«بيروت مدينة العالم» ثالثة ثلاثية ربيع جابر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سلمان زين الدين
هل يكون الجزء الثالث من رواية ربيع جابر "بيروت مدينة العالم" خاتمة هذه الثلاثية الفريدة التي تجعل من بيروت ذريعة لبناء عالم يتراوح بين التاريخ والمخيلة؟ أم سيجعلها عملاً رباعياً أو أكثر؟
بين الرواية والتاريخ المشترك والمختلف من حقول الاهتمام وزوايا النظر، فالماضي، غالباً، هو الحقل المشترك الذي يتمحور حوله اهتمام كلٍّ منهما غير أن مقاربة هذا الحقل تختلف بين التاريخ والرواية. ففي حين يعمد المؤرّخ الى توثيق الأحداث والوقائع كما حصلت ويقصر اهتمامه على الخطوط العريضة والحركة السياسية في مرحلة تاريخية معينة، نرى الروائي ينطلق من تلك الأحداث ويعيد صوغها وفق رؤيته الفنية ويُعنى بالتفاصيل والجزئيات ويتعدى اهتمامه حركة السياسة الى جسِّ نبض الحركة الاجتماعية ورصد الحراك المجتمعي في فضائه الروائي.
من هذه النافذة نطل على "بيروت مدينة العالم" للروائي اللبناني ربيع جابر (المركز الثقافي العربي ودار الآداب)، وهي الجزء الثالث من ثلاثية تحمل الاسم نفسه، يقوم بكتابة تاريخ المدينة الحي وفق رؤيته الفنية الخاصة. ويرصد التحولات الكبيرة التي حصلت في مكان معين وفي زمان محدّد، على المستوى المكاني والاجتماعي والاقتصادي وأخيراً السياسي.
في "بيروت مدينة العالم - الجزء الثالث" يدوّن جابر تاريخه الخاص للمدينة، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي مرحلة تاريخية غنية بالأحداث على المستويين الداخلي والخارجي، بدءاً من فتنة 1860 وصولاً الى إرهاصات الحرب العالمية الأولى خلال الربع الأول من القرن العشرين.
ولعل عنوان الرواية يشي بما كان للقوى المسيطرة آنذاك من دورٍ وتأثير في المدينة، فكأن العالم اجتمع في بيروت. وما أشبه اليوم بالأمس. هو التاريخ يعيد نفسه وإن بأسماء وأقنعة مختلفة. منذ القرن التاسع عشر ما يزال صراع النفوذ قائماً في هذه المنطقة من العالم، وما يزال المسرح مفتوحاً وإن تغيَّر الممثلون.
يرصد جابر تاريخ بيروت والتحولات الكبيرة التي طرأت على المدينة، من خلال حكاية عائلة البارودي والعائلات التي ترتبط بها بعلاقة قرابة أو نسب أو مصاهرة أو جوار أو صداقة أو عمل...، فتاريخ المدينة هو تاريخ عائلاتها، و "حارة البارودي" هو المكان الذي تتمحور حوله الأحداث وتتحدَّر منه الشخصيات الأكثر حضوراً في الرواية. فهذه الحارة المسوّرة هي رمز روائي للمدينة في نموّها وانفتاحها وتفاعلها مع المحيط وتوسُّعها حتى إذا ما تمَّ هدم السور في مرحلة معينة شكّل ذلك إشارة روائية الى توسّع المدينة وتمدّدها بحيث تشمل القرى المحيطة بها. فبيروت التي كانت تقتصر على المنطقة المسمّاة بالوسط التجاري اليوم ستتوسّع مع الزمن بفعل التحولات الديموغرافية والعمرانية والتجارية التي طرأت عليها، والناجمة بمعظمها عن عناصر خارجية أكثر منها عن نموٍّ داخلي.
يشكِّل الحاج عبدالرحيم البارودي الشخصية المحورية في الرواية. ترتبط به سائر الشخصيات بإحدى علاقات القرابة أو المصاهرة أو الجوار أو الصداقة أو العمل...، وتنوجد روائيّاً من خلال وجوده. وإذا ما علمنا أن هذه الشخصية تُوفيت عام 1890 وأن الأحداث التي ترصدها الرواية تبدأ خريف عام 1859، تكون المدة الزمنية التي تغطيها الرواية ممتدة على ثلاثة عقود إذا ما استثنينا قفزات سريعة الى المستقبل الماضي طاولت الحرب العالمية الأولى والمستقبل الحاضر بلغت الاعتصام القائم حاليّاً في وسط بيروت. وهي مدّة زمنية طويلة روائيّاً تستدعي أن تلم الرواية بعشرات الشخصيات، ولكل شخصية حكايتها. وهكذا، تكون حكاية بيروت هي مجموع حكايات هذه الشخصيات الكثيرة.
عبدالرحيم البارودي تاجر بيروتي معروف/ محبوب/ مضياف. "قمصانه تفوح برائحة الزعفران. أثوابه مقصبة. صيته عطر في بيروت كلّها. نصف الخبز على قفة الخبز عند زاوية الأوزاعي من زكاته". (ص19). ورث عن أبيه مسؤوليات كبيرة عائلة وعمليّة ونهض بها. يسهر على الأعمال الواسعة، يحدب على عائلته الكبيرة، يتواصل مع أصدقائه، يثابر على ممارسة طقوس الدين، يحافظ على القيم والعادات والتقاليد. ويمثل الجانب الطيِّب من المدينة. غير أن منغّصات داخلية وخارجية كانت تنغّص عليه حياته بين فترة وأخرى، فعودة أخيه عمر من حرب القرم وتوحّده وانطواؤه على نفسه ورحيله الى حلب، وضياع ابنه البكر حسين وتعرّضه للسجن والإعدام في دمشق ونجاته من الموت، وفرار ابنه الأصغر عبدالفتاح بعد شجاره مع بحار قبرصي هي من المنغّصات الداخلية التي كانت تحدث تغييراً في عاداته وسلوكه. وقيام الشركة الفرنسية العثمانية بشراء الأراضي ومحاولة الراهبة الفرنسية شراء "معمل الألاجة" منه هما من المنغصات الخارجية. ولعلّ رفضه بيع المعمل للراهبة ورفضه بيع "خان التوتة" للشركة وتصدّيه لها تشير الى حرصه على ذاكرة المدينة ورفضه المساس بها الأمر الذي دونه قرارات كبيرة وضغوط لا قبل له بتحملها والوقوف في وجهها.
وتستمر الحياة على رسلها حتى اذا ما قبض الموت زوجته الثانية الجميلة بربارة نوار قبل أن تضع مولودها الذكر يبدو الحاج عبدالرحيم صامتاً يتقبل التعازي، يحرّك رأسه ولا يتكلم. ولعلّه يعكس بذلك رضاه وتسليمه بما يجري، أو عجز الإنسان عن تغيير مجرى الأقدار. وهكذا، فالرواية تقول ايقاع الحياة وحركتها في بيروت، من خلال حكاية عبدالرحيم البارودي وعشرات الحكايات وغيرها المتوازية أو المتقاطعة معها أو المتداخلة فيها أو المواكبة لها.
من خلال هذه الحكايات تضيء الرواية جوانب كثيرة من حياة المدينة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعلى المستوى الاجتماعي، تطالعنا عادات وتقاليد في الولادة والموت والزواج حيث الاحتفاء بولادة البنت يعادل الاحتفاء بولادة الصبي، وحيث التواصل بين العائلات يبلغ حد التضامن في الأزمات، وحيث الزواج المختلط المقترن ببقاء كل من الزوجين على دينه ما يمثّل مرحلة متقدّمة من التسامح الديني وانعدام التعصب الطائفي أو الجنسي. وعلى المستوى الاقتصادي، تبرز موارد العيش المتمثلة بتربية دود القز والتجارة البرية والبحرية والصناعات الحرفية البسيطة. وتبرز، على المستوى السياسي، بدايات تدخل القناصل والمرسلين الأجانب في الشؤون الداخلية.
واذا كانت بيروت شهدت تحوّلات كبرى في تلك المرحلة التاريخية، فإن هذه التحولات مردّها في الغالب الى عناصر خارجية، ففتنة عام 1860 تسبّبت في نزوحٍ كبيرٍ من الجبل ودمشق الى بيروت ما أدّى الى تغير ديموغرافي وتوسّع عمراني كما "شرّعت بحر بيروت على الاسكندرية" (ص 150). وشق طريق بيروت دمشق أحدث تغييراً بدوره، "طريق الشام غيّرت بيروت" (ص 239). ونزول الجنود الفرنسيين وتفشي الكوليرا كان لهما انعكاساتهما على حركة السكان الداخلية والخارجية. وهكذا، تشكل الرواية ببلوغرافيا اجتماعية/ اقتصادية/ سياسية لبيروت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
على مستوى الخطاب الروائي، لا يعتمد ربيع جابر خطاباً تقليديّاً يقوم على حكاية واحدة تنمو أحداثها وتتعقد، ويدور صراع بين شخصياتها يجرى حسمه في النهاية لمصلحة أحد طرفي الصراع، فحكاية المدينة لا يمكن اختصارها بحكاية واحدة. ولذلك، نراه يورد عشرات الحكايات لعشرات الشخصيات تختلف في طولها وقصرها. واذا كانت الحكاية الأطول هي حكاية عبدالرحيم البارودي، فإن الشخصيات الأخرى كان لكلٍّ منها حكايتها، يظهر سلك الحكاية في مكان معين من الرواية ويختفي ليظهر من جديد، ويستمر في الظهور والاختفاء حتى ينقطع في مكان آخر. وتختلف الأسلاك/ الحكايات طولاً وظهوراً واختفاءً في ما بينها. وربيع جابر يمسك بجميع الأسلاك، يجدلها كحبلٍ حول السلك الرئيس، ويقطع السلك أو يظهره أو يخفيه في المكان المناسب. وكم كان بارعاً في اللعب على الأسلاك والانتقال من سلك الى آخر، من مكان الى آخر، ومن زمن الى آخر في عملية هي أشبه بالرقص على الأسلاك المختلفة ما أضفى على الرواية التنوع والحيوية والحركيّة...
وهذه الحركية السردية كانت تتم بين الوقائع والذكريات للشخصية الواحدة، فتترجّح، على سبيل المثال، بين حركة البطل الخارجية في المكان وبين حركته الداخلية في الذاكرة. فرؤية واقعة معينة كثيراً ما تثير ذكرى متعلّقة بها بسببٍ أو بآخر.
ويزاوج الكاتب بين السرد والوصف، وهو في وصفه يتوقف عند التفاصيل ويحرص على رسم الإطار الذي تدور فيه الأحداث بدقة، فتتكامل الوقائع المتحركة مع الأماكن الثابتة. وتتفاوت سرعة ايقاع اللغة بين السرد والوصف، ففي حين تجنح لغة السرد نحو السرعة في الايقاع تمشي لغة الوصف على مهلها.
ويستخدم جابر تقنية الحلم في سرده، فتخرج الشخصية من الواقع الى الحلم. وللحلم وظائف متعددة في الرواية، فقد يُرهص بما سيأتي من أحداث أو يشكّل متنفّساً عن قلق مقيم لدى الشخصية ومهرباً من واقعٍ قاسٍ أو يكون موضع إسقاط لأمنيات ورغبات تتوق الشخصية الى تحقيقها.
وعلى الرغم من أن ربيع جابر يتبع مساراً أفقيّاً في الرواية، فإن هذا لم يلزمه بإيراد الأحداث بحسب تسلسل حدوثها، وهنا أيضاً يفترق عمل الروائي عن عمل المؤرخ، بل إنه يكسر التسلسل الزمني لمصلحة ترتيب روائي/ فني يقفز فيه بين الأحداث والأزمنة والحكايات وفقاً لرؤية فنية يمارسها بوعي وعن سبق تصوّر وتصميم أي أنه يهندس روايته كما يبني مدينته.
وهذا الخطاب يصوغه جابر بلغة سردية متدفقة كنهر، تتعاقب موجاتها، تكثر فيها الجمل الإسمية أحياناً، تتنوع صيغ أفعالها بين المضارع الذي يجعل الماضي البعيد راهناً، والماضي الذي يربط بين الفقرات للتذكير بزمن المرويّ. وتقلّ أدوات الربط بين الجمل ما يشي بالتعاقب الموجي الذي أشرنا اليه. وتقترب اللغة من لغة الحكي فتتضمّن عبارات تتداولها العامة وإن كانت فصيحة المفردات، كقوله: "خطف رجله إلى.../ الحمدلله مستورة/ الأعمار بيد الله". وهكذا، تناسب لغة الحكي المحكي. وهي لغة تلقائية، فكثيراً ما يورد جملة مثبتة ثم يسارع الى نفيها في السطر نفسها كمن يتداوله خطأً وقع فيه خلال الحكي.
وهي لغة تُعنى بالتفاصيل والجزئيّات والحركات والسكنات والألوان والروائح والأصوات، لغة محسوسة بقدر ما هي مجرّدة. وقد بلغ من ولع جابر بالتفاصيل أن أفرد أربع صفحات في روايته لذكر الحاضرين في جنازة عائشة زوجة عبدالرحيم البارودي، وكان بوسعه أن يستبدل بهذه الصفحات جملة واحدة لولا أن التفاصيل تؤثث المشهد الروائي. ولعله رمى من خلال ذلك الى ابراز أهمية الميتة وزوجها وتطهير قيمة المشاركة الاجتماعية في المجتمع البيروتي.
بهذه التقنيات، وبالمادة الأولية المستلة من بطون الكتب والمخطوطات وتقارير القناصل والصحف القديمة، بنى ربيع جابر مدينة روائية للقاء فيها غنى المدينة وسعتها وعمقها وتعقد علاقاتها. بنى مدينة روائية مفتوحة للعالم كبيروت، وأثبت مرة جديدة أنه بناءٌ روائيٌ ماهر.