العراق وتركيا: طقوس الإشارات والتحولات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مشاري الذايدي
في العراق، يبحثون عن حل وطني علماني لإنقاذ البلد من الكارثة، وفي تركيا يرفع الجيش عصاه في وجه الإسلاميين الذين يهددون مبادئ جمهورية أتاتورك.. مفارقة تدعو للتأمل.
هذا من حيث نقطة التشابه فقط، وإلا فإن الصورتين فيما عدا ذلك حافلتان بالاختلافات. فتركيا دولة مستقرة، وقوية، وإسلاميوها وصلوا للحكومة عن طريق الآليات الديمقراطية الدستورية، بينما ضاع العراق بين فريقين من الإسلاميين: شيعة "الائتلاف" في الحكم، وسنة "هيئة علماء المسلمين"، ومن قاربهم في المعارضة. ما يجعل اللجوء الى الخيار الوطني الصرف النابذ للاعتبارات الطائفية والمذهبية، وكل معيار ديني أو عرقي آخر، ما يجعل هذا اللجوء ملحا الآن في العراق، هو نهر الدماء، وطوابير الانتحاريين، وأكداس السيارات المفخخة التي تطل بوجهها القبيح كل يوم، لتنهش بأنيابها الزرقاء ما تبقى من عافية وجه العراق ونضارته.
لقد ثبت أنه ومنذ سقوط نظام صدام حسين في ابريل 2003، والعراق يدار بأجندة ضيقة من قبل أحزاب أصولية شيعية مرتبطة بايران، مع استثناء فترة الرئيس إياد علاوي القصيرة، الذي حارب إرهاب القاعدة في الفلوجة، وكاد أن يقضي على إرهاب الصدر في النجف، لولا تدخل السيد السيستاني في اللحظات الأخيرة.
منذ أن وصل الأصوليون الشيعة للحكم، وهم في حالة اشتباك دائم وتوتر غير منقطع مع المجموعات السنية الأخرى، وبدا الأمر وكأن حلفاء الائتلاف الشيعي يديرون الحكم بعقلية الثأر وتصفية الحسابات، ويكفي فقط الاطلاع على فضائح سجون وزارة الداخلية في عهد الوزير عن الائتلاف بيان صولاغ، ناهيك من جرائم جيش المهدي الطائفية ضد السنة.
طبعا، قبل هذه الجرائم كانت قاعدة الزرقاوي قد ارتكبت جرائم مماثلة في حق العراقيين الشيعة، ورفعت من مستوى الحس الطائفي في البلد، وحرضت على محاربة من أسمتهم "الرافضة" وهي شتيمة طائفية تطلق من قبل متعصبي السنة على الشيعة.
الزبدة، أن البلد دخل في مزاج طائفي اسود، وأصبح سادة المشهد، على الطرفين، هم نجوم الطائفية، وانحدرت الحياة السياسية إلى الحضيض بسبب التكتلات السياسية التي قامت على أسس طائفية مقيتة، مهما تبجح القائمون على هذه التكتلات بأنهم وطنيون وغير طائفيين، فلا قائمة الائتلاف صادقة في نفي طائفيتها الشيعية، ولا التوافق السنية صادقة أيضا، كل الصدق، مع أن الأخيرة، وللإنصاف، ليست خالصة الأصولية ولا قديمتها.
رئيس الحكومة السابق إياد علاوي، حذر منذ البدايات من إنشاء تجمعات سياسية على أسس طائفية، وبالذات حذر جماعة الائتلاف ومن ثم جماعة التوافق، ولكن كان للحكيم ولحزب الدعوة وللصدريين حساباتهم الطائفية الجامحة، وكذلك مطامعهم الخاصة حول الحكم والثروة، وعليه فقد أصبحت مناداة عدنان الدليمي او خلف العليان بالتخلي عن الطائفية السنية، ضربا من العبث في ظل هذا الفرز الطائفي المعمدة حدوده بلون الدم. ولست هنا أتحدث عن الطائفي "الخالص" حارث الضاري، فهو حالة مختلفة عن جماعة التوافق.
الآن وفي ظل حكومة المالكي، وهو حزبي عتيد من حزب الدعوة، ويلقب بـ"حارس الائتلاف"، ورغم ما يقال عنه من حزم أمني، ورغم تغزل بوش به، فإنه يبدو عاجزا عن فعل شيء يذكر، ولا فرق إن كان هذا العجز بسبب فقدانه لعناصر التأثير والقوة، أو بسبب حساباته الداخلية التي تجعله مكبلا ومحدود الفعل في حل الميليشيات وعلى رأسها ميليشيات الصدر "جيش المهدي"، لأنه لا يختلف "واقعي وعاقل" مع المالكي أو الأمريكان في وجوب حل ميليشيا القاعدة أو المجاميع العسكرية الأخرى على الجانب السني. لكن الغموض يأتي دوما حول الموقف من الميليشيا الشيعية، ويكفي للتذكر بمحدودية نوري المالكي في محاربة ميليشيا الصدر، دوره في فك الحصار عن المجموعات التابعة لمقتدى في مدينة الصدر في وقت سابق.
مهما فعل المالكي، ومهما خطب، ومهما وعد بالخطط الأمنية، فإن له خطا لا يقدر على تجاوزه، وهو في النهاية ربيب ثقافة حزب الدعوة الأصولي، وهي ثقافة قد تصلح ضمن إطار حي أو نقابة طلاب، أو جلسة في حسينية، ولكنها حتما لا تصلح لإدارة بلد، وأي بلد ؟! بلد مثل العراق الثري بطوائفه وأديانه، والغني بثرواته، والذي قدره أن يطل بحدوده على قلب الشرق الأوسط، من كل حوافه...
من هنا فإن مؤتمر شرم الشيخ الأخير، والذي خصص لبحث أزمة العراق، سواء من قبل دول الجوار أو من المجتمع الدولي، يعتبر مؤتمرا مهما وإنقاذيا، وفي تقديري فإن ابرز نتيجة خرج بها المجتمعون في شرم الشيخ، سواء مؤتمر الجوار العراقي، أو مؤتمر العهد الدولي، هي التكتل من اجل بناء عراقي وطني ومدني لا مكان لحكم و"منطق" الطوائف، كل الطوائف، فيه.
الإجماع كان على إنقاذ العراق مما هو فيه من اقتتال، وتمزق وحرب أهلية، وتخليص البلاد من التفتت الطائفي، خصوصا أن المسألة وصلت إلى نقطة الحرج، آخذين في الاعتبار تزايد الضغوط الداخلية في أمريكا على إدارة بوش (المحتضرة) من اجل الانسحاب، وهو الأمر الذي أشار إليه إياد علاوي في مقابلة تلفزيونية مع قناة anb اللبنانية أمس الأول، حيث قال إن سرعة خروج الأمريكان ستؤدي إلى تدفق الأزمة العراقية خارج الإناء الداخلي، وستسيل أوحال العراق على حدائق الجيران، ستسيل إرهابا وفوضى وخرابا. ولذلك فإن الوقت المتاح للإنقاذ محدود، ويجب إشراك آخرين في حمل الحجر العراقي، بدل الاقتصار على أمريكا، وحسابات أمريكا. ومن هنا أهمية توسيع دور الأمم المتحدة والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والدول الإقليمية الفاعلة وعلى رأسها السعودية وتركيا وإيران وسوريا والأردن ومصر.
كما قلنا فإن الانفجار العراقي الأكبر، رغم كل ما نراه يوميا من موت وسيارات مفخخة، لم يحصل بعد، وهو انفجار يشبه انفجار البراكين العملاقة، يلقي بحممه على الجوار البعيد، ويلون بدخانه الأسود الآفاق كلها. ولذلك فالتدخل في العراق ضرورة وليس ترفا، وكل المحاولات الترقيعية التي بذلت لـ"ترميم" الحالة العراقية باءت بالفشل، وآخرها الخطة الأمنية، والسبب في ذلك لأنها لم تبن على قاعدة توافق سياسي بين العراقيين أنفسهم، ولذلك نرى قائد جبهة التوافق السنية عدنان الدليمي يقول صراحة: "إن الخطة موجهة ضد السنة فقط!" وان التوافق لن تشارك في الحكومة أبدا، ولكنها ستظل في البرلمان.
هل ما قاله الدليمي صحيح أو غير صحيح؟ ليس هذا هو المهم، المهم أنه قاله، وأن هذا هو المزاج السائد!
من أجل ذلك ألحت "وثيقة العهد الدولي للعراق" في شرم الشيخ على بناء عراق موحد غير طائفي، وعلى إلغاء القوانين التي سهلت ازدهار الطائفية مثل قانون حل الجيش أو اجتثاث البعث، وشددت على جملة من الطلبات التي تصب في نهايتها في صالح بناء عراق مختلف عن عراق الطوائف الحالي.
أهمية هذا العهد هي انه انطلق بتأييد الدول الخمسين التي شاركت في مؤتمر دول الجوار، وهو نص على إنشاء سكرتارية دائمة للعهد تتكون من العراق والأمم المتحدة. وربط المعونات الاقتصادية بتنفيذ أفكار العهد التي هي في خلاصتها هدم لدولة الطائفة والأصولية، ودعم للدولة الوطنية العلمانية.
ومن هنا، يصبح لدينا، بعد هذه الدماء والخراب الذي أصاب العراق بجدري التخلف والكراهية منذ 4 سنوات إلى الآن، يصبح لدينا خيار وطني علماني، جاء بسبب الضرورة والاحتياج المصيري إليه، وليس بسبب التنظير والصراخ من اجل دولة وطنية لا مذهبية او دينية، فلا الأصوليون الشيعة قادرون على تدبير الحكم وفق تنظيرات حزب الدعوة، أو فتاوى "الصدريين"، ولا السنة قادرون على الحكم وفق دولة أبي عمر البغدادي الإسلامية في الغرب العراقي، ولا الأكراد قادرون على الاستقلال أو قادرون على قبول نموذج الطرفين، دعك من بقية الطوائف والأديان والأعراق الأخرى الأقل عددا. ما الذي يصلح لهؤلاء كلهم، وبالتالي يصلح لجوارهم وللعالم من حولهم ؟ إنه فكر وطني علماني يدير الدولة العراقية بطريقة عابرة لكل المحددات الطائفية وغيرها.
نحن هنا إزاء مثال حي على كيف تولد الأفكار الحقيقية من رحم الواقع، وطلبات الواقع، وليس من بطون الكتب وسطوح المقالات أو تعرجات الحناجر الملتهبة. الأخبار تتحدث عن قيام تكتل سياسي عراقي جديد سيكون "مظلة" مختلفة للعمل السياسي تضم مجموعات شتى، سواء من القائمة الوطنية، قائمة علاوي، او من قائمة صالح المطلق او من التوافق، أو حتى من بعض الحركات الكردية والتركمانية وغيرها، تكرس هذا النهج وتدعو لنبذ السياسة الطائفية وتكريس الدولة الوطنية الصرفة، على الأرض وليس بالخطب المعسولة، وتنقية الجيش وقوى الأمن من كل شوائب طائفية، هذه المظلة ستبقى مفتوحة لكل من يريد الانضمام، وقد قال علاوي انه يطمح إلى اجتذاب بعض القوى من داخل ائتلاف الحكيم، مثل حزب الفضيلة، و"بعض" التيار الصدري، وأيضا "بعض" الاتحاد الوطني الكردستاني (طالباني)، و"الحزب الديمقراطي الكردستاني" (بارزاني)، وهي مظلة مدعومة مما سمي باللجنة السداسية العربية.
والغريب كان انضمام الاتحاد الإسلامي الكردستاني، وهو فصيل إسلامي، إلى هذه المظلة الوطنية غير الأصولية. الأمر الذي يعني أن الدولة اللا دينية تكون في بعض الأحيان هي أفضل الخيارات لمن يريد أن يتدين بشكل مريح! وتلك مفارقة، وأي مفارقة!
هكذا إذن، العراق يتجه نحو الدولة العلمانية الوطنية، وتركيا الكمالية تتخوف على جمهوريتها العلمانية، وتتوجس خيفة من أي بادرة إسلامية أو دينية، حتى ولو كانت من طراز رجب طيب اردوغان، او عبد الله غل، أكثر نسخ الإسلام السياسي انفتاحا في "كل" الأحزاب السياسية الإسلامية في العالم.
هل ركِضُ الجارين هذا، أحدهما نحو طلب العلمانية السياسية، والآخر نحو حمايتها، هو ركض يعكس تضارب الاتجاهات المشوشة في المنطقة؟ ام هو ركض يرهص بميلاد شيء جديد من رحم هذه المنطقة الولادة، ونصبح هنا أمام "طقوس الإشارات والتحولات" على حد ما تكتنزه مسرحية سعد الله ونوس الشهيرة؟
mshari@asharqalawsat.com