لا مجال لعودة اليابان إلى نهج الأكياس المحشوة بالمال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ديفيد بيلينج - الفاينانشال تايمز
منذ فترة قريبة كان شينزو آبي، رئيس وزراء اليابان، ينصت إلى أحد الصحافيين في القاهرة وهو يسأله عن العلاقات المصرية اليابانية. ويبدو أن هذه العلاقات سلسة وناجحة تماماً. لكن المثير في الأمر لم يكن السؤال العادي ولا جواب رئيس الوزراء. الأمر الذي كان يبعث على المفاجأة هو أن آبي، الذي لم يكن يضع سماعة الرأس، بدا عليه أنه اكتسب مهارة التحدث بالعربية بطلاقة.
وسر ذلك بطبيعة الحال هو أن السؤال تم تقديمه سلفاً وقبل فترة لا بأس بها، شأنه في ذلك شأن جميع الأسئلة التي طرحت في ذلك المؤتمر الصحافي المرتب مسبقا. ولم يعبأ آبي بالإنصات إلى الترجمة الفورية، لأنه كان يعلم سلفاً ما هو السؤال وما هو الجواب الذي أراد مستشاروه أن يقوله.
يذكرنا هذا الترتيب المكشوف بسهولة، بشخصية زينكو سوزوكي، وهو رئيس وزراء في أوائل الثمانينيات، الذي كان بصورة فاضحة يرد على أسئلة الصحافيين من نص مكتوب ومعد سلفاً، إلى درجة أنه كان يعرف أنه "آلة التسجيل". أما أداء آبي، فإنه لافت للنظر لأنه يساند حجة الذين يجادلون بأن اليابان في سبيلها إلى العودة إلى نهجها السابق.
وتمضي الحجة قائلة إن جونتشيرو كويزومي كان مؤهلاً لتحقيق نجاح هائل، لكنه أخفق في ذلك. فهو رئيس وزراء ولد من رحم الأزمة الاقتصادية. وكانت التغيرات التي أقحمها على الكيان الياباني، بما في ذلك إثارة استياء القوة الأسطورية للبيروقراطيين، هي تغيرات عابرة.
وتقدم رئاسة آبي للوزراء دليلاً ظرفياً لتأييد هذا التفسير. ذلك أن أسلوبه في القيادة يعتمد على الإجماع وقبول الأطراف أكثر مما كان يفعل كويزومي ذو النهج الأحادي. ويبدو أن رئيس الوزراء الجديد لا يرتاح كثيراً إلى سياسات كويزومي المدفوعة باقتصاد السوق، مثل السماح بإصدار قانون يضع سقفاً أعلى على أسعار الفائدة على القروض الاستهلاكية مقداره 20 في المائة، وهو قرار كانت له نتائج كارثية بالنسبة للبنوك.
وكان يبدو أن آخر ارتكاسة نحو "اليابان القديمة" جاءت هذا الأسبوع ومعها دليل غير نظيف على "السياسة القائمة على الأموال" التي أبقت الحزب الديمقراطي الليبرالي في الحكم لمدة 50 عاما تقريباً دون انقطاع. والذي حدث هو أن توشيكاتسو ماتسوكا، وزير الزراعة في حكومة آبي، انتحر شنقاً الأسبوع الماضي بعد ثبوت صلته بتبرعات سياسية من شركات الإنشاءات التي عهدت إليها الحكومة بمقاولات مجزية. وفي اليوم التالي، قفز الرجل الذي قيل إنه هو المسؤول عن تنظيم عملية التلاعب بالعطاءات، من مكان عال ولقي حتفه.
تعطي المآسي التي من هذا القبيل صورة سيئة عن آبي، الذي يبدو عليه أنه قادر على تحمل الجانب القذر في السياسة والذي وصم الحزب الحاكم لعدة عقود. لكن هذه الأمور هي سكرات الموت لنظام قديم يحتضر، وليست دليلاً على حيويته المتواصلة. إن الاستنتاج بأن اليابان في سبيلها إلى العودة إلى ما قبل عهد كويزومي هو استنتاج خاطئ.
ومن الأسباب التي تدعوني إلى قول ذلك أن كويزومي كان تعبيراً (بتسريحة جميلة) عن التغيرات الهيكلية التي كانت قد بدأت أصلاً من قبل، أكثر من كونه عامل تغير يقوم به شخص واحد. فالنظام الذي كان سائداً بعد الحرب العالمية الثانية والآخذ الآن في التحول نحو شيء جديد إنما كان يعتمد على النمو السريع حتى يظل على قيد الحياة. فقد كان الحزب الديمقراطي الليبرالي يلقي على عجل بكميات كبيرة من أموال الضرائب من المدن إلى الأرياف، من خلال برامج هائلة في مجال الأشغال العامة. وحصد الحزب المنافع من ذلك على شكل أصوات انتخابية من المناطق الريفية الممثلة بنسب تفوق نسبة عدد السكان، ومن "التبرعات السياسة" عن طريق جماعات الضغط الشاكرة والممتنة للحزب.
لكن هذا النظام لا يستطيع الاستمرار الآن، وذلك لسبب بسيط هو أن الأموال قد جفت. فخلال العقد الماضي استُنزفت ميزانية الأشغال العامة بشراهة. أما النظام الذي كان يعتمد على تسديد تكاليف الطرق والسدود عن طريق صناديق التوفير البريدية فإنه في حالة تفكك الآن. ليس هذا فحسب، بل إن صندوق البريد نفسه، وهو أعلى حصّالات التوفير صوتاً في العالم، في سبيله الآن لأن يصبح شركة خاصة.
وعلى نحو من المبالغة المقبولة، يقول جيرالد كيرتس، وهو أستاذ في جامعة كولومبيا ومتخصص في الشؤون اليابانية، إن اليابان تمر الآن بثالث تغير عظيم في تاريخها الحديث. التغير الأول كان في عصر عودة ميجي، حين تخلى الحكام عن النظام الإقطاعي. والثاني كان الإنشاء الذي تم بعد الحرب العالمية الثانية لآلة تقدم النمو الاقتصادي السريع.
ويطلق البروفيسور كيرتس على الطور الثالث تعبير "عقد الـ 20 عاماً"، وهو بمثابة استجابة تنحت في وادى الأزمة الاقتصادية المحلية والعولمة. ومن شأن هذا التعديل أن يؤدي إلى التفكك البطيء لـ "رأسمالية المواكبة"، الذي نراه في تفكك ملكية الأسهم المتبادلة بين الشركات. كما أنه يعلن مقدم عصر يتميز بالتخلي عن توزيع الدخل بالتساوي. أما في السياسة، فإنه يعني نهاية الانتخابات من خلال الأكياس المحشوة بالأموال وصعود قوة منصب رئيس الوزراء ومساءلته.
هذا الاتجاه العام لا يمكن لآبي ولا لأي شخص آخر إعادته إلى الوراء. صحيح أن رئيس الوزراء لا يزال يأخذ إجاباته على أسئلة الصحافيين من أقلام مستشاريه، لكن البيروقراطيين لم يعودوا يسيطرون أو يتعالون على السياسيين. وصحيح أن الناس يشعرون بالقرف من السياسيين، لكنهم يريدون أن يسمعوا ما لديهم. والأيام التي كان فيها لسان حال السياسي يقول: "انتخبني وسأبني لك قطاراً سريعاً" ولت إلى غير رجعة. ويتعين على سياسيي اليابان الآن أن يشتركوا ويشركوا غيرهم في النقاش حول السياسات: النقاش حول ما ينبغي عمله حول التقاعد والدين العام والمجتمع الذي يزداد فيه عدد المسنين باستمرار.
إن آبي الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه ضعيف، يعمل في الواقع على دفع أجندته الخاصة المثيرة للجدل والمتعلقة بالإصلاح الدستوري والتربية الوطنية بكل الحماس الذي تميز به سعي كويزومي لتحويل البريد إلى شركة خاصة. بل إنه فاق كويزومي من حيث إنه عمّق التخفيضات في مجال الإنفاق العام وفي الجهاز البيروقراطي.
بطبيعة الحال، بقايا النظام القديم لا تختفي بين عشية وضحاها. ففي السياسة لا يزال النظام السياسي دليلاً على إخفاق المعارضة في القيام بهجوم مضاد وتشكيل تحد خطير للحكومة. فإذا استُهلِكت الآلة السياسية التي أبقت الحزب الديمقراطي الليبرالي في الحكم مدة طويلة، فلماذا تتسم المعارضة حتى الآن بالإخفاق الذريع في الاستفادة من هذا الظرف؟
لو أننا من المؤمنين بنظرية المؤامرة لاستنتجنا أن الوظيفة الرئيسية للمعارضة تظل على حالها، وهي إضفاء الشرعية على النخبة الحاكمة وليس تولي السلطة. ولو تغير هذا الوضع فإن ذلك سيكون في مصلحة الناخبين اليابانيين.
ولعل الناخبين اليابانيين إذا وجدوا قائداً يستطيع الإجابة عن أسئلة الصحافيين دون مساعدة وتوجيه من البيروقراطيين، فإن حظ المعارضة سيكون أفضل من ذي قبل. لكن هناك أشياء غير خاضعة ولا قابلة للتغير. ولعل ما قلناه يجعلنا وكأننا نطالب بأمور تفوق الحد.