نقاش بيزنطي في تركيا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمود المبارك
المتأمل في الوضع السياسي على الساحة التركية، لا يملك إلا أن يقول: لو كان أتاتورك حياً اليوم لربما مات كمداً. فالإسلاميون الذين طردهم أتاتورك من سدة الرئاسة، استطاعوا العودة إلى الزعامة السياسية "بالطريقة الديموقراطية" نفسها التي مكنت خصومهم من الوصول إليها. وبذلك تمكنوا - منذ فترة - من احتلال منصب رئيس الوزراء، وها هم اليوم يقفون على أعتاب رئاسة الدولة.
وعلى رغم أن الإسلاميين في تركيا يرفضون نعت حزبهم بـ "الإسلامي"، ويؤكدون على التزامهم الكامل بركائز أتاتورك الخمسة، بما في ذلك علمانية البلاد، إلا أن "حماة الديموقراطية" في تركيا، يخشون على علمانية تركيا من الزوال إذا ما تمكن حزب التنمية والعدالة التركي، ذو الميول الإسلامية، من الوصول إلى قمة السلطة السياسية في جانبيها رئاسة الوزراء ورئاسة الدولة.
ولعل مردَّ هذا الخوف العلماني الذي نتجت منه زوبعة سياسية في تركيا، يكمن في قبول فكرة وجود إسلام سياسي عند المجتمع التركي، وهو ما لا تريده العلمانية التركية وحماتها. إذ المتأمل في هذا الجدل السياسي العنيف داخل البيت التركي، قد يخلص إلى أن هذا الجدل القائم ما هو إلا جدل بيزنطي. فالاعتراض السياسي على تولي عبدالله غل رئاسة الدولة يعود في حقيقته، إلى ارتداء زوجته حجاباً إسلامياً. وهو أمر في نظر دعاة ورعاة العلمانية التركية، مخالف لروح ومنهج العلمانية الذي خطه أتاتورك. ويخشى أن يجر هذا الأمر إلى ظاهرة تحجب النساء في تركيا بشكل رسمي. وبما أن ذلك قد يقود إلى تغيير الأسس التي قامت عليها دولة تركيا الحديثة، فإن الجيش ألمح إلى منع ذلك بقوة السلاح.
فالتهديد الذي أومأ إليه رئيس أركان الجيش باحتمال تدخل الجيش في شكل انقلاب عسكري، لإنقاذ العلمانية التركية من السيف الإسلامي المسلط عليها، إنما يأتي خوفاً من ارتداء حجاب لامرأة مسلمة. ولعله من المخجل أن تتحول قضية حجاب زوجة مرشح رئاسة الدولة، إلى خلاف سياسي محتدم، في بلد ترتدي أكثر من ثلثي النساء فيه الحجاب.
والواقع أن تجربة الإسلاميين المعتدلة في تركيا خالفت ظن الكثيرين الذين راهنوا على فشلها، وتمكنت تركيا اليوم من دفع تهمة التعارض بين الإسلام والديموقراطية. ويبدو أن محاولات الجيش التركي للتدخل المباشر لن تجدي نفعاً، حتى لو تدخل الجيش بانقلاب عسكري، إذ يكاد يجمع المحللون اليوم على أن عودة الإسلام السياسي لتركيا أصبحت غير منازعة، بسبب الشعبية العارمة التي تحظى بها وسط المجتمع التركي.
وعلى رغم الجهود المضنية التي بذلها أتاتورك ومَن بعده، لطمس معالم الإسلام السياسي، إلا أن غالب الشعب التركي لا يرى بأساً من قبول الإسلاميين المعتدلين وتسليمهم قيادة بلادهم السياسية. وبدا واضحاً اليوم أن التخويف بالإسلام السياسي لم يعد يجدي نفعاً مع الجماهير التي يزداد تعلقها بالانتماء إليه، بسبب نزاهة أتباعه في العمل السياسي، وفساد رعاة العلمانية التركية السياسي الذي لم يعد يخفى على المواطن التركي.
بل إنه ربما جال في خاطر المواطن التركي أن العلمانية أشد خطراً على الديموقراطية من الإسلاميين. فالإسلاميون الذين يرضون بقواعد اللعبة الديموقراطية سواء فازوا أم خسروا، لم يأت منهم - ولا يتوقع أن يأتي منهم - تهديد باستخدام القوة لتحقيق مآربهم السياسية. بينما سبق أن تدخل الجيش التركي في الماضي مرات عدة ولا يزال صدى تهديده الأخير يدوي في الآذان، الأمر الذي قد يعد - إذا ما تحقق - نكسة ديموقراطية كبيرة وخطوة إلى الوراء قد تتعدى آثارها الخريطة التركية إلى أوروبا، حيث ما يزال ينظر إلى "الديموقراطية التركية" بعين الحذر كشرط لقبولها في الاتحاد الأوروبي.
ولكن الواضح اليوم، هو أن رئاسة الدولة التركية ستؤول إلى الإسلاميين، سواء حصلوا على ذلك عن طريق اقتراع البرلمان - وهو أمر لم يعد متوقعا - أم عن طريق التصويت الشعبي المباشر في انتخابات مبكرة، قد تجرى قبل الخريف المقبل بعد حل البرلمان، إذا ما تطلب الأمر، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى إمكان حصول حزب العدالة والتنمية على فوز ساحق قد يتعدى نسبة الثلثين.
ولعله من المنطق القول إن رفض العلمانيين الأتراك للإسلاميين المعتدلين، قد يدفع المتطرفين إلى رد فعل لا يكون هو الأمثل. وليست التجربة الجزائرية ببعيدة، على أن الفرق بين الوضع الجزائري والوضع التركي هو موافقة الغرب على الانقلاب ضد الخيار الديموقراطي في الحالة الجزائرية، ورفضه ذلك في الأزمة التركية الحالية.
اليوم وبعد أكثر من ثمانية عقود من إرساء قواعد الدولة التركية العلمانية، يبدو واضحاً أن العلمانية التي قامت بفرض القوة السياسية لن تدوم، وأن كل ما أتى به أتاتورك بقوة السيف سيزول إلى ضده.
وأنه حتى الغرب الذي لا يقبل بوصول الإسلاميين إلى قمة السلطة السياسية في أي بلاد إسلامية، يقف عاجزاً أمام الحالة التركية، إذ إن التجربة الإسلامية في تركيا جمعت بعقلانيتها السياسية ما تعذر جمعه في بلاد إسلامية أخرى، بين الإسلام والديموقراطية. ولا غرو أن تكون تركيا مثالاً يحتذى في الجمع بين المتناقضات، فهي قد جمعت بين آسيا وأوروبا، على رغم استمرار نقاشاتها البيزنطية.