حداثة القدس العثمانية: أولوية الاجتماعي على الديني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد الحروب
المسيحيون يحتفلون بشهر رمضان, ومثقفوهم ينكبُّون على إتقان قراءة القرآن للتمكن من العربية. والمسلمون يحتفلون بأعياد المسيح ويرقصون في عيد "البوريم" اليهودي. والجميع يرى في الجميع أشياء كثيرة, جميلة وغير جميلة, هي ما يحدد نبل الفرد أو عدمه, لكن هويته الدينية (المتضمنة والتي تحترم في الخلفية العامة للأفراد) هي آخر ما يُستند إليه كمعيار للنزاهة والألفة. أهل القدس وأعيانها يجتمعون في سرادقات الغناء التي تُقام في القدس القديمة أمام بوابة يافا سنة 1908 للاحتفال بالثورة الدستورية, وفيها يغني الشيخ سلامة حجازي القادم من مصر, وهو نصف مشلول, ويقود له "الأوركسترا" جورج أبيض. يغني الشيخ بكل حواسه فيبكي الجميع طرباً وجذلاً حتى اليونان الذين لا يفهمون العربية. في سماء قدس تلك الأيام ابتسامات الوجوه كانت تضيء بفرح عفوي مشترك فيه علو كعب للحياة, ودنو كعب للسياسة وتدخلات الدين فيها. "واصف جوهرية" عازف عود القدس يرصد في مذكراته البديعة تفاصيل قدس تلك الأيام, وأغنيات ذلك الحفل وتراً بوتر, وأغنية بأغنية. صورة القدس ما قبل الاستعمار البريطاني, وما قبل المشروع الصهيوني, كانت غنية في عمق البساطة, والتحام التعايش, وعفوية الحياة, وانمحاء التعصب الديني من الفضاء العام.
هذا وغيره هو ما ينقله لنا بحث سليم تماري الممتع حول الحداثة المبكرة في أزقة القدس القديمة في حقبة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, وذلك عبر قراءته وتحليله لمذكرات الموسيقي المقدسي "واصف جوهرية". البحث منشور في كتاب شيق (بالإنجليزية) حول سياسات الثقافة الشعبية في فلسطين وإسرائيل وعنوانه Palestine, Israel, and the Politics of Popular Culture (2005) وهو من تحرير Rebecca L. Stein and Ted Swedenburg. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن المذكرات الكاملة لـ"واصف جوهرية" قد حررها سليم تماري وعصام نصار في ثلاثة أجزاء بالعربية بعنوان "أحوال القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية" وأصدرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت عام 2003.
هناك فكرة أساسية يريد "تماري" أن يفككها ويدحضها من خلال الغوص في صور وتفاصيل المقدسيين وحداثتهم السابقة على وصول الاستعمار البريطاني. هذه الفكرة هي التصور النظري الصارم للقدس على أنها مدينة مفككة دينياً وإثنياً واجتماعياً, بحكم قيام التكوين الاجتماعي/ الديني فيها على الانقسامات الرأسية والتي تنعكس على جغرافيا المدينة. كل من المسلمين, واليهود, والمسيحيين (الأرثوذكس, أو الأرمن, أو الكاثوليك) يسكنون في حي خاص بهم ومنعزل عن بقية السكان. هؤلاء السكان, وبحسب هذه الفكرة التي رسختها قراءات وسياسات البريطانيين, بالكاد يتواصلون, بل يحافظون على مسافات جلية من بعضهم بعضاً.
أما التبادلات المشتركة فيما بينهم فهي تنحصر في الاتجار ومكانه السوق وما تفرع عنه. وربما كانت هناك بعض أوجه التواصل الأخرى, الطقوسية, أو السياسية المشتركة, لكنها محدودة ولا تخرج عن الإطار للصورة العامة المحكومة بالانعزالية والانطوائية الجماعاتية. إنها صورة ميكانيكية لمجتمع تغيب عنه اللحمة المتولدة عن طول التعايش الجمعي, وتغيب عنه عفوية الحياة. ويُفسر ذلك كله, بحسب هذه الرؤية المتعسفة لواقع قدس تلك الأيام, بغياب القيم الحداثية الغربية, وانكفاء المجتمع المقدسي, والفلسطيني بعامة, في غياهب التقليد.
لكن الشيء المثير الذي نقع عليه عند الإبحار في مذكرات "واصف جوهرية" كما يحللها "تماري", وكما في أكثر من حالة من حالات ما قبل الاستعمار في مناطق أخرى, هو أن هذا التصور المابعدي للقدس هو إسقاطي وتخيلي أكثر من كونه تاريخياً وأنثروبولوجياً. إنه تفكيك لمجتمع ما قبل "الغزو الغربي", واتهامه في أصول تكوينه وافتعال معركة حداثة وتقليد معه. وهذا التفكيك والمعركة المفتعلة تكون برسم الادعاء بجلب الحداثة كاملة له من وراء الحدود. لكن الحقيقة التاريخية لكثير من المجتمعات لا تنطبق تماماً مع هذا التفكيك. وهي في نفس الوقت لا تنطبق أيضاً مع بعض أطروحات رومانس العالم الثالث وبعض تهويمات أنصار ما بعد الحداثة والتي تقدس واقع المجتمعات التقليدية من دون أية نظرة نقدية ولا ترى فيها الجوانب البشعة. "حداثة القدس العثمانية" كانت حداثة متولدة داخلياً, عفوية وفعالة, ليست مفتعلة ولا مفروضة. لكنها أيضاً, وحتى لا نغرق في الرومانس مرة أخرى, لم تكن حداثة كاملة.
كانت حداثة تطال جانباً من جوانب الاجتماع المقدسي, وهو جانب التواصل الديني والتعايش الاجتماعي الذي هو في غاية الأهمية. لكنها لم تطل جوانب اجتماعية أخرى مثل التراتبية الاجتماعية, أو التراتبية المناطقية (المدينية/ القروية) والإقطاع ووضع المرأة وسوى ذلك. كما أنها لم تكن تجرؤ على الارتقاء للمستوى السياسي لتتحول إلى حداثة سياسية تشكل أنظمة الحكم, وتؤسس لآليات محاسبة ورقابة, ودساتير وقوانين عصرية, وكل ما جاءت به الحداثة السياسية الغربية. فالإطار السياسي العام والحاكم كان النظام العثماني بفكره الإقطاعي والقروسطي والذي ما كان ليسمح لأي مشروع حداثة سياسي بالنهوض لموازاة الحداثة الاجتماعية النسبية. لكن ما يهمنا هنا وما يشير إليه "تماري" ببلاغة ودقة هو التفاصيل الجميلة لـ"الحداثوية المقدسية الاجتماعية", فهنا تكمن القيمة والأهمية البارزة لتلك المساهمة في هذا الكتاب.
بيد أن هناك قيمة أخرى لا تقل أهمية تتضمنها قراءة "تماري" لمجتمع قدس ما قبل الاستعمار. فبعيداً عن مساجلة الغربيين والبريطانيين بشأن التصور المسبق عن "حداثة" أو "تقليد" القدس وتعايش أهلها, ثمة الدرس التاريخي الكبير الذي تنقله لنا هذه القراءة ويكمن في قيمة التعايش المحلي وقيمة الحياة المشتركة، وروعة ما ينتجانه من بنية اجتماعية متناغمة. وهي بنية صارت مجتمعاتنا تتوق إليها بكل قوة, بعد أن وقعت هذه المجتمعات في قبضة التأثيرات الأصولية والفكر المتزمت والرجعي وما يتناسل عنها جميعاً من شقاق ونبذ وتكوينات "غيتوية" متمترسة وراء الحدود الدينية والطائفية والإثنية.
طبعاً يُحال جزء كبير من مسؤولية تدهور الأنسجة الاجتماعية في المنطقة إلى قسوة وفظاظة التدخلات الغربية والاستعمارية ودوام الحروب والصراعات المفروضة عليها. لكن في ذات الوقت, وبعيداً عن منطق التطهر الذاتي من الشرور التي استحدثناها بأيدينا, فإن مسؤولية كبيرة تقع على الفكر والثقافة والسياسة الداخلية التي سادت خلال العقود الماضية, وآلت إلى توتير البنى المكونة للمجتمعات واستحكام العداوات بين شرائحها. وربما يمكن القول, وبقدر من الابتسار الذي لا يبرره سوى قصر هذه العجالة, أن التحالف الثلاثي غير المقدس بين الضغوط الخارجية الغربية الحربية وبين أنظمة الاستبداد السائدة في منطقتنا العربية، وبين ردود الأفعال الأصولية والمتطرفة على الإثنين معاً قد أوقع مجتمعاتنا في وهدة التمزق والتشرذم والتطرف الديني الذي نراه جميعاً. إنها لمفارقة محزنة أنه بعد مرور قرن على سرادق غناء الشيخ المسلم سلامة حجازي في القدس عام 1908, وعزف جورج أبيض المسيحي له, وغناء المسلمين والمسيحيين واليهود في ذلك الحفل, فإننا لا يمكن أن نتخيل نظيراً له يحدث اليوم من دون أن يُصنف "الفاعلون" بالكفر والفسق والمجون, إن لم يكن أكثر من ذلك.