مؤتمر آخر من أجل لا شيء في شرم الشيخ...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خيرالله خيرالله
يقول ضابط بريطاني برتبة جنرال كان الى ما قبل فترة قصيرة قائداً للقوات الخاصة في الجيش أن على أميركا وبريطانيا "الأعتراف بهزيمتهما" في العراق وسحب قواتهما من هذا البلد بغية تفادي مزيد من الخسائر. ويضيف الضابط ، وهو الجنرال مايكل روز، لدى سؤاله قبل أيام هل من حق المتمردين على الوجود العسكري الأميركي العمل على أزالة هذا الوجود: "نعم أعترف بهذا الحق". لم يكتف الجنرال روز بذلك، بل قارن في حوار مع القناة التلفزيونية الثانية في هيئة الأذاعة البريطانية (بي. بي. سي) بين المقاومة العراقية للأحتلال الأميركي من جهة وبين حرب الأستقلال التي شنها الأميركيون بقيادة جورج واشنطن على الوجود البريطاني في أراضيهم في القرن الثامن العشر من جهة أخرى. قارن بين الحرب الدائرة في العراق هذه الأيام وحرب الأستقلال التي واجه فيها الأميركيون الأستعمار الأنكليزي مكرّراً أن على الأميركيين والبريطانيين "الأعتراف بالهزيمة". وخلص ألى القول أن على "الغزاة" مغادرة العراق مشدّداً على أن الأميركيين والبريطانيين لم يفهموا "ثقافة" العراقيين و"طبيعتهم"، وعليهم بالتالي الأنسحاب نظراً ألى أن العراقيين يعتبرونهم مجرّد "غزاة".
ستلاحق لعنة العرق رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي يتوقع أن يعلن قريباً أعتزاله السياسة. سيجد بلير من دون شكّ وظيفة جديدة في القطاع الخاص تدرّ عليه مبلغاً كبيراً من المال، علماً أن الجنرال روز يدعو مع عدد من الضباط البريطانيين البارزين الذين تركوا الخدمة ألى ملاحقته قضائياً. يرى هؤلاء الضباط أنه لا يجوز عدم محاسبة رئيس للوزراء يأخذ البلد ألى حرب أستناداً ألى حجج غير صحيحة.
في الأيام القليلة الماضية، سعى أكثر من مسؤول بريطاني حالي وسابق ألى تبرئة نفسه من مسؤولية حرب العراق. يبحث هؤلاء المسؤولون الذين لعبوا دوراً أبان الحرب عن أعذار ومبررات الهدف منها أظهار أنّهم لم يكونوا على علم تام بالوضع العراقي وتعقيداته أو بكيفية أتخاذ القرار داخل الأدارة الأميركية. أحد الذين تحدثوا أخيراً عن الأخطاء التي أرتُكبت قبل بدء الحرب على العراق، أو بعد الحرب وسقوط نظام صدّام حسين،هو جيف هون وزير الدفاع أبان الحرب. قال هون في حديث نشرته قبل أيام صحيفة "ذي غارديان" أن حكومته أختلفت مع الأدارة الأميركية في شأن قرارين مهمّين أتخذا في مايو- ايار من العام 2003 ،أي بعد شهر من سقوط بغداد. يتعلّق القرار الأول بحل الجيش العراقي والآخر ب"أجتثاث" البعث. أكتشف هون أن بريطانيا لم تكن تمتلك أي تأثير على الأدارة الأميركية. وفسّر ذلك بتجاهل حكومته لدور نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني وعدم علمها بأهمية هذا الدور. يقول وزير الدفاع البريطاني خلال حرب العراق في هذا المجال:" كان توني (بلير) يشرح أحياناً وجهة نظره للرئيس بوش. وكنت أفعل الشيء ذاته مع دون (دونالد رامسفيلد). وكان جاك (سترو) يتحدث ألى وزير الخارجية كولن باول. لكن القرار كان يأتي من مكان آخر. ما الذي فاتنا؟ فاتنا التحدث ألى تشيني".
يعترف هون الذي يشغل حالياً موقع وزير الشؤون الأوروبية بأن حكومة بلير أستخفت وقتذاك بدور تشيني وأهميته. كذلك يعترف بسوء التخطيط لمرحلة ما بعد سقوط النظام العراقي. وذهب الرجل في صراحته، المتأخّرة طبعاً، ألى حدّ الأعتراف "بأننا ربما كنّا متفائلين أكثر من اللزوم بفكرة أن العراقيين سينزلون الى الشوارع للترحيب بنا. الآن وبعدما راجعت ما علق في ذاكرتي، أقول أنّه ربما لم نبذل الجهد الكافي للنظر ألى وجهة النظر السنّية. كان علينا أن نبذل جهداً أكبر لفهم موقف السنّة".
لا تقتصر المراجعة على السياسيين والعسكريين البريطانيين. بل يمكن القول أن المراجعة البريطانية جاءت متأخرة مقارنة مع ما تشهده الولايات المتحدة نفسها حيث لم يعد يتجرّأ المرشحون الجمهوريون للرئاسة على تأييد موقف بوش الأبن من الحرب على العراق كي لا يخسروا أصواتاً حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه. ثمة واقع لا مفرّ من التعاطي معه يتمثل في أن الحرب على العراق كانت كارثة بكلّ معنى الكلمة على الرغم من أن التخلص من نظام صدّام كان ضرورة بعد كلّ ما فعله بالعراقيين وبدول الجوار منذ تولي الرجل السلطة. لكن يبقى أن التخلص من النظام شيء ومعاقبة العراقيين على تحمّلهم النظام شيء آخر. والأهمّ من ذلك كلّه أنّ الوضع العربي برمته صار مجبراً على تحمّل نتائج ما أصاب العراق والفشل الأميركي- البريطاني الكبير الذي قاد ألى حرب أهلية ذات طابع مذهبي في بلد كان يفتخر ألى ماقبل فترة قصيرة بهويته العربية. الأكيد أن مؤتمراً على غرار مؤتمر شرم الشيخ الأخير لا يقدم حلولاً للعراق بمقدار ما أنه أشبه بتقديم مسكنات تصلح لوجع الرأس ألى مريض يعاني من مرض خبيث يهدد حياته. هذا ما يرفض الجانب العربي أدراكه. وكانت النتيجة أنّه لعب اللعبة الأميركية التي لا هدف منها سوى كسب الوقت بغية التفكير في ما أذا كان في الأمكان أنقاذ الأدارة في واشنطن من الورطة العراقية.
مرة أخرى، لم يجد العرب الذين ذهبوا ألى شرم الشيخ للمشاركة في المؤتمر الدولي لدعم العراق ما يقولونه. أن الكلام عن المصالحة الوطنية جميل والحديث عن أعفاء العراق من جزء من ديونه أجمل. ولكن ماذا عن الحرب الأهلية الدائرة والعمليات الأرهابية التي يشنها تنظيم "القاعدة" بحجة الدفاع عن السنة وماذا عن أحزاب السلطة التي تفتخر بميليشياتها المذهبية التي تقتل على الهوية وتشرف على عمليات تهجير من مناطق وأحياء معينة في بغداد وغير بغداد؟ ماذا عن الوضع في الجنوب العراقي وفي البصرة بالذات التي تحوّلت ألى مدينية أيرانية؟ تجاوزت خطورة الوضع العراقي ما يمكن أن تقدمه مؤتمرات عادية يتركز الحديث فيها على المساعدات والمصالحات. ثمة حاجة ألى مؤتمر من نوع آخر تكون فيه مصارحة بين العرب أنفسهم أوّلاً لتحديد طبيعة المرض الذي يعاني منه العراق وما أذا كان لا يزال هناك علاج يحافظ على وحدة البلد قبل أي شيء آخر. أن وحدة العراق على المحك. ومعنى ذلك أن هناك تهديدات للكيانات العربية الأخرى بسبب الوضع العراقي الذي أثار الغرائز المذهبية بطريقة لا سابق لها في الشرق الأوسط.
قبل الأجتياح الأميركي للعراق في مارس- آذار 2003، أنعقدت قمة عربية في شرم الشيخ. كان المشاركون في القمة على علم تام بأن الحرب واقعة لا محالة. على الرغم من ذلك، لم يجدوا ما يقولونه سوى الأعلان عن رفض الحرب. تحلّى عدد قليل جداً من المسؤولين العرب بالمسؤولية، فكانت قبل القمة خطوة جدية وحيدة لتفادي الحرب قام بها الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني وزير خارجية قطر وقتذاك بأسم بلاده. خاطر الشيخ حمد، الذي صار الآن رئيساً للوزراء، وتوجه ألى بغداد وقابل صدام ودعاه ألى أتخاذ القرار المناسب لأنقاذ العراق والعراقيين من المصير الذي ينتظرهم. كانت تلك الخطوة العربية شبه الوحيدة الصادقة لأنقاذ ما يمكن أنقاذه. ألتقى العرب في شرم الشيخ في تلك الأيام للعمل على تفادي حرب كانت بدأت بالفعل بدل التفكير في ما يجب عمله في مرحلة ما بعد الحرب. مرّة أخرى، أستضافت شرم الشيخ مؤتمراً دولياً من أجل العراق. الأميركيون يعرفون ما الذي يريدونه. أنهم يسعون بكل بساطة ألى تأجيل الأعتراف بالهزيمة. أما البريطانيون فأنهم يريدون أن تكون الهزيمة أميركية أوّلاً وأخيراً، وصب اللوم كله على توني بلير في مناسبة قرب خروجه من السلطة، هذا في حال كان على بريطانيا تحمّل جانب من اللوم. يبقى العرب الذين عليهم التعايش مع شرق أوسط جديد في ظلَ عراق مفتت من جهة وأحتمال هروب الأميركيين من هزيمتهم ألى مغامرة جديدة قد تكون في أيران، أو على الأصحّ مع أيران.
بين العام 2003 ، تاريخ بدء الحرب الأميركية على العراق، وهي حرب بدأ التحضير لها على الأرض منذ صيف العام 2002 ، ومؤتمر شرم الشيخ الأخير، لم يتغير شيء على الصعيد العربي. لا يزال البحث مستمراً في كيفية معالجة نتائج الكارثة ولملمة ما يمكن لملمته بدل العمل من أجل تفاديها! أنه مؤتمر آخر من أجل لا شيء يعقد في شرم الشيخ...