قليلون من البريطانيين يحبذون شرب نخب مع براون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إنه رجل يتمتع بالفكر والمعرفة وحس المبادرة، فماذا يهم لو أن القليل من البريطانيين يرغبون بشرب نخب مع رئيس الحكومة المقبل.. غوردون براون
كاثرين مايو - التايم
ما هي المواصفات الواجب توفرها في القائد؟ هل هي الحكمة؟ أم الغنى؟ أم ربما الخبرة؟ لكن الشيء الذي يهم فعلا هو الشعبية -ذلك العامل المعنوي الغامض- الذي يحمل الناخبين على مشاركة السياسي في تحمل المسؤولية. وعلى هذه الجبهة، يبدو غوردون براون - الأسكتلندي البالغ من العمر 56 عاما والمتوقع أن يخلف توني بلير كرئيس للوزراء البريطاني هذا الصيف لديه مشكلة.
تقول البارونة موريس بارونة ياردلي التي عملت مع براون عندما كانت وزيرة دولة للتربية والمهارات إن "غوردون كان آخر زميل في الحكومة يمكن أن تفكر في تناول مشروب معه". أما بوب غيلدوف، الموسيقار والناشط في مجالات الإغاثة، فقد طور علاقة وثيقة مع براون حين انضم إليه في حملة تخص إفريقيا. لكنه هو أيضا يرى حدودا لصداقتهما الحميمة. ويتساءل غيلدوف: "هل من السهل قضاء ليلة معه في البار؟" ويضيف "كلا، لأنه سيصاب بالملل.. ليس بسببك، وإنما بسبب ذلك المستوى من اللغو والقيل والقال"، حتى أن دائرة براون الداخلية تبدي قلقا من موضوع عامل غياب الألفة عنه. ويعترف احد حوارييه المخلصين بقوله: "من المهم أن الناس يرغبون تناول كأس من الجعة مع غوردون".
لعل ما يجعل هذا الانطباع أكثر مثارا للدهشة هو أن براون يشكل، وبطرق عديدة، شخصية كبيرة. وقد برزت صفات رجل الدولة فيه أكثر ما يكون عندما وصل مؤخراً إلى المقر الرئيسي للمفوضية الأوروبية في بروكسيل، حيث ترجل من سيارته الليموزين وقاد مرافقيه إلى مؤتمر حاجج فيه بإصرار وعزيمة لصالح توفير فرص التعليم لكل طفل في العالم. ووجه براون مألوف في بروكسيل، فقد مثل المملكة المتحدة كوزير لمالية توني بلير في المحاورات المالية الدولية طيلة عقد من الزمان. كما لعب في الوطن دورا محوريا لضمان فوز حزب العمال في ثلاثة انتخابات متتالية، وكان من إنجازاته - إطلاق يد بنك إنغلند في تحديد أسعار الفائدة وهندسة استراتيجية ذكية تجنبت إلزام بريطانيا بالتبني السريع لليورو، وتحقيق سجل مؤثر اتسم بمعدل نمو ثابت ومعدل تضخم منخفض وإمكانات توظيف عالية- وهي مظاهر متأصلة في الحياة البريطانية حتى لتكاد تسير دون أن تلحظ تقريبا. لكل ذلك، يبدو البريطانيون وهم يفتقدون اليقين على نحو مدهش إزاء طبيعة هذا الرجل الذي سينتقل قريبا من 11 إلى 10 داوننغ ستريت. ولعل نفس نوع السؤال يربك حتى الرجل نفسه.
هو شخص صموت، وأسرع إلى التفكير منه إلى التحدث. يبدي اهتماما أكثر بالأفكار ذات الوزن منه بالخصائص الشخصية، ويجد من المحير أن يتوقع أن تفضي الضواحي اللينة في شخصيته إلى أن تشف عن مفاتيح تضاريسه السياسية. وهو شخص تحليلي، لكنه لا يبدو مدركا لذاته، فتراه أحيانا غارقا تماماً في تأملات جادة إلى درجة ينسى معها توضيب ربطة عنقه أو إخراج أطراف بنطاله من الجوارب أو التعرف إلى زملائه. وفي مؤتمر حزب العمال السنوي في الخريف الماضي، تقدم رئيس الوزراء المنتظر بخطى مرتبكة في حفل استقبال نظمه الحزب ومجموعة من المانحين المحتملين، ومد يده الضخمة إلى ضيوف غير مألوفين ووضع كاسحة جليد عرجاء حول مكان انعقاد المؤتمر في العاصمة الصناعية لشمال غرب انجلترا. وسأله احد محاوريه، وهو احد أقطاب الحزب والذي كان قد عمل معه حتى قبل أن يكتسح الحزب السلطة في عام 1997: "غوردون براون.. ما رأيك بمانشستر؟" وذكره بهدوء بأنهما كانا زميلين عملا معاً لفترة طويلة، ونفض مضيفه الأشعث رأسه الكبيرة مثل ثور طعنه للتو مصارع الثيران في الحلبة، وقال: "آوه"، وكان من الواضح أنه لم يكن الأكثر حكمة، فكرر السؤال: "على كل حال ما رأيك بمانشستر؟".
أما السؤال المشتعل بالنسبة لبراون فهو ما تفكر مانشستر إزاءه. فهو سيتولى السلطة في وقت تعب فيه البلد من مشروع حزب العمال الجديد الناجح الذي ساعد في خلقه. وهو يواجه حزب محافظين منبعثاً مجدداً بقيادة ديفيد كاميرون الذي يعيد تشكيل الحزب الآن وفق صورته الخاصة، ويهدف إلى حشد الدعم في المراكز العمالية التقليدية مثل مانشستر. وفي بداية أيار/ مايو ومع دخول السنة العاشرة لحزب العمال وهو في السلطة، أقصى الناخبون العشرات من ممثلي الحزب في البلديات الإنجليزية والبرلمان الاسكتلندي وجمعية ويلز. وكسب المحافظون في المعدل ما يقارب 40% من الأصوات في انجلترا قياسا مع 27% كسبها حزب العمال. ومع أنهم لم يستطيعوا تحقيق الاختراق المأمول في مانشستر، إلا أن هامشا مماثلا يمكن أن يكون كافيا لتغيير الحكومة في الانتخابات الوطنية المقرر أن تتم مع حلول ربيع عام 2010.
لضمان ولاية رابعة للعمال -وأول ولاية منتخبة له- فإن على براون أن يعمد بسرعة إلى خطب ود الناخبين المحرومين من خلال التعامل مع طائفة من المشاكل المؤلمة. ويتركز الامتعاض الشعبي على دور بريطانيا في العراق وإحساس الحكومة بالتبعية للولايات المتحدة، بالإضافة إلى موضوعات تتعلق بالأمانة والاستقامة التي أثارها الهبوط السريع لحزب العمال، والتحقيقات في جمع الحزب لتبرعات. ولن يباشر براون عمله كرئيس للوزراء إلى ما بعد اختتام التنافس على القيادة، والذي سيستمر لسبعة أسابيع. ومع أن الإجراءات ستكون مجرد رسميات على ضوء غياب معارضين يعتد بهم، إلا أن أغطية زجاجات الشمبانيا الفلينية لم تفرقع إيذانا بالترحيب بصعوده إلى السلطة. وفي الأثناء، يعترف كل شخص، معجبا كان به أو عدوا، بأن براون هو عملاق سياسي، لكنهم لا يزالون يتساءلون: هل هو عظيم كفاية أو ودود كفاية ليستحق منصبه الجديد؟
كل الأمر إذن يتعلق بسؤال الشخصية، والشخصية معقدة. وكما يعرف من يرتادون حفلات مؤتمر حزب العمال في مانشستر، فإن براون لا يتحدث عن الأشياء الصغيرة. كما وأنه يرفض اللسعات الصوتية المغوية لصالح الإدلاء بردود مدروسة، يمكن أن تجعل الرموش تتهدل، بينما العبارة العاشرة تعبد الطريق أمام العبارة الحادية عشرة.
يعترف براون في مقابلة مع مجلة التايم بأن طريقة العرض الكلامية مهمة، لكنه يستشعر عن رغبة بشهية جديدة لاكتناه الجوهر، ويقول "إن القضايا والتحديات قد أصبحت أكبر وأكثر كونية مما كانت عليه قبل عشر سنوات. واعتقد بأن الناخب يتوقع من الشخصيات العامة أن تخاطب كل ذلك بدرجة من الجدية".
لكن الشفتين اللتين نطقتا بتلك العبارة قادرتان لقادرة الابتسام وبشكل عذب، وكثيراً ما تفتران عن انفجارات من الضحك العفوي. انه يطلق النكات،، ولو أن أن أحدا لا يستطيع تذكر سياقاتها ولا أطارها. لديه ولدان شابان (ابنته ماتت بعد عشرة أيام من ولادتها في عام 2002)، ومقترن بزوجة متألقة تبدو ماهرة في استحضار الجانب المرح منه. ومع ذلك، يظل من الصعب تخيله وهو يغوص في متاهات العبث. ولا يعتبر مفاجئاً انه ينحدر من أصل اسكتلندي، وهي خلفية أفضت إلى ما يدعوه "شعورا بوجود بوصلة أخلاقية"، بالإضافة إلى نمط حياة مقتصد، مع باعث داخلي إلى التبشير الأنجيلكاني، والذي تحول منذ أمد إلى تركيز على قضايا مثل معالجة الفقر ومنع انتشار المرض في أفريقيا.
لعله من الصعب أن يتلمس في هذا الرجل القوي البنية، ذلك الرياضي الشاب الذي حلم باحتراف الرياضة إلى أن مني بإصابة وهو في السادسة عشرة من عمره أثناء مباراة في الركبي، والتي كادت أن تفقده بصره. وقال براون للتايم إن سلسلة العمليات التي نجمت عن الحادثة حرمته من اكتشاف العالم خلال سني دراسته. أما واضعو سيرة حياته -وهناك أربعة منهم، فيقولون انه اكتشف بدلا من ذلك عالمه الداخلي، وتطور إلى شخصية مولعة بالتأمل والتفكير، مع رؤيا مزدوجة ربما تفاقم تذكره الضعيف للوجوه.
بأعذار أو بدونها، عمل على خدش "أناه" بافتقاره إلى المهارات الاجتماعية وبأسلوبه التفاوضي الصارم. وعادة ما يواجه المستشارون زملاءهم في مجلس الوزراء البريطاني حول الميزانيات. ومع أن براون يبدو وأنه نتف من ريش الآخرين أكثر من معظم أقرانه، إلا أن البارونة موريس تقول إن حنقها حادة ما كانت تخفت حدته لدى الشعور بالامتنان، وتضيف: "إن المرء يفكر: شكرا لله على أنه (براون) يدير الاقتصاد بطريقة جيدة إلى درجة أصبحت لدينا معها هذه الأموال لإنفاقها". وفي الغضون، بدا الآخرون اقل تسامحا، إذ وصف زميل الحكومة السابق تشارلز كلارك براون بأنه "ذو نزعة سيطرة غريبة"، بينما وصف لورد تيرنبل، المسؤول العام الرفيع، أسلوب إدارته في وزارة المالية بقوله "انك لا تستطيع سوى ان تبدي إعجابك بالفظاظة الستالينية الخالصة في الأمر كله". وخلال ثمانية اشهر أعقبت أول انتصار لبلير، شوه مصدر من داخل 10 داونتغ ستريت براون من خلال تشخيصه بأنه "متصدع نفسيا".
فيما يلي ما يقوله أصدقاؤه: يصفه جيوفري روبنسون، عضو البرلمان وصراف الرواتب العام السابق بأنه "قوة مندفعة، ويتكون لديك شعور بأن ثمة جزءاً من دماغه يظل منهمكاً دائماً في الواجب". ولعل مبعث القلق في صفوف أعضاء البرلمان العماليين في المقاعد الخلفية، المشغولين بهاجس الأحاديث التي تدور في بارات ويستمنستر عن الأموال الممنوحة لأسباب سياسية، إنما تتعلق بتلك المهارات الناعمة التي تظل محل تساؤل. ويقولون انه يترتب على براون أن يتعلم كيف يكون أقل شبهاً بنفسه. وماذا كان الشخص النموذج الذي اختاروه له? إنه بلير.
إن تلك هي الفكرة المهيمنة والمكرورة في حياة براون السياسية. ففي عام 1994، كان قد تنحى ليتيح لبلير المجال لقيادة الحزب، مقتنعاً بأن صديقه الفطن في الإعلام سيروق أكثر للناخبين. وفي الغضون، يدعي مؤيدو براون بأن رئيس الوزراء نكث باتفاق كان يقضي بأن يتنحى بعد ولايتين ليعطي براون دوراً في القيادة. لكن بلير لم يظهر أي ميل إلى التنحي حتى عمد أعضاء البرلمانيين القلقون من أن تفضي عدم شعبية ما بعد العراق إلى تقويض الحزب إلى إقناعه في أيلول/ سبتمبر الماضي بالاستقالة خلال سنة.
تلك المغادرة ستسدل الستارة على عمل مزدوج ناجح. فبالرغم من الضغينة التي تعود إلى تنافسهما الشخصي، فإن بلير وبراون -لينون ومكارتني- السياسات، يمتلكان كيميائية خلاقة. وبينما ينهمك براون بالتفرد في حرفته، يجد غيلدوف مقارنة جديدة ومقنعة، ملاحظا أن "براون هو rsquo;فان موريسونlsquo; السياسة، شكس، ولكنه لامع".
يشك أولئك الذين يعرفون براون على نحو أفضل في انه سيتحول إلى شخص ساحر معترف، والذي يحبه الجمهور بما يكفي ليتحملوا مشاركته في جولة من الشراب في الحانة المحلية. ويصلي بعض مؤيديه من أجل أن لا يحاول ذلك، شاعرين في شخصيته الصلبة مثل الماس ترياقا تمس الحاجة إليه أكثر ما يكون لعلاج التشاؤم الشعبي العام المتصاعد، والذي طبع سنوات بلير الأخيرة. ويتطلع موريس من جهته إلى حقبة من "السياسات التي تمارس بشكل مختلف. وإذا ما كان حزب العمال قد مني بأي إخفاق منذ عام 1997، فهو لأننا سمحنا لتلك الثقة والانفتاح مع الجمهور بأن يذهبا".
بل إن براون نفسه يقترح وضع نهاية لثقافة التصريحات السياسية غير المنتهية، والاهداف التي قوضت، ثم أنهت الثقة في حكومة بلير، ويقول "لا تستطيع مجرد سحب الرافعات وتوقع حدوث الأشياء إذ عليك أن تحظى بدعم الشعب".
وفي الحقيقة، أثبت فشل بلير في كسب دعم شعبي للحرب في العراق بأنه جرح كارثي أحدثه لنفسه. وكما احتدم النقاش في عام 2003، تحرى مراقبو ويسمنستر في شخصية براون التي لا تحظى بكثير إعجاب انتقاداً مراوغاً لسياسات الحكومة، لكنه ابلغ التايم بأنه دعم إرسال قوات إلى العراق ولن يتنصل من ذلك القرار اليوم. ومع أن كاميرون سيسلط الضوء على ذلك التورط وأن بعض الناخبين لن يسامحوا العمال أبدا، إلا أنه يتبقى أن يجد براون في حطام تلك الحرب طريقة واحدة ايجابية يميز من خلالها بين قيادته وقيادة بلير.
يعتبر المستشار أحد المعجبين بأميركا. وهو يحب ديناميكياتها وطالما كانت وجهته المختارة لقضاء عطلته لعدة سنوات. وهو يقدم بحماس محاضرة مطولة وواسعة المعرفة عن القيم العامة للحرية وتوافر الفرص التي تربطها ببريطانيا. لكنه عندما سئل عن اجتماع خاص ضمه مؤخراً مع الرئيس بوش، كانت إجاباته تهربية عن تصميم. وعندما يكون رأياً في النهاية، فإنه يقدمه فاترا، ويقول "اعتقد بأن المصلحة المشتركة التي توجد في القيم المشتركة تعتبر أساسا ناجعا لكافة العلاقات في المستقبل".
في الوطن، سيؤتي مثل هذا التحول في النبرة أكله في نهاية المطاف، فقد يتوقع البريطانيون أن يكون رئيس الوزراء حميماً وودوداً، لكن تعبيرات بلير المتكررة والمفرطة في العاطفية عن الود تجاه صديقه الحميم في البيت الأبيض جعلتهم يشعرون بالاستغراب. وعلى تلك الجبهة، على الأقل، فإنهم ربما يرحبون ببعض التحفظ البريطاني من طرف غوردون المشاكس.