جريدة الجرائد

لبنان: مواجهة أميركية إيرانية؟!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


د. خالد الدخيل

فجأة التهبت الجبهة في لبنان. انطلقت الشرارة بالمواجهة التي انفجرت يوم الأحد الماضي بين جماعة "فتح الإسلام" والجيش اللبناني. في اليوم نفسه حصل تفجير الأشرفية في بيروت. في اليوم التالي تفجير منطقة فردان. هذا تصعيد لافت، خاصة من حيث التوقيت. فهو يأتي مباشرة بعد انتقال قرار تشكيل المحكمة المعنية بمحاكمة المتهمين في اغتيال رفيق الحريري من المؤسسات الدستورية اللبنانية إلى مجلس الأمن. اللافت الآخر هو حجم ونوعية تسليح الجماعة غير المعروفة، مما سمح لها بأن تجعل من مواجهتها مع جيش الدولة عملية طويلة ودامية. ما يحصل لن يكون على الأرجح تطوراً طارئاً، أو مؤقتاً. هو يأتي وسط احتقان الوضع السياسي، ويتزامن مع انتقال المحكمة إلى مجلس الأمن، وبالتالي يتقاطع مع انقسام المجتمع السياسي اللبناني وامتداداته الإقليمية والدولية، ومع الاستحقاق الرئاسي. الترابط الزمني بين هذه التطورات هو واجهة لترابطات وتداخلات أخرى. لكن النظام السياسي اللبناني لا يحتمل عمليات التفكيك المطلوبة هنا.

الآن أضف إلى ذلك المواجهات الدامية بين "فتح" و"حماس" في غزة، وهي الأخرى مواجهات انفجرت مجدداً بعد اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. أيضاً أضف الحرب الأهلية غير المعلنة داخل العراق. ثم لا تنس الصومال والسودان. عندما نأخذ كل ذلك في الاعتبار، لا يمكن تفادي القول بأن المنطقة العربية تتحول بشكل تدريجي إلى ساحة حرب بين قوى وتيارات محلية وإقليمية ودولية. وهو أمر سيدخل المنطقة في نفق طويل، إن لم تكن قد دخلته بالفعل. في الإطار نفسه يأتي الإرهاب بضرباته الإجرامية ضد المدنيين، ومواجهاته الدامية مع قوى الأمن في كثير من الدول العربية ليتكامل مع عناصر الصورة، ويضيف إلى تأكيد المنحى الذي يسير فيه العالم العربي حالياً.

ما علاقة هذا بالسؤال الذي طرحناه الأسبوع الماضي عن احتمال ضربة أميركية لإيران؟ الحقيقة أن المواجهة الأميركية الإيرانية في المنطقة هي الآن على قدم وساق: في العراق وفي لبنان، وقبل ذلك وبعده في الملف النووي لطهران. توجيه ضربة عسكرية أميركية لمنشآت إيران النووية لن يكون أكثر من نقل للمواجهة إلى مستوى الصدام العسكري المباشر بين الطرفين. المواجهة حالياً تأخذ في جزء منها صيغة صدام عسكري، لكنه غير معلن وغير مباشر، ومن خلال الآخرين. ينبغي أن نتذكر في هذا السياق بأن واشنطن تتهم إيران بالوقوف وراء تدريب وتسليح الكثير من جماعات المقاومة في العراق، وبشكل خاص وراء استهداف عناصر الجيش الأميركي هناك. يحتفظ الأميركيون بمجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين باعتبارهم عناصر استخباراتية. الحرب الإسرائيلية على لبنان الصيف الماضي هي امتداد للمواجهة ذاتها. كل ذلك صحيح. لكن ما علاقة طهران بموضوع المحكمة، وبالتالي بجماعة "فتح الإسلام"؟ لا أحد يتهمها بشيء هنا. هي طرف غير مباشر في اللعبة السياسية اللبنانية، وفي الصراعات الإقليمية الدائرة، وبالتالي تتقاطع سياساتها ومصالحها مع الأطراف المعنية وذات العلاقة بتداعيات اغتيال الحريري.

ماذا عن الدور السوري فيما يحدث في لبنان هذه الأيام؟ أيضاً ليس هناك دليل على دور لسوريا هنا. هل إن الترابط الزمني بين التصعيد وانتقال موضوع المحكمة إلى مجلس الأمن مجرد تزامن حصل بالصدفة؟ أم كان مخططاً له كرد فعل على ما حصل لهذه المحكمة؟ وفي هذه الحالة، من هي الجهة التي تقف وراءه؟ وزير الخارجية السوري، وليد المعلم وصف المحكمة، بعد انتقالها إلى مجلس الأمن بأنها أداة ضغط في يد الولايات المتحدة. هذا تعبير مباشر عن استياء مما حصل، رغم أن سوريا تقول بأنها غير معنية بالمحكمة. تزامن التصعيد مع انتقال المحكمة إلى مجلس الأمن يرجح أنه حصل كجزء من مخطط مسبق، لكنه في الوقت نفسه لا يعني بالضرورة أن سوريا هي التي تقف وراء هذا المخطط. على الآخرين أن يكشفوا أوراقهم. ربما أن هناك طرفا ثالثا أو رابعا يعمل على استغلال الوضع اللبناني، وقابلية سوريا للاتهام، لفرض واقع يخدم أهدافه السياسية في المنطقة. الأطراف اللبنانية، تحديداً جماعة 14 آذار وجماعة 8 آذار، وفي إطار تجاذباتها السياسية، لا تتوقف عن توجيه الاتهامات يمنة ويسرة من دون دليل مقنع. الاعتماد هنا فقط على الاستنتاجات المنطقية. وهي استنتاجات مهمة ومطلوبة، وربما تخدم الغرض السياسي لهذا الطرف أو ذاك، لكنها لوحدها ليست كافية. لكن يبقى أن سوريا هي الخاسر الأبرز إعلامياً في هذه اللعبة.

إيران هي أكثر المستفيدين مما يحدث. إرباك الوضع السياسي في الأراضي المحتلة، وفي لبنان تحديداً يفتح جبهة أخرى في وجه الأميركيين، ويربك حكومة أبو مازن في رام الله، وحكومة السنيورة في بيروت. إرباك أصدقاء أميركا يزيد من أعبائها، وربما يزيد من إرباكها أيضاً. وفي كل ذلك تكسب طهران من حيث أن مجريات الأحداث في هذه الحالة تزيد من الأكلاف الأمنية والسياسية لتوجيه ضربة عسكرية لها. بل إن إدخال، أو دخول المنطقة في دوامة المواجهات العسكرية، وعدم الاستقرار الأمني يجعل يدي واشنطن مغلولة أكثر مما هي عليه الآن، ويزيد من حجم اتهامها بمسؤولية ما يحدث من تدهور في المنطقة. والحقيقة أن السياسة الأميركية عامل أساسي في ذلك. إقدام واشنطن على عمل عسكري ضد إيران في هذه الظروف يصبح ضرباً من المغامرات غير المحسوبة، لأنه سيجعل المستنقع الأميركي في العراق يتمدد على مستوى المنطقة. أضف إلى ذلك الانقسام الحاد بين إدارة بوش والكونجرس "الديموقاطي". يصر هذا الكونجرس على وضع قيود على تمويل الحرب في العراق، فما بالك بحرب جديدة مع إيران؟ أصدقاء أميركا لا يرفضون فقط الخيار العسكري مع إيران، بل بدؤوا يفقدون ثقتهم في السياسة الأميركية التي أوصلت الأوضاع في المنطقة إلى حالتها المتردية حالياً. ينطلق هؤلاء، وخاصة السعودية، من أن السياسة الأميركية وخاصة في العراق، هي السبب الأهم وراء بروز الدور الإيراني، والوجود الإيراني في العراق، بل وربما اندفاع طهران السريع في برنامجها النووي.

لكن أعد النظر فيما حدث ويحدث. مسار الأحداث كما يبدو على الأقل، يهدف فيما يهدف إليه، إلى الضغط على أميركا بهدف إخراجها، ليس فقط من العراق، بل من المنطقة. لا تريد سوريا أن ينتهي خروجها من لبنان بخسارتها كلياً للورقة اللبنانية. هذه أحد أهم أوراقها في منطقة الشام. من جانبها لن تتنازل إيران عن طموحها النووي لأنه خط دفاعها الأول والأخير عن مكتسباتها الإقليمية، وعن دورها المتنامي في المنطقة. إسرائيل تقر بفشل جيشها أمام قوات "حزب الله" في الصيف الماضي، لكن هل تتوقف عند ذلك؟ وهل تقبل التعايش مع إيران كقوة نووية؟ إدارة بوش في وضع حرج جداً في الداخل، وفي مأزق حقيقي في العراق. هل تندفع نحو خيار قلب الطاولة على من يحاول إخراجها؟ مصر في حالة انكفاء، والدور المصري يكاد يختفي من الساحة السياسية في المنطقة. السعودية قلقة مما يحدث، وتكاد تكون الدولة الوحيدة التي تحاول لملمة الملفات والأحداث، لكن بمفردها قد لا تتمكن من فعل الكثير. هذه الأجواء توحي بأن المنطقة مقبلة على انفجار. حالياً إدارة بوش في السنة الأخيرة قبل حلول موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام القادم. إذا كانت هذه الإدارة تخطط لضربة عسكرية لإيران، فالأرجح أن تكون في هذا الصيف أو لا تكون أبداً.

وقفت أميركا مع صدام حسين في حربه مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي. في نهايتها التف الرجل وقام باجتياح الكويت. عندها بدأ العد التنازلي لما حصل بعد ذلك. الغزو الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين كان هدية غير مقصودة لطهران. بعدها اندفعت طهران في دورها الإقليمي وفي برنامجها النووي. هل تستند واشنطن مرة أخرى إلى المنطق ذاته الذي عاقبت به صدام، لتعاقب به طهران؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف