الدور الايجابي الذي يستطيع أن يلعبه بوتين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
ستبقى "الشراكة" العنوان الأساسي للعلاقة الأميركية - الروسية مهما تصاعدت لغة الحرب الباردة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ومهما استفز الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش موسكو بمطالبته لها بالكف عن "الانحراف" في الاصلاحات الديموقراطية.
بوتين يكشف عن عقدة لديه، هي عقدة الاحترام لروسيا عندما يطلق سلسلة تصريحات، كالتي أطلقها أخيراً، ليستبق الضغوط عليه في قمة الدول الثماني الصناعية الرامية إلى احتواء افراطه في الأنماط الديكتاتورية على رغم فوائدها وضرورتها في المرحلة الانتقالية لروسيا.
وبوش يعاني من أزمة الصدقية الأميركية كلما تحدث عن الحريات المدنية والحملة العالمية من أجل الديموقراطية، وذلك بسبب حربه في العراق، وبسبب التجاوزات الخطيرة التي رافقت الاجراءات الأميركية القانونية في أعقاب إرهاب 11 أيلول (سبتمبر). إنما عقدة بوتين وأزمة بوش لا تمنعهما عن التحدث بلغة مصالح الدول إن تمثلت بمقايضات وتفاهمات أو ان تركت فسحة للخلافات العلنية. المهم لهما شخصياً ألاّ يٌصنفا في مرحلة العد العكسي إلى انتهاء ولايتهما في الرئاسة بأن كل منهما "بطة عرجاء" للايحاء بأنهما غير قادرين على اتخاذ القرارات وصنع التاريخ. المهم لبقية العالم هو مراقبة كيف سيتفقان أو سيختلفان على ملفات دولية، بينها إيران وكوسوفو وجورجيا ولبنان والسودان والشيشان والنزاع العربي - الإسرائيلي، إلى جانب مسألة الدرع المضادة للصواريخ وحلف شمال الأطلسي (الناتو) والعلاقة الأوروبية - الأميركية.
وليست العلاقة الشخصية بين الرجلين المشكلة، إذ أنهما شبه صديقين، وبوتين سيلبي دعوة بوش النادرة لزيارة عائلية في البيت البحري لآل بوش مطلع الشهر المقبل في ولاية ماين، وهي الدعوة الأولى من نوعها منذ أن تولى بوش الابن الرئاسة. المشكلة هي في علاقة البلدين بعد نجاح فلاديمير بوتين في تحسين أوضاع روسيا لدرجة مدهشة، وبعد تراجع موقع الولايات المتحدة على الساحة الدولية في عهد جورج دبليو بوش.
فلاديمير بوتين قد يشعر بالتفوق بسبب انجازاته الاقتصادية، بحيث سددت روسيا ديونها وتحولت من البؤس إلى الازدهار، ساعدها في ذلك كثيراً ارتفاع أسعار النفط وغرق الولايات المتحدة في حرب عالمية على الإرهاب التهمت رئيسها. قد يشعر بوتين بأنه نسف توقعات تفكك الاتحاد الروسي وحقق حلماً لروسيا رفع معنوياتها في أعقاب "كارثة" انهيار الاتحاد السوفياتي، حسب تعبيره. إنما السبب الآتي الأكبر لشعوره بالتفوق هو أنه في صدد الإعداد لدور العرّاب الدائم لصنع الرئاسة والرئيس والقرار في روسيا لسنوات عدة آتية بعدما يغادر كرسي الرئاسة الربيع المقبل. وهو يريد ابلاغ الأوروبيين والأميركيين على السواء بأنه باقٍ وليس براحل. يريد لهم أن يفهموا ويستوعبوا السيرة التاريخية لرجل الاستخبارات السابق (كي جي بي) في العهد السوفياتي ولرئيس روسيا في عهد التعافي والانطلاقة التجددية وللمسيطر على الآتي في المسيرة الروسية لعقد آتٍ على الأقل.
جورج دبليو بوش راحل. راحل بعبء اللانجاح. قد لا يعترف بالفشل، لكنه لا ينفي اللانجاح. أثقل نفسه بحلم الحرية والديموقراطية، فيما نفذ آخرون على حساب عقيدته وايمانه مشاريع لهم ليست أبداً ذات علاقة بنشر الحرية والديموقراطية.
فلاديمير بوتين فعل العكس. قبض على الحريات الشخصية في كثير من الحالات وطوّق الديموقراطية تكراراً. وجد أن الممارسات الديكتاتورية ضرورية، اقله في روسيا، من وجهة نظره. ولأن جهوده تكللت بالنجاح، ابتسم ابتسامة السخرية التي يحسنها وضحك في عبّه من الديموقراطية.
مشكلة بوتين اليوم تكمن في أن الإدمان على السلطة قد يكون بدأ يتملك به. بدأ يفترض أن السكوت الغربي على أنماط الديكتاتورية الضرورية كإجراء عابر سيتحول إلى صمت دائم حتى ولو دخلت تلك الأنماط خانة المؤسساتية. إنما الغرب لن يتمكن من الصمت الدائم، وهو يضم الدب الروسي إلى محافل مثل محفل القمة الصناعية للدول الثماني: الولايات المتحدة، المانيا، بريطانيا، فرنسا، ايطاليا، كندا، اليابان، وروسيا. فإذا كانت روسيا عضواً في هذا النادي، عليها أن تدرك أن هناك شروطاً للانتماء، بينها التوقف عن قمع الحريات المدنية والصدق في احترام الديموقراطية المؤسساتية. هكذا تتجلب لنفسها بالاحترام الذي تستحقه وليس بوسائل احياء الأنماط السوفياتية.
يمكن لبوتين أن يهزأ من السجل الأميركي المعني بالحريات والديموقراطية، لا سيما في سجني غوانتانامو وأبو غريب، حيث التعذيب لطخ ذلك السجل. يمكن له أن يسخر من كيفية التعامل الأوروبي مع التظاهرات وينفي عنه الديموقراطية، إنما لا يمكن لفلاديمير بوتين أن يصنف نفسه بالديموقراطي الطاهر، أو أن يفترض أن تجاوزات الغرب القبيحة تعطيه حق تبييض الديكتاتورية الروسية الجديدة، حتى إن كانت مفيدة، مرحلياً، لروسيا. ففي نهاية المطاف ما يبقى هو ما يُزرع مؤسساتياً وليس مرحلياً.
ولذلك، فإن نجاح فلاديمير بوتين وشعوره بأنه شبه صانع "الملك الآتي" إلى روسيا، يضعه في موقع يتطلب التدقيق في فكره وأفكاره، كما يتطلب التقدم إليه بأكثر من محاسبة ومطالبة. على رأس القائمة أن يقال له إن احترام روسيا هو حق تكتسبه، يجب اخراجه من خانة العقدة.
حق روسيا بالاحترام تكتسبه بلعبها دوراً بناء في بيئتها الأوروبية، وفي العلاقات الروسية - الأميركية، كما في الملفات الدولية، وليس فقط في ملف الاجراءات الداخلية والمحلية. إنها دولة كبرى بكل معنى الكلمة، وهي قد مارست في الماضي دور الدولة العظمى، وتعرف تماماً حسنات وسيئات ذلك المنصب.
ولذلك، يجب على روسيا بوتين ورفاقه التنبه لأخطاء الانزلاق إلى التظاهر بأن روسيا اليوم هي الدولة العظمى كما كانت أثناء العهد السوفياتي لمجرد أن الدولة التي تستفرد بمكانة الدولة العظمى - الولايات المتحدة - تنزلق من العظمة في العراق وفي حرب الإرهاب التي تستنزفها. فحذار الاستعجال إلى بعث ورقة تنعي العظمة الأميركية حتى إن كانت الولايات المتحدة قد تورطت في حرب تكلفها، على الأقل، بليون دولار أسبوعياً. فقط الدول العظمى هي القادرة على خوض حرب بهذه الكلفة من دون الانهيار.
روسيا مستفيدة، لكنها ليست البديلة. ولذلك على قيادتها تملك الحكمة في الشراكة بدلاً من الانبهار بالتفوق العابر وبفوائد الديكتاتورية الانتقالية.
مسألة الدرع الصاروخي مهمة، إنما ليست مصيرية. الرئيس الروسي أفرط في المغامرة عليها لدرجة أنها انقلبت عليه. فهو أراد أن يشق فجوة أميركية - أوروبية، إنما نبرته السوفياتية في التحدي بقوله إنه سيوجه الصواريخ الروسية ضد أوروبا ارتدت عليه باستياء وغضب عبر المحيط الأطلسي. الرئيس الاميركي استفاد جيداً من "الخطأ" الروسي، إذ أنه وجه دعوة إلى موسكو لتكون شريكاً في مبادرة الدرع الصاروخية.
بوش ذهب إلى هايليغندام واعياً لما تريده رئاسة الاتحاد الأوروبي المتمثلة بالمستشارة الألمانية انغيلا ميركل وبالذات وضع مسألة التغيرات المناخية في رأس القائمة. صحيح أنه لم يلتحق بالمواقف الأوروبية، بل ذهب إلى القمة بمبادرته هو الرامية الى استبدال عملية "كيوتو" التي ترتكز إلى العمل الجماعي الدولي مع الأمم المتحدة بالتركيز على الدوال الـ15 التي تُعد أكثر الدول تلويثاً للبيئة، لكن الرئيس الأميركي ليس في حرب مع الأوروبيين حول هذه المسألة لدرجة "توظيف" الخلاف من أجل شق فجوة. ثم أن المحاولة البائسة التي اعتمدت لغة الحرب الباردة فشلت. بوش أحسن استخدامها، في الواقع لمصلحته، عندما خاطب بوتين - جورج إلى فلاديمير - قائلاً إن روسيا ليست عدواً، بل إن الدعوة موجهة إليها كشريك في الدرع الصاروخي للحماية من الأعداء المتطرفين ومن أنظمة متطرفة، وعلى رأسها إيران المتفوقة في ميدان الصواريخ.
القرار، إذن، عائد إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعليه أن يقرر ماذا يريد، وما هي الأولويات الروسية، وما هي هوامش الأخذ والعطاء في جميع الملفات، وفي المحافل الدولية وفي العلاقات الثنائية.
كوسوفو، التي تعد مسألة فائقة الأهمية محلياً بالنسبة إلى الرئيس الروسي، خضعت لتفاهمات بلا تنازلات في المواقف الأميركية. الإدارة الأميركية فهمت معنى ومركزية وأهمية كوسوفو لفلاديمير بوتين بالذات في المرحلة الراهنة من الاستعدادات السياسية المحلية في روسيا. ولذلك قررت سحب يدها من هذا الملف وتحويله الى قضية أوروبية. بمعنى أن واشنطن قالت للدول الأوروبية: افعلوا ما تشاؤون مع روسيا في هذه القضية، فهي مسألة أوروبية - أوروبية، والولايات المتحدة لن تلعب دور القيادة فيها.
في المقابل، لربما، كان الفهم الروسي لمركزية موضوع لبنان في الاعتبارات الأميركية والأوروبية على السواء. وامتناع روسيا عن التصويت على انشاء المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية في لبنان هو جزء من هذه التفاهمات الضمنية. فصحيح أن تصديق مجلس الأمن على نظام المحكمة ومعاهدة انشائها قيّد يدي موسكو ووضعها في موقع استحالة استخدام الفيتو على قرار انشاء المحكمة، إنما لو لم تحصل روسيا على التفاهمات الضمنية في شأن كوسوفو، لربما غامرت إلى درجة اساءة استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن.
كذلك الأمر في ما يتعلق بملف إيران. إن روسيا مقيدة ليس بحسن تصرف طهران بما يمكنها من الإصرار والمواجهة والتحدي مع الولايات المتحدة واوروبا. إنها مقيدة بسوء السياسة الإيرانية وعزمها على الاحراج. ولذلك، أن ما يحرج فلاديمير بوتين ويسلب منه الاحترام لروسيا هو محاولاته المستمرة للمماطلة والمزايدة والممانعة في مجلس الأمن الدولي، ثم انقياده الى الاستحقاق وإلى المواقف التي يمليها عليه اصدقاؤه وحلفاؤه من أمثال إيران وسورية. ولقد بدأ قناعه يسقط ليعريّه ويسلبه من أحد أهم مقومات الاحترام الضروري لروسيا في عهده.
فروسيا مطالبة بالإقدام على الأدوار الايجابية وليس بالانسياق إليها. فهي ليست العراق في عهد صدام حسين. وهي ليست سورية في عهد بشار الأسد. إنها روسيا في عهد فلاديمير بوتين وليست إيران ولا السودان في زمن محمود أحمدي نجاد وعمر البشير ورفاقهما.
أمام بوتين فرص عدة لأخذ زمام المبادرة بدلاً من الظهور وكأنه يتربص لأخطاء جورج دبليو بوش ليكون له مكانة في الإعراب الدولي. فليس كافياً للدول الكبرى أن تستفيد من أخطاء دول أكبر، وإنما الاحتفاظ بمكانتها الكبرى يتطلب منها الشجاعة على القيادة والإقدام.
فليت الرئيس الروسي يصوغ سياسة محلية ترفض مؤسساتية الديكتاتورية. ليته يتبنى سياسة دولية تكف عن الانسياق وتستبدله بالإقدام. ليته يبلغ جميع المعنيين الذين يراهنون على حماية وحصانة روسية الصنع والاشراف أن روسيا ليست في وارد تقديم الخدمات إما الى هاربين من العدالة الدولية ومن المحاسبة على اغتيالات سياسية إرهابية، أو إلى رعاة الفتنة وصنّاع الميليشيات.
هكذا يأتي الاحترام إلى روسيا وليس عبر عقدة الاحتجاج على عدم تلقي الاحترام.