الغزل السياسي في شرم الشيخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
داوود الشريان
انشغلت وسائل الاعلام، خلال انعقاد مؤتمر شرم الشيخ حول العراق، بتصرفات الوفدين الاميركي والايراني تجاه بعضهما البعض، واسهبت في نقل تفاصيل الجفاء المفتعل والمتعمد بين الجانبين، فأصبح اخفاق اجراء محادثات رفيعة المستوى بين طهران وواشنطن ابرز عناوين الاحتفال الاميركي في المنتجع المصري، وتجاهل الاعلام وفود اكثر من خمسين دولة ومنظمة، وركز اهتمامه على كيفية جلوس وزير خارجية ايران منوشهر متقي، ووزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس الى طاولة الطعام، فتحول خروج وزير الخارجية الايراني من مأدبة العشاء التي اقامها نظيره المصري احمد ابو الغيط، بحجة الملابس الحمراء الفاضحة لعازفة الكمان، الى قضية القضايا، فاستعذب الاميركيون حكاية "المطاردة" وفسروا خروج الوزير بخوفه من الجلوس امام الوزيرة الاميركية، وزادت من سخونة الكيد المتبادل بين الجانبين، وان شئت الغزل العنيف، تصريحات الايرانيين النارية ضد السياسة الاميركية في العراق واتهامها بممارسة الارهاب، ومطالبتها بوضع خطة لسحب قواتها، فبدت المسائل وكأن موقفي البلدين على طرفي نقيض، فواشنطن غير مكترثة بدور ايراني في العراق، وطهران متمسكة بـ "ممانعة" عقد لقاء بين وزير خارجيتها مع نظيرته الاميركية، وظهر الايرانيون بموقف الرافض للوجود الاميركي في شكل مطلق والمدافع عن تحرير العراق من الاحتلال الاميركي "الغاشم".
لكن واقع الحال يقول شيئاً مختلفاً، فبنود الورقة الايرانية المقدمة الى مؤتمر شرم الشيخ تطرح صورة مغايرة، وتشير الى صفقة ايرانية - اميركية محتملة، وتعكس رغبة ايرانية بجعل العراق منطقة نفوذ لها بموافقة اميركية، فهي تلوح للادارة الاميركية بقبول الاحتلال الاميركي وممارسة دور الشرطي لحماية هذا الوجود اذا كانت واشنطن مستعدة للتفاهم معها حول الملف النووي، ومعاودة النظر في موقفها من الازمة اللبنانية وسلاح "حزب الله"، وفي مقابل ذلك فان طهران على استعداد لرفض اي انسحاب غير مبرمج للقوات الاميركية، و دعم وجود هذه القوات في قواعد ومعسكرات داخل العراق، وليس لديها مانع من تقديم "كل مساعدة تساهم لاحقاً في خروج مشرف للقوات الاجنبية من العراق"، فضلاً عن انها تتجاهل ان الاحتلال هو سبب المشكلة، وترى ازمة العراق من زاوية امنية وليست سياسية، وتركز على مسألة الجماعات المسلحة، وتكرس المحاصصة الطائفية، وتغض الطرف عن الميليشيات المدعومة من الحكومة، ولذر الرماد في العيون تعلن استعدادها لـ "مساعدة الحكومة في السيطرة عليها"، وتحفل الورقة بتناقضات سياسية صارخة، أبسطها الوقوف الى جانب حكومة المالكي التي تدافع عن الاحتلال وتعتبره موجوداً بطلب منها، وتتعامل الورقة الايرانية مع المشكلة العراقية باعتبارها ازمة توافق داخلي، وخلل امني!
لا شك في ان الغزل الشرس بين طهران وواشنطن في اروقة شرم الشيخ ليس خيالاً صحافياً، فالمؤتمر استخدم من قبل الاميركيين كفرصة للاقتراب من الايرانيين وتبادل الاشارات معهم في محفل عام، فتم تضخيم فشل اللقاء بين متقي ورايس في حين عقد اجتماع بين السفير الاميركي في العراق ونائب وزير الخارجية الايراني، واعلن عن انضمام خبراء اميركيين الى اللجنة السورية - العراقية لفتح قنوات للحوار مع ايران بغطاء أمني من خلال سورية، فضلاً عن ان الورقة الايرانية كانت بمثابة مسودة لتفاهم اميركي - ايراني محتمل، فاجتماع رايس بوزير الخارجية السورية وليد المعلم اشارة اميركية الى استعداد واشنطن للاستماع الى وجهة النظر الايرانية، ولهذا فإن وزيرة الخارجية الاميركية كانت صادقة برفضها انتقادات الديموقراطيين الذين اتهموا ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش بازدواجية اللغة، لأن البيت الابيض انتقد زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي لدمشق، بينما عقدت وزيرة الخارجية اجتماعاً مع المعلم، فالاجتماع مع الوزير السوري تم بصفته وسيطاً بين الادارة وطهران، وليس لأنه وزير خارجية سورية، فواشنطن ليست في وارد فتح خطوط مع دمشق في الوقت الراهن، فتحسن العلاقات الاميركية - السورية مؤجل حتى تتم مراسم الزواج الايراني - الاميركي المتوقع، فضلاً عن ان واشنطن تدرك ان سورية كانت وستبقى مهمة لأنها تملك قدرة اللعب بأوراق الآخرين، واللقاء معها تم في هذا الاطار، وطالما ان المهمة الايرانية الجديدة في العراق في طور التشاور فإن العلاقة مع دمشق ستشهد تطورات مثيرة على النحو الذي تم في شرم الشيخ، لكن حسمها سيبقى رهناً بتطورات التفاهم بين الاميركيين والايرانيين.
الاكيد ان واشنطن اعطت انطباعاً مضللاً باختيارها مكان انعقاد المؤتمر، فالحرص على الاجتماع في شرم الشيخ يعني انها متمسكة بدور عربي في الازمة، لكن مجريات المؤتمر، وبيانه الختامي، وتصريحات بعض الوزراء العرب المشاركين فيه تشير بوضوح الى ان واشنطن مصممة على تهميش الدور العربي، فهذه النتيجة جاءت على لسان الامين العام للجامعة العربية الذي اشار الى تغييب الرؤية العربية حول العراق التي جرى التوافق عليها في قمة الرياض، معتبراً ان الجهد العربي لم ينجح في العراق بسبب تدخل قوى متعددة لإعاقة هذا الهدف، اما الأمير سعود الفيصل فكان أكثر وضوحاً من الجميع فاعلن رفضه "تحويل العراق الى ساحة لتنافس القوى الاقليمية والدولية وتقاسم مناطق النفوذ والهيمنة في ما بينها على حساب وحدة وامن العراق ومصالح شعبه".