم إن "العدالة والتنمية"، وليس المؤسسة العلمانية، هو الذي يدفع باتجاه انضمام تركيا إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي.