ما كانت أرض العراق فيئاً!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رشيد الخيون
ليس الاستبداد وحده يهضم الحقوق: يقهر الناس بما كسبت، ويستولي على الأرض: ما أظهرت وما خزنت. بل الديمقراطية، التي تتحول إلى محاصصة واستئثار، هي الأخرى تهضم وتقهر، ولنا القول: يتحول الديمقراطيون الصوريون إلى أشد من المستبدين، ذلك أنهم يهيمنون عبر أصوات الناخبين، ويستخدمونها سياطاً بذريعة الشرعية. بيعت واشتريت الأصوات عنوة، وإلا ما هي الديمقراطية التي تجعل الوزير يمتلك الوزارة كاملة كإقطاعية أرض. وما هي الديمقراطية التي تسمح بنهب شواطئ دجلة كل هذا النهب، أو تسمح بإرجاع أملاك بالقوة من دون بحثها في مجلس قضاء؟
تعاملت الجماعات التي هيمنت على مقدرات العراق، ومعلوم أن الفضل لا يعود لها بل للجيش الأمريكي (الفاتح)، مع الأرض والبشر معاملة الفيء، فقد قسمته أرباعاً، داخل المنطقة الخضراء وخارجها. بل قسمت دوائره ومحلاته ومراكز نفوذه، والعصمة التي بيدها هي الديمقراطية! والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل قسمت السفارات ودوائرها وموظفيها قسمة الفيء لا قسمة المواطنة، والتمكن من هذه الوظيفة أو تلك. أما ثروة النفط فأمرها أمر، وستقود المحاصصة فيها حتماً إلى حروب إقليمية، وحزبية، وأسرية، وهي الثروة التي تُرغب باعتماد أسلوب الأقاليم الطائفية.
مَنْ يُتابع النهب والسلب الجاري الآن، وملف الفساد المالي منه والإداري، والتجاوزات المكشوفة على الحق العام وحقوق الأشخاص، يعتقد أن الجماعات الحزبية، المتنفذة حالياً، قد خرجت تواً من مجاعة مزمنة، لا يسد أفواهها لا نفط ولا ذهب، وهي بهذا السلوك لن تترك وبراً ولا مدراً للأجيال القادمة. وكما نرى من فوضى الإدارات، أن محافظ المحافظة سلطان في محافظته، حسب الموقع الحزبي، وهذا ما جعل البصرة تُنهب كل هذا النهب، وتؤسس بثرواتها صروح مالية. وما يشهد بمجاعة تلك القوى أنها هجمت في صبيحة التاسع من أبريل لنهب مقرات لأحزابها، وبالتزامن مع نهب قصور لرؤسائها، وتوسع الحال إلى تسوير مزارع وحدائق، ودور مجاورة للحمايات. والأمر جرى بشرعية الديمقراطية!
هناك نتذكر اللحظة الحرجة التي وقفها الخليفة عمر بن الخطاب (اغتيل 23هـ) عند فتح أرض العراق، أو السواد. أراد المقاتلون توزيع الأرض غنائم، مثلما كان الحال في الغزوات والفتوحات الأخرى، أجابهم الخليفة بكتاب إلى القائد سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ): "بلغني كتابك، تذكر أن الناس سألوك أن تقسم بينهم ما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي فانظر ما جلب عليه أهل العسكر بخيلهم وركابهم من مال أو كراع، فأقسمه بينهم بعد الخُمس، واترك الأرض والأنهار لعمالها، ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين مَنْ حضر لم يكن لمَنْ يبقى بعدهم شيئاً" (البلاذري، فتوح البلدان، أبو يوسف، كتاب الخراج).
قال مؤرخ فتوح البلدان أبي الحسن البلاذري (ت 279هـ): "أقر عمر بن الخطاب السواد لمَنْ في أصلاب الرجال، وأرحام النساء" (الفتوح)، بمعنى للأجيال القادمة. فأي مستقبل ينتظر البلاد والعباد إذا وزعت الأرض، بما أظهرت وما خزنت، على فئة من الناس، ومن جيل واحد. وقال لهم الخليفة، وهو يواجه الضغوط، فأرض العراق ليس كغيرها سوداء من شدة الخضرة والخصوبة: "قد أشرك الله الذين يأتون بعدكم في هذا الفيء" كتاب الخراج). بعدها لم يلغ الخليفة علي بن أبي طالب، وقد أصبحت الكوفة عاصمة له، ما تقرر. وجرت محاولة من قبل الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ) إلا أنه تردد بعد أن أُخبر بما أقره عمر. وهكذا ظلت أرض السواد "لا تشترى ولا تُباع". حتى جاء الوزير السلجوقي نِظام الملك (اغتيل 485هـ) فخالف سُنَّة عمر بأرض السواد ووزعها إقطاعيات، وما هي إلا عقود فأعادها المستنجد بالله (اغتيل 566هـ) إلى الخراج، وربما قُتل بسببها، في ظل الهيمنة السلجوقية. ويعد هذا الخليفة من جملة المستبدين العادلين في تاريخ الدولة الإسلامية.
بطبيعة الحال، الفارق كبير بين أولئك المقاتلين، الذين لم ينقسموا بعد إلى سُنَّة وشيعة، وبين الأحزاب والجماعات التي نحن بصدد الحديث عنها، أولئك أخذوها بأسيافهم، وهؤلاء جاءتهم عطية وهبة وبرداً وسلاماً، ومع ذلك تنمروا وأصروا على أخذ الفيء نهباً، وما زالوا يراكمونه، عبر الدين وعبر الديمقراطية معاً، فهم يقدمون أنفسهم وكلاء الله على الأرض، ويمتلكون ناصية الفتوى، لذا أشاعوا في رؤوس البسطاء، ممَنْ طال عليهم الأمل والانتظار، أن عدم انتخاباهم سيقود إلى نار جهنم، بل يقطع الأرزاق، ويُطلق النساء، ويخرج من الملة. أليس هذا هو الاستبداد بعينه؟
الأحزاب والجماعات والشخصيات، منها المعارضة السابقة ومنها الذين امتطوا صهوة الحدث، مطالبون بإعادة أملاك الدولة، وبالاكتفاء بمقر أو مقرين، ودار أو دارين، وأن يفرغوا ساحل دجلة لبغداد، ويعيدوا دوائر البصرة ونواديها، فأظن أن أربع سنوات من الاستئثار بالكبار والصغار من الأملاك، يكفي لسد فرط مجاعة في نفوسهم، ولو كانت بقوة ويبس مجاعة عام الرمادة (18 هـ) الشهيرة. ومَنْ أحب عمر بن الخطاب فسيرة عمر تقدمت، وقد ترك في الأرض لمَنْ هم في أصلاب الرجال وأرحام النساء. ومَنْ أحب علي بن أبي طالب فأصغر حرسي من حماية المعممين والأفندية السياسيين أكثر منه ترفاً وانبساطاً في العيش. أعيدوا للدولة أملاكها، فما كانت شواطئ الرافدين فيئاً لكم! واحسبوا أن هناك مليوني مهجر داخل العراق بلا مأوى ولا مأكل، بسبب محاصصتكم الديمقراطية! وملايين من المهاجرين خارج العراق! ولا ندري إذا كان في نيتكم إفراغ العراق من بشره وثرواته!