جريدة الجرائد

ساركوزي يحب «المسلمين المهذبين»

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


باريسـ سامي نزيه، الراي

لو كان باستطاعة الرئيس الفرنسي المنتخب نيكولا ساركوزي، اختراع "قالب بشري"، لكان قولب المسلمين الفرنسيين على هواه، بحيث يصبحون أكثر قبولا بما تمليهم عليهم وزارة الداخلية وأقل تمردا وحضورا... لكن الأمور غير ذلك.
ولو كان بامكانه جعل العرب أصدقاء لاسرائيل قابلين بوجودها وتفوقها، لكان أنزل عن ظهره هم العلاقة التحالفية العضوية مع الدولة العبرية والتي قد تخلق له لاحقا بعض المشاكل في عدد محدود من الدول العربية... ليس كلها بالطبع.
ومع ذلك فان لساركوزي "الفضل" في أنه يقول علنا ما أضمره طويلا معظم المسؤولين الفرنسيين، يمينيين كانوا أم يساريين، باستثناء الرئيس جاك شيراك الذي اعتقد لفترة، وجيزة طبعا، أن بامكانه أن يخلق توازنا سياسيا في الشرق الاوسط من خلال اقترابه من العرب مقابل اقتراب اميركا من اسرائيل. كان الأمر مجرد اعتقاد، امضى بقية ولايتين يعتذر عنه وعن "السياسة العربية" التي حلم بها بعيد انتخابه رئيسا عام 1995.
اهتم ساركوزي بقضية المسلمين منذ فترة طويلة، وتحديدا منذ تولى وزارة الداخلية التي تضم أيضا ملف الطوائف والمذاهب في بلد تبقى فيه العلمانية، على الاقل حتى الآن، السمة البارزة للجمهورية الخامسة.
ادرك ساركوزي كغيره من المسؤولين أن الوزن السياسي لمسلمي فرنسا بات غير قابل للتجاهل، فعددهم ربما تخطى خمسة ملايين نسمة (البعض يتحدث عن 6 ملايين)، وأن عدد ناخبيهم فاق مليون ونصف المليون ناخب.
وأدرك أيضا ان من غير الممكن حل المشاكل الأمنية والاقتصادية التي تعيشها الضواحي الفرنسية من دون الأخذ في الاعتبار حقيقة هذا الوجود الاسلامي الطاغي، تماما كالأفريقي، في تلك المناطق المعتبرة حتى الآن في وضع لا تحسد عليه لناحية الامن والمخدرات والبطالة واليأس المؤدي الى الارهاب.
جاء هذا الادراك في اعقاب عدد من التفجيرات التي عرفتها فرنسا في منتصف التسعينات والتي ارتبطت بالصراع الذي دار في الجزائر بين السلطة و"الجبهة الاسلامية للانقاذ"، في ضوء الغاء الدورة الثانية للانتخابات التشريعية واقصاء جبهة عباسي مدني وعلي بلحاج عن السلطة، والزج بالرجلين في السجن.
آنذاك ايد ساركوزي خطوات الجيش الجزائري، فيما كان الرئيس الاشتراكي الراحل فرنسوا ميتران يدغدغ بعض الاسلاميين على اعتبار انهم قد يصلون الى السلطة. (وهو بالمناسبة يكن ودا خاصا لقادة المغرب العربي وتحديدا للملك محمد السادس والرئيس عبد العزيز بوتفليقة).
كانت صور الدماء في القطارات الباريسية أيقظت الفرنسيين على واقع الاسلام عندهم وخطره ما لم يتم احتواؤه. فالمهاجر الجزائري الشاب خالد قلقال قام بعمليات ارهابية وقتلته قوات الامن الفرنسية، وذهبت مجموعة مسلمة فرنسية الى المغرب لتفجر "فندق آسني" السياحي في مراكش، وتم الكشف عن خلايا من المسلمين الفرنسيين او الفرنسيين المعتنقين الاسلام لها ارتباطات بـ "القاعدة".
قررت فرنسا الرسمية التعامل مع هذا الواقع بوجوه عديدة، فتم تشديد القبضة الامنية من خلال العملية الشهيرة المعروفة باسم "فيجيبيرات"، لكن تم ايضا الافساح في المجال أمام وصول بعض ذوي الاصول المغربية الى السلطة. وكان ايصال 3 من المغاربة الى مجلس الشيوخ، وتعيين الأديب الجزائري الفذ عزوز بغاغ وزيرا.
دخل ساركوزي بقوة على هذا الخط. فهم الاهمية الانتخابية للمسلمين، لكنه فهم أيضا ان شيراك ولاه وزارة الداخلية ربما لكي يغرق بمشكلة الضواحي وغيرها.
الرجل ذكي، لماح، التقط الفخ، طوقه، التف عليه. كثف اتصالاته بالمنظمات الاسلامية، اقنع بعض قادتها بضرورة قيام مجلس تمثيلي لمسلمي فرنسا المتنازعين في ما بينهم بسبب تنازع دولهم الاصلية (خصوصا بين المغرب والجزائر وتونس). نجح في تشكيل المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية، تيمنا بالمجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية.
أعلن أكثر من مرة رغبته الصريحة في ان يتمتع "مواطنونا المسلمون" بكامل الحقول التي يتمتع بها غيرهم. لكنه غالبا ما كان يقرن انفتاحه بشروط تفيد بضرورة التزام المسلمين بقوانين الجمهورية او بوجوب ان يكفوا عن القيام بتصرفات "لا سامية" حيال اليهود خصوصا بعد اعتداءات 11 سبتمبر 2001.
اخترقت الاجهزة الامنية، المنظمات الاسلامية في فرنسا الشرعية وغير الشرعية منها. صارت الداخلية بمثابة الوصي المباشر على قرارات المجلس الفرنسي للديانة الاسلامية... تمردت بعض المنظمات.
قال ساركوزي كلمته الشهيرة "الأوباش" او "الأوغاد"، عن شبان الضواحي. رد متمردو الضواحي باحراق آلاف السيارات وبصب جام غضبهم عليه. قيل انه ارتكب خطأ فادحا. تبين ان الامر لم يكن عن طريق الخطأ وانما كان لوضع الاصبع مباشرة على الجرح. اراد ساركوزي ان يضع كل المسؤولين امام مسؤولياتهم بدلا من طمر رأس النعامة في التراب.
تلقفت الاحزاب اليسارية نقمة شبان الضواحي، البتها بغية الحصول على أصواتها رغم ان بعض القادة المسلمين في فرنسا يدركون ان الاشتراكيين خدعوهم أكثر من مرة تماما كما خدعهم اليمين، وان الشيوعيين هم وحدهم المدافعون دائما عن حقوق المهاجرين.
لكن اللافت ان اهالي شبان الضواحي صاروا أكثر ميلا لساركوزي منه للاشتراكيين، لاعتقادهم بان الرجل قادر على اخراج ابنائهم من الشوارع والاقبية والازقة والمخدرات والارهاب واعادتهم الى الطريق السوي.
جاهر ساركوزي بانه يريد اخراج المسلمين من مرائب (كاراجات) البنايات لكي تصبح الصلاة علانية، وقال انه يرفض ذبح الاضاحي في حمامات ومراحيض البيوت. وقال انه سيفك الارتباط بين مسلمين فرنسا ومصادر التأثير الخارجية، بحيث يتم تأهيل ائمة، ويصار الى تمويلهم من فرنسا وليس من الخارج. وهي فكرة قديمة كان سبقه اليها وزير الداخلية السابق اليميني شارل باسكوا.
لا شك ان قسما لا بأس به من مسلمي فرنسا لم يصوت لساركوزي، لكن الاكيد ان قسما منهم صوت له ويؤيد خطواته على اعتبار انه سيكون لهم افضل من الاشتراكيين ومن المواقف الضبابية لليمين التقليدي في عهد شيراك الذي كان جاهر مرة بانه لا يرغب بـ "روائح وضجيج" بيوت المهاجرين المغاربة.
ولم يكن مفاجئا انه فور الاعلان عن فوز ساركوزي بالانتخابات الرئاسية، لجأ بعض شبان الضواحي الى التمرد والعصيان واحراق السيارات، فهم يعرفون تماما كما يعرف ساركوزي، ان الفترة المقبلة ستكون فترة تشدد أمني كبير، وسيقمع شبان كثيرون وسيرحل بعضهم الى بلادهم، لكن لا بد من تسويات اقتصادية وتخفيف البطالة وتحسين ظروف الحياة، ويقال ان ساركوزي وبعض مستشاريه يفكرون جدا بذلك بغية جعل باريس كلها بما فيها الضواحي قابلة للحياة ومستقرة امنيا واقتصاديا... الحلم كبير ولكنه قابل للتحقيق.
اما سياسيا، فان الرئيس المنتخب لم يخف مرة واحدة علاقته الحمية وصادقته وتحالفه مع اسرائيل. فهو جاهر غير مرة بان "حزب الله"، ارهابي، لانه قصف شمال اسرائيل. وهو المعبر دائما عن الاعجاب بالدولة العبرية، وهو لم يتردد خلال لقاءيه السفراء العرب والجالية اللبنانية في باريس قبيل الانتخابات، في التأكيد على صداقته لاسرائيل.
ليس الامر مرتبطا فقط ببعض الاصول اليهودية للرجل او برعاية اللوبي اليهودي الفرنسي والاميركي له (رغم ان الحزب الاشتراكي كان اشتهر دائما بانه معقل هذه اللوبيات المؤيدة لاسرائيل). لكنه مرتبط برؤية اشمل للشرق الاوسط والعالم العربي تفترض ان تقوم على اساس التحالف العضوي مع اميركا وبالتالي مع اسرائيل.
لكن هل هذا يعني ان ساركوزي "سيؤمرك" السياسة الفرنسية حيال الشرق الاوسط؟
بالطبع لا، فالرجل تهمه مصلحة بلاده قبل كل شيء، واذا كانت علاقته العربية محدودة حتى الآن، ومعارفه المغاربية اكثر اهمية من صداقاته الشرق اوسطية، الا انه يعرف تماما "من اين تؤكل الكتف" الاقتصادية والسياسية.
ويكفي في هذا السياق، ان نذكر انه حين لبى قبل سنوات دعوة السفير السوري الياس نجمة للذهاب الى دمشق، عاد منها ليكتب باعجاب عن البلد الذي احب. (يمكن مراجعة كتابه بعنوان "حر").
يدرك ساركوزي اهمية الحضور الاقتصادي العربي في بلاده، ويدرك ايضا ان العلاقات العربية - الاسرائيلية لم تعد تتطلب مواقف فرنسية حاسمة، فمعظم العرب باتوا اصلا ضد "حماس" و"حزب الله"، وهم بالاصل اميركيو الهوى. ان "الوهم" الديغولي انتهى منذ زمن طويل، لا بل ان من يدقق بمواقف شيراك اصلا يعرف انها لم تكن بهذه الدرجة من "الغرام" بالدول العربية بسبب ديغوليته (وهي قابلة للنقاش اصلا) وانما لان المصالح الاقتصادية الفرنسية وجدت ساحتها الفضلى عند العرب.
ان شيراك ادرك الاهمية العربية، حين فتح له صدام حسين خزائن بلاده لانشاء مفاعل تموز النووي (الذي قصفته اسرائيل لاحقا ويقال انها فعلت بفضل معلومات استخباراتية فرنسية)، وعمق علاقاته مع العرب بفضل صديقه رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري. اكتشف شيراك ان العرب "خزانة مفتوحة"، فلم يكن يتردد في الاتصال برئيس دولة عربية لتسهيل صفقة لشركة فرنسية، او ان يحمل معه الصفقة في زياراته الرسمية (صفقة طائرات "ميراج" مثلا للامارات العربية).
لا شك ان العرب سيشعرون بتغيير في السياسة الفرنسية، خصوصا ان ساركوزي جاهر في الخطاب الاول له بعيد انتخابه رئيسا، بانه سيكون الى جانب الولايات المتحدة كلما احتاجت اليه، لكن ساركوزي ايضا سيشعر بأن ما كان يقوله عن اسرائيل حين كان وزيرا او مرشحا للرئاسة لن يستطيع الاستمرار به طويلا اذا ما قامت تظاهرات عربية منددة بما يقول. وفرنسا بهذا المعنى هي أكثر هشاشة من الولايات المتحدة، ومن الصعب جدا تصورها قابلة بان تصبح "اطلسية" الهوى، كما هو شأن اسبانيا او ايطاليا او بريطانيا، مثلا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف