أعراض جديدة لمرض لبناني مزمن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مايكل كولي
تبخرت آمال اللبنانيين بصيف هادئ نسبياً مقارنة بصيفهم الماضي. فاللبنانيون تحملوا كثيراً، وكانوا بدأوا البحث عن نافذة راحة، سموها هدنة المئة يوم، واستبشروا بعودة السياح، قبل ان يصدموا مجدداً بأزمة ساخنة اشتعلت هذه المرة في مخيم نهر البارد، وامتدت شظاياها لتصيب بشكل متفجرات مناطق في بيروت والجبل، فكانت حلقة جديدة في سلسلة أزمات متواصلة ومترابطة منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري.
ولا يلوح في الأفق انفراج، بل إن الحديث يكثر عن انفجار او انفجارات تنجم عن مضاعفات الأزمة الحالية، وصولاً الى أزمات أخرى، ابرزها الخلاف حول المحكمة الدولية، والاستحقاق الرئاسي المقبل وما يليه من تحديات وخلافات مستجدة.
وانتظر اللبنانيون منذ ما قبل التمديد للرئيس الحالي اميل لحود عام 2004 حتى اليوم، الاستحقاق تلو الاستحقاق، على أمل ان يحمل احدها سلاماً واستقراراً، فغرقوا في تفاصيل وتفرعات كانت تُفتح ثم تُغلق عند بروز ازمة أعمق، من دون ان تكون هنالك معالجة لجذور الأزمات.
وفي نظرة على تاريخ لبنان منذ نشوء الدولة في عشرينات القرن الماضي، نجد ان العواصف لما تزل تهب على اللبنانيين، وإن كانت متفاوتة في عنفها. أما الفترات الهادئة فكانت بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، يستعد فيه الناس لأحداثها، وبعضهم لإحداثها. فعاشوا الأزمنة بين أزمة راهنة وأزمة لاحقة تختمر وتُحضَّر، ناراً تحت الرماد.
والذي يغفل عنه اللبنانيون بشكل عام، هو ان معظم هذه الازمات عوارض، اما الجوهر الذي يبقى فهو اعمق بكثير، انه مشكلة يتحاشى الناس إثارتها ومقاربتها بشكل صريح، خوفاً من مواجهة حقائق مرة، لكنهم يظهّرونها مرة بعد مرة وأزمة بعد أزمة، وهذه المشكلة تتعلق بلبنان الفكرة واحتمالات نجاحها. ما يدفعنا الى طرح سؤالين رئيسيين:
الأول: هل لبنان الفكرة الذي يمثل كياناً ديموقراطياً، تتعايش فيه منظومات متنوعة قومياً ودينياً وايديولوجياً، وتاريخها حافل بالصراع الدموي وعدم الثقة، هل هذه الفكرة اصلاً قابلة للحياة في هذا الشرق الذي ملأ ولا يزال صفحات التاريخ بأمواج متلاطمة من العنف والاضطهاد والمآسي والهواجس؟
والثاني: اذا كان الجواب نعم، أي انه قابل للحياة، فما هي الصيغة الامثل التي يحقق هذا الكيان في ظلها نجاحاً في أداء دوره، بتوفير بيئة يعيش فيها أبناؤه حياة كريمة بسلام، ويتمكنون من التطور، والإسهام في تطور البشرية؟
والمطروح هنا ليس هدفاً ساذجاً او مستحيلاً. فنحن لا نتحدث عن لبنان في موازاة الدول التي بذلت جهوداً كبيرة طوال سنوات لتطوير ذاتها فأضحت مثالاً للرقي، بل المقصود وجود خطوات أولية لتوفير حد أدنى من إمكانية الحياة بكرامة وأمان، فلا يقتل أبناء الوطن أطفال بعضهم البعض ويسلبون شبانهم الأمل بمستقبل واعد من دون رقابة أخلاقية.
والإجابة عن الأسئلة الكيانية في لبنان ليست بالأمر اليسير، لأنها تتطلب خطوات اساسية، منها:
1- أن يعرف، ويعلن، كل طرف في لبنان ماذا يريد، وهذا يستوجب ترتيب كل طرفٍ لأولوياته، وللقيم الاساسية التي يؤمن بها والتي تشكل حجر الزاوية في بناء شخصيته المعنوية، وتحديد هويته.
2- ان يمتلك سائر الاطراف الجرأة الكافية لطرح الموضوعات الخلافية بصراحة مطلقة، بحيث لا تبقى القضايا الاساسية، التي ينبغي التوافق عليها، قنابل موقوتة تهدد الكيان في كل لحظة.
3- ان يتمتع المجتمع بكل أطيافه ومكوّناته بالقدرة على تحمل الحرج والتوتر الذي سينتج عن طرح القضايا الجوهرية ومناقشتها.
4- أن يحدد سائر الأطراف ولاءاتهم في الداخل والخارج ويرتبوها، ويعلنوا عنها بشكل صريح، بحيث يعلم الجميع عمق وطبيعة العلاقات والروابط الداخلية والخارجية لكل الأطراف.
5- ان تتضافر الجهود لإيجاد بيئة آمنة ومتينة، تشكل الحاضن القوي للبحث في القضايا المحورية، لحماية المجتمع من مضاعفات الحوار التي قد تهدده في سلامته وأمنه.
والمتتبع لأخبار لبنان يلمح البوارق التي تلوح من خلال مداخلات للزعماء اللبنانيين، بين الفينة والفينة، يطرحون فيها السؤال الأساس الذي هو "أي لبنان نريد؟"، ثم لا تلبث هذه المحاولات الخجول ان تضيع في ضوضاء الصراعات الجانبية، ليبقى السؤال من دون جواب.
وحاولت الأطراف السياسية اللبنانية مرات عدة اجتراح آليات تؤمن الشروط اللازمة لإنجاح حوار حقيقي وجدي تتم فيه الاجابة عن الاسئلة الوجودية المتعلقة بلبنان الفكرة والكيان، وامكان استمراره وتطوره. وكان اشهرها مؤتمر لوزان ثم اتفاق الطائف الذي وضع دستوراً جديداً هشاً للبلاد، وأخيراً محاولة جلسات الحوار والتشاور في العام الماضي، والتي وئدت وعجزت عن بلوغ أهدافها.
وللأسف سيبقى لبنان في المدى المنظور يعاني من أنواع العوارض المأسوية كالتي يشهدها الآن، الى ان يبادر ابناؤه بأعمال قيادية حكيمة يسأل اللبنانيون من خلالها الاسئلة الكيانية بشجاعة ومثابرة، ويجدون لها الأجوبة الواقعية والجريئة حتى يعيش أبناؤهم الحياة التي يولد من أجلها كل انسان، الحياة الكريمة.
كاتب لبناني.