جريدة الجرائد

نزف وشقوق جديدة في النسيج الاجتماعي الباكستاني

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



جيسون بيرك - الأوبزرفر

عندما يتجه الدكتور خالد مسعود من منزله في شمال كراتشي الى عمله في مستشفى قطر كل صباح، فإنه يجتاز الخط الامامي. ويمر بسيارته في منطقة بينارس تشوك، حيث الأخاديد تكتنف الطرقات، وتتدلى أسلاك الكهرباء، وحيث تعبر الحافلات الغاصة براكبيها، قبل أن ينعطف باتجاه حي أكواخ أورانجي المتراصة.

بالنسبة للعين والأذن غير المدربتين، فإن ثمة القليل مما يمكن تمييزه بين المنطقتين؛ فمنطقة اورانجي التي يعيش فيها اكثر من ثلاثة ملايين انسان في فقر مدقع تشترك مع بينارس في العدد المتساوي تقريبا من السكان الفقراء، وفي انشار الكوليرا والفوضى والتيفوئيد والدزنطاريا والجرعة اليومية من العنف. ومع ذلك، فإن ثمة فرقا: ففي الاولى يتحدث الناس لغة الأوردو وفي الثانية الباشتو، وهي لغة القبائل التي تنحدر من المقاطعات الباكستانية الشمالية الغربية. وقد لا يبدو هذا الأمر مهماً، لكنه كان كافياً حتى يشعل أواسط هذا الشهر عنفاً سياسياً وداخلياً أفضى إلى مقتل 47 شخصا وإصابة المئات بجروح.

يقول الطبيب مسعود في عبارات لها ما وراءها: "توخيا للأمانة، لقد شعرنا بأننا خائفون قليلا".

يؤشر التقسيم اللغوي خط انقسام عرقي وسياسي ايضا؛ إذ إن الصدوع التي تقسم الأمة تبدو متضخمة أكثر في مدينة كراتشي، الميناء والمركز التجاري الباكستاني الذي يعتبر موطنا لحوالي 14 مليون. وسكان اورانجي هم من المتحدرين من المهاجرين الذين كانوا قد هربوا من الهند الى الباكستان عندما اعلنت الأخيرة دولة مسلمة مستقلة قبل 60 سنة. لكن مدينة الاكواخ الضخمة محاطة بجماعات تهيمن عليها اثنيات اخرى -الباشتون والسند من المناطق الريفية التابعة للمدينة، والبنجاب من الشمال الشرقي، والبلوش من الغرب. وتتعايش الجماعات، بمقياس قومي، بشكل غير سلس، وكلها مسلحة وواعية لعقود النزاعات السابقة، وكلها تتصبب عرقا في ظل درجة حرارة تصل الى 40 درجة مئوية وانقطاع متكرر في التيار الكهربائي، وكلها تدرك ان الحرب الاهلية قابعة خلف الزاوية.

يقول الدكتور سيف احمد مدير مستشفى قطر: "كان النزاع العرقي قد بدأ في ثمانينيات القرن الماضي واعتقدنا اننا قد تخلصنا منه. والمشكلة الكبرى الماثلة الآن تكمن في حماية كوادرنا". لأن العنف الذي اندلع في كراتشي أواسط الشهر يقف ليذكر بأن العامل الإثني يظل عنصراً حاسماً ايضا بالرغم من اعتبار التطرف الديني غالبا بمثابة اكبر تهديد للباكستان.

رغم أن الأزمة اندلعت بسبب خليط من السياسات المحلية العاجزة والهويات المختلة، إلا أن هناك شعوراً بتبعاتها على الصعيدين القومي والدولي. وتأمل جماعات المعارضة في أن تشكل تلك الأحداث بداية النهاية لحكومة برفيز مشرف، جنرال الجيش الذي كان قد استولى على السلطة عبر انقلاب في عام 1999.

في هذا الصدد، يقول الدكتور سمينا احمد: "إنها بداية تدحرج كرة الثلج". ويقول نواز شريف الذي كان الجنرال برفيز مشرف قد أطاح بحكومته غير الكفؤة والفاسدة، ان الجنرال في حكم "الرجل المنتهي". وفي الغضون، قالت رئيسة الوزراء السابقة بي نظير بوتو لصحيفة الاوبزيرفر في مقابلة هاتفية ان البكستان في طريقها نحو "سقوط الحكومة وحلول الفوضى".

من جهة أخرى، يدحض وزراء مشرف هذه الاتهامات ويستعدون حاليا لخوض غمار الانتخابات الحاسمة في الخريف المقبل، والتي يأملون بأن تفضي الى اعادة انتخاب مشرف -63 سنة- لولاية جديدة تمتد لخمس سنوات اخرى. وفي الغضون، انحى طارق عظيم، وزير الاعلام الباكستاني، باللائمة على احزاب المعارضة في تعميق المشكلة الاخيرة، قائلا ان مشرف "حصل على منصبه بطرق شرعية ودستورية"، وعليه، فإن "شرعيته ليست موضع شك".

وفي الأثناء، يتابع المراقبون الدوليون الأوضاع عن كثب. ولعل اي حالة عدم استقرار في الباكستان، ذلك البلد المسلم الذي يبلغ تعداد سكانه 160 مليون نسمة، والذي يمتلك سلاحا نوويا ويعتبر مهما من الناحية الجغرافية بالنسبة للحرب على الارهاب، لعل حالة كهذه تدق نواقيس الخطر. وفي هذا السياق، فإن واشنطن تبدو بعيدة عن التخلي عن تابع مخلص، وإن بدا احيانا حليفا مترددا. ويقول رونالد نيومان، وهو مبعوث اميركي رفيع اثناء مروره باسلام اباد بعيد الأحداث: "لا اعتقد بأن مشرف قد وصل الى نهاية الخط". ومع ذلك يبقى القلق قائما.

وكان العنف الاخير قد اندلع بسبب زيارة قام بها كبير قضاة الباكستان الى كراتشي. والقاضي هو أحد منتقدي مشرف، والذي اصبح منذ تعليق مهامه في آذار-مارس الماضي بسبب مزاعم باساءة استخدام السلطة، نقطة تركيز لحملة المعارضة. ويقود السلك القانوني حركة الاهتياج الراهنة. وكان رئيس مجلس نقابة المحامين في كراتشي ابرار حسن قد صرح بقوله: "اننا مواطنون باكستانيون اولا ومحامون ثانيا". وكان يتحدث وهو يحلس مع زملاء له يتدارسون موضوع تنظيم اضرابات وتوقف عن العمل في مكتبه في محكمة كراتشي العليا المكتظة. أضاف "نحن المحامين تصدينا واتخذنا اجراءات لم نكن قد اتخذنا مثلها من قبل، لأن الأوقات غير العادية تحتاج اتخاذ اجراءات غير عادية".

يوجه الاتهام بالوقوف وراء القتال الذي اندلع في أواسط الشهر إلى الحركة القومية المتحدة. وهي حزب مثير للجدل معروف عنه لجوئه إلى العنف، والذي يدعي بأنه يتحدث نيابة عن سكان كراتشي المهاجرين الذين يشكلون الاغلبية، وقد ذكر انهم قاموا بمهاجمة مؤيدي كبير القضاة. وعلى أن هذه الحركة معروفة قليلاً خارج الباكستان، إلا أنها تتمتع بالقوة رغم ذلك.

عازفا على وتر محلي بهدف الابتعاد عن القوة المركزية، أسس قائد الحركة الطاف حسين الذي يتخذ من لندن مقرا له حزبه كسمسار قوة في كراتشي ومقاطعة السند الجنوبية. ومع ان الحزب يوصف من قبل منتقديه بانه تنظيم "شبه فاشي"، يمتلك "نواة صلبة مخبأة من الميليشيات المسلحة تسليحا ثقيلا، والمتمتعة بالكفاءة وقوة الحافز، والتي تجمع الأموال عبر ابتزاز خاوات حماية ضخمة". وتعتبر الجبهة حليفا لمشرف، ما يمنح ائتلاف الرئيس الحاكم اغلبية في الجمعية المحلية.

وفي عطلة نهاية الاسبوع الذي تلا الاضطرابات المذكورة، شنت الحركة هجوما شرساً لرد الاتهامات بانها تسببت بالقتال لسحق حركة المعارضة، ولتأكيد سيطرتها على كراتشي.

يقول حيدر عباس، وهو أحد أعضاء البرلمان من الحركة ان ناشطيها كانوا يتظاهرون سلمياً عندما قام منافسوهم السياسيون، حزب الشعب الباكستاني والباشتون، بإطلاق النار عليهم. واضاف: "كنت هناك مع جدتي وطفليhellip; وفكرة اننا بدأنا اطلاق النار هي فكرة سخيفة. لقد قتل من جانبنا 15 شخصا".

ومع ذلك يجري الطعن بهذه الرواية عن الأحداث، إن لم يكن أكثر من ذلك. وقالت بناظير بوتو ان ناشطي حزب الشعب الذي تتزعمه قد تعرضوا "إلى كمين من مستخدمي الأسلحة الثقيلة"، فيما قال شاهي سيد، زعيم الباشتون ان عناصر حركة المهاجرين هم "ارهابيون... 99 % من المهاجرين في هذه المدينة يريدون السلام، لكن 1% منهم لا يريدونه مهما كلف ذلك من ثمن. ونريد ان نعرف من يملك كراتشي؟".

على ضوء حجم الأموال والتجارة والاشخاص الذين يتدفقون على هذه الحاضرة المضطربة، فإن هذا السؤال يبدو جيداً، إذ عصفت بهذه المدينة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي موجات متلاحقة من العنف السياسي والإثني، وقتل الآلاف فيما كانت الحكومات المتعاقبة تحاول كسر طوق القبضة الخانقة التي كانت تفرضها حركة المهاجرين على المدينة.

ومع اعتراف قادة كبار في حركة المهاجرين بوجود "ارث غير مرغوب فيه" من العنف، فإنهم يصرون على ان الحزب قد تغير، وأنه لم يعد " إثني" الهوية. وهم يدعون بان تقاربهم مع مشرف انما هوعملية "طبيعية". ويقول الدكتور فاروق ستار نائب مؤسس الحزب: "إننا حزب معتدل علماني ليبرالي وتقدمي، وهو (مشرف) زعيم معتدل وعلماني وليبرالي وتقدمي. كما ان العنف لا يقود الا الى مزيد من العنف. "

يقول منتقدون ان سياسة مشرف في كراتشي هي سياسة تتسم بالخصوصية. وتقول بوتو التي ما تزال تواجه اتهامات بالفساد منذ ان كانت رئيسة للوزراء: "لقد جزأ البلد وباعه لأناس يحتاج لدعمهم، فقد اعطى كراتشي لحركة المهاجرين تماما مثلما اعطى الحدود الشمالية الغربية للمتدينين المتطرفين".

غالباً ما يتردد صدى مثل هذه الانتقادات في الخارج. ولأنه يفتقر الى الشرعية العملية والقوة السياسية بالرغم من سلسلة الانتخابات والاستفتاءات، فقد عول مشرف على الجيش، وأجزاء من البيروقراطية ومجموعة من احزاب الاقلية، بما فيها حركة المهاجرين، وائتلاف من المجموعات الدينية، كل ذلك للحيلولة دون وصول احزاب المعارضة الرئيسية الى السلطة، وللابقاء على اشخاص مثل السيدة بوتو خارج الباكستان. وبالرغم من تحقق نمو اقتصادي سريع ومستدام مع بلوغ الاستثمار الاجنبي مستويات قياسية وارتفاع اسعار الاسهم والدخل بالنسبة للفرد في البلاد بشكل ثابت، فإن تلك المزايا ما زالت في حاجة لأن يتم إيصالها الى عامة الشعب بالسرعة التي يتطلع اليها رئيس الوزراء، مصرفي الاستثمار السابق.

ثمة في كراتشي استثمارات في قطاعات المستشفيات والطرقات، لكن الامية ما تزال مستشرية بشكل عال في الوقت الذي تفتقر فيه نسبة تصل الى 60% من السكان الى مياه شرب صحية. والنتيجة هي تنامي الصعوبات، على الصعيدين المحلي والدولي. وعلى الرغم من ان الصحافة تظل تكيل الانتقادات بشدة وبشكل مستقل، فإن وكالات المراقبة اثارت مخاوف من احتمال تبني مشرف موقفاً اكثر سلطوية. كما وتتنامى التحفظات إزاء قدرة مشرف على محاربة المليشيات الاسلامية على طول الحدود مع افغانستان في غمرة سلسلة من التفجيرات والهجمات التي شهدتها المدن الرئيسية مثل بيشاور.

وبالرغم من ان مؤيديه يقولون ان "المشاعر لا تعكس الحقائق"، فإن النتيجة هي ان موقف الجنرال قد أصبح أضعف مما كان عليه في اي وقت مضى. وقد اكدت مصادر الحكومة والمعارضة على حد سواء استمرار المباحثات بين ممثلي مشرف وبوتو حول احتمال تشكيل "ائتلاف كبير" ضد التجمع الديني الراديكالي، وهو ما يعد علامة على احساس الرئيس بالهشاشة.

أي نزاعات قليلة يمكن ان تعتبر الاسباب الرئيسية للتوتر. ففي اورانجي كما في الباكستان كلها، يعيش معظم الناس وسط فقر مدقع، حيث الحياة أشبه بمعركة على الموارد الشحيحة وطلب الحماية، وحيث يعتبر اي سلاح تقريبا بمثابة سلاح مشروع وايديولوجي، سواء استند الى اساس اثني ام ديني، ويكون له جاذبية مفعمة بالقوة. ويتحدر عدد متزايد من المسلحين المتدينين من المدينة التي تعتبر موئلا للقاعدة. ويقول عظيم وزير الاعلام: "إن الناس يريدون الطعام والرعاية الصحية والعمل، وهم لا يكترثون اذا ما كان من يزودهم بها يرتدي بذلة او شلوال كميص (السروال والقميص اللذان يعتبران اللباس التقليدي الباكستاني).

ثمة البعض ممن يشكون بأن الأشهر القليلة المقبلة ستكون حبلى بالتطورات. ويقول ظفار عباس، وهو كبير محرري صحيفة "الفجر" الناطقة بالانكليزية: "لقد قامت الجماعات المسلحة باستغلال السنوات القليلة الماضية في اعادة تنظيم صفوفها. ويمكن الآن لأكثرها قوة ان تشل مركز الباكستان التجاري. ويبقى الخوف من أن السلام النسبي الذي شهدناه في السنوات القليلة الماضية كان مجرد خروج على المألوف".

ثمة امتعاض ظل قائماً هناك في وحول اورانجي. ويقول الطبيب مسعود "إن الضحايا كافة الذين عالجناهم في الاسبوع الماضي كانوا من المدنيين الذين علقوا في تقاطع النيران. ومع أن الناس العاديين لا يسعون الى المشاكل، إلا أنهم هم الذين يعانون".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف