أحضروا أوبرا وينفري إلى غزة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
توجان فيصل
الأنباء عن نية الكيان الصهيوني استضافة مقدمة البرامج التلفزيونية الأمريكية، اوبرا ونفري، لإطلاعها علي معاناة المستوطنين اليهود جراء القذائف الصاروخية التي تطلقها حماس باتجاههم، أثار سخط العرب، فبدأوا، كالعادة، بالهجوم علي أوبرا وكل ما هو أمريكي .
هذا مع أن المشكلة ليست في اوبرا التي لم تأت بعد ولم نتبين موقفها . بل إننا لاندري إن كانت متعاطفة ابتداء مع مزاعم الإضطهاد التي تروجها الصهيونية العالمية، ام انها مرتهنة بحكم مصالحها المهنية والمالية للوبي الصهيوني في أمريكا، ام انها ما تزال محايدة ويريد الصهاينة إستباقنا إليها كون برنامجها ذا شعبية ويتمتع بمشاهدة عالية لدي القطاعات المتوسطة الثقافة والبسيطة من الناس ( هو ليس برنامجاً نخبوياً حتماً)، والبسطاء يسهل التاثير عليهم عبر برنامج واحد او نجم واحد، وإن حدث هذا يصعب ان يجري تغيير لاحق لقناعاتهم..
وأعتقد انه لهذا بالذات فكر الصهاينة في اوبرا ونفري وبرنامجها تحديداً، خاصة بعد ان بدأت أسماء كبري معتبرة في السينما العالمية (مايكل مور، ريتشارد جير، ميل جبسون.. وغيرهم ) في اتخاذ مواقف سياسية تدين إسرائيل وأمريكا صراحة أو بشكل غير مباشر.
ولكن الأهم هنا ان اوبرا ونفري ذاتها إن تبنت أي امر بهذه الحساسية ستصبح اسيرة هذا الرأي ولا يمكنها أن تعود عما قالته مهما تبدت لها من حقائق مناقضة، لأن جمهورها الساذج لا يتقبل هذا التغيير . فتقبل تغيير الرأي لدي الشخص نفسه او لدي غيره، من سمة العلماء، او علي الأقل الأذكياء الذين يعتزون بعقولهم .
ولكن واقع الديمقراطية يقول ان العلماء والجهلاء لهم ذات الثقل عند الصندوق الإنتخابي.. وإن كان للعلماء والأذكياء ثقل أكبر قبله، وفي مرحلة تشكيل الرأي وقيادته . ولهذا بالذات يجب ان لا نغفل أي إنسان يعمل في محال تشكيل أو قيادة الرأي العام، بمن فيهم نجوم التلفزيون وحتي ممثلو السينما والمطربون..
أليس لهذا تسمي منظمات معتبرة في الأمم المتحدة (اليونسيف واليونسكو واليونيفيم.. الخ) نجوم السينما سفراء نوايا حسنة لها في مختلف أنحاء العالم ؟؟
والأمر لا يتعلق بأوبرا ونفري وحدها، ولا حتي بقادة الرأي العام، بل أيضاً بطبيعة خطابنا للخارج الذي لا يتناسب مع العقلية الغربية، بل ولا يتناسب مع واقع الحال الذي نعيشه ويفترض أن نعكسه. ولا نبالغ إن قلنا ان معظم خطابنا موجه للذات العربية في محاولة إضفاء صورة جميلة لمعاناتنا تصل حد الكذب علي الذات وعلي الآخرين .
ونظرة واحدة إلي واقع الحياة في قطاع غزة والضفة الغربية يكفي لبيان أن العرب ضحايا لأبشع أنواع الظلم والإضطهاد والتمييز العنصري في هذا العصر. ولكن هنالك من يصر علي تزويق غير منطقي، ولا يغتفر، لمعاناة الأبرياء، وجل هذا يجري بغطاء من جهل ديني، أو تجهيل لا يمكن إلا ان يكون متعمداً.
فمفهوم الشهادة ابتداء، جري فيه خلط كبير، وجري تحريفه بما لا يسمح به الإسلام. فالإسلام ليس ديناً عدمياً ولا دين تنسك يعتبر الدنيا مجرد معبر للآخرة لا يهم ان كان وعراً او مهدماً أو منسوفاً من اساسه ما دامت ارواحنا ستنتقل منه إلي الآخرة..
بل هو من أكثر الأديان تقديراً للحياة البشرية، ومن أكثرها حضاً علي إصلاح وتطوير هذه الدنيا، بل وعلي الإستمتاع بمباهجها.. فالموت في الإسلام هو أسوأ ما يمكن ان يحصل للإنسان في هذه الدنيا ، ولهذا فإن الموت لأجل مبدأ يسمي الشهادة ويضع الإنسان في مرتبة عالية جداً بحيث يحشر الشهداء مع الأنبياء يوم القيامة.
وهذا يحتم أن لا يجري التوسع في صرف شهادات الشهادة . والفارق بين الإنتحاري و الإستشهادي يجب أن يوضح بما لا يقبل اللبس، فالإنتحار محرم ديني لأنه موت مجاني.. أما الموت في اقتتال داخلي فهو النسخة المحدثة لاقتتال المجالدين لتسلية سادة روما، وهو هنا لتسلية وتقوية سادة الصهيونية العالمية، أباطرة العالم كله في عصرنا هذا !!
كما يتوجب الحذر من توزيع القاب الشهادة علي ضحايا عدوان العدو الصهيوني، بما يوحي بأن الصهاينة قدموا لنا خدمة، نحن العدميين الساعين للموت كهدف أسمي، بنقلنا للآخرة في مجاميع . فالطفل الذي يقتل وهو في سريره أو علي صدر امه هو قتيل ، ومثله الفتي والشاب وحتي الرجل في عنفوانه، كلهم مظلومون مقهورون ، وليسوا منتصرين فازوا بالآخرة بدل الدنيا الفانية.
وإذا كانت لهم مكانة الشهيد عند الله فلأن الظلم الذي لحق بهم كبير، والله يغفر كل شيء إلا حق المظلوم.. ولكن هذا كله نتركه لقناعتنا الخاصة ولمواساتنا في لحظات ضعفنا الخاصة، ولا نحاول تسويقه في العالم غير المعني بالخوض في تفاصيل ثيولوجية نحن ابعد ما نكون عن حسمها بينياً .
ما يجب أن نظهره للعالم هو هذا الظلم الذي يلحق بنا والذي وصل حد الإبادة الجماعية لا علي التعيين، او ضمن استهداف طرائد بشرية محددة ببرودة أعصاب كما يصطاد الهواة الحيوانات او الطيور التي تهب منظمات حقوق الحيوان لحمايتها منهم !!
وحتماً لن تخدم قضيتنا صور الإحتفالات وأصوات الزغاريد التي تفرض، بضغوط نفسية مواربة تزيد سوءاً عن الضغوط السياسية او الميليشياتية المباشرة التي تمارس علي اهل الضحية.. الحقيقة التي يجب أن نظهرها للعالم ليس هذا الطقس الجمعي ، بل هو ما يصدر عن ام الضحية لحظة تخلو لنفسها بعد انصراف الجمع.. فهذه هي الحقيقة القصوي عند الخالق وعند خلقه !!
وغني عن القول أننا لن نتمكن من وقف العمليات الإنتحارية المجانية، ليس فقط لأننا مقصرون في بلورة خطاب ديني سليم غير خاضع لحسابات سياسية لحظية بعد أربعة عشر قرناً من تسييس للدين لا تقل الصراعات السلطوية فيها عن النضال لأجل الحرية والكرامة الإنسانية وحق الحياة ذاته.. ولكن أيضاً لأن ظروف الظلم الفادح حين تحيط بالإنسان وتغلق عليه أية طاقة لفرج أو أمل، كفيلة بان تجعله إنتحارياً يطلب الموت ليتخلص من هكذا حياة. وهذ الموت، بحكم الطبيعة البشرية، سيجلب له راحة اكبر لو امكنه إسباغ معني أوسع وأنبل عليه.. وهو ما توفره له جماعات بذات القدر من اليأس وقدر مساو من الجهل الديني!!
ما نستطيع فعله بسيط ومتيسر، وهو ان نعرض واقع الحال الذي وضعتنا فيه الصهيونية العالمية وساستها وحلفاؤها وما تسميه بجيش دفاعها !! وان نربط هذا الواقع بخبرات الآخرين لاختصار الطريق إلي قناعاتهم .
وعلي أية حال، نحن لا نخترغ صلات غير موجودة، فالأطماع السياسية واضطهاد الأمم والشعوب والإستيلاء علي مقدراتها واستعبادها وكل ما يتبع هذا من ظلم وقهر وجرائم جماعية ترتكبها دول وجيوش وعصابات، أو فردية يتفنن بها أتباع هذه المنظمات.. كلها لها تاريخ قديم قدم التاريخ ومتجددة معه.
ووراء غزة القضية التي تستحق الموت لأجلها في نظر ابنائها، قصة موت مفروض ضمن ظروف غاية في اللاإنسانية . فإذا كان الأمريكان يجرون دراسات نفسية الآن علي من كانوا في بطون امهاتهم عندما سمعن بتفجيرات برجي التجارة العالمية، فإن اطفال غزة يشهدون تفجير بيوتهم وموت اهلهم وجيرانهم بشكل شبه يومي ' بعضهم يشاركون في إخراج الجثث من تحت الأنقاض..
وليس ثمة ضامن من اي نوع ان لا يكونوا هم الجثث تحت الأنقاض في جولة القصف الإسرائيلي القادمة !! فما المتوقع، في علم النفس، ان ينتج هذا ؟؟ إذا كان هنالك من لم يغادر إنسانيته بعد كل هذا، فهو معجزة تستحق كل التكريم، وليس فقط العون، الذي يمكن للعالم أن يقدمه..
ولكن من تطرف ومارس عنفاً مضاداً في غير محله، فهم الضحية للمرة الثانية، وليس القاتل !! غزة هذه يجب أن يراها العالم كما هي بلا رتوش عزة تأخذنا للإثم .. هي ببساطة أرض مجاريها لا تصرف بأمر من ساسة إسرائيل، فيضطر إنسانها لأن يعيش ليس فقطإلي جانب فضلاته، بل و مع فضلاته ووسطها كلما فاضت عليه، وقد حدث هذا مراراً مؤخراً !!
والطعام والدواء مهددان بأن يمنعا عنها في أية لحظة ولأية مدة زمنية، وقد جاعت غزة باكثر مما جاعت بلد في تاريخ القحط والكوارث جميعها !! وفيها بطالة تطال ربع قواها العاملة، وهي غير البطالة المقنعة التي لا يجد فيها العامل قوته الشخصي. بطالة كهذه تشكل وحدها وصفة للعنف والجريمة وحروب العصابات في الشوارع..
لهذا فليس من الإنصاف تصوير الشعب الفلسطيني علي أنه منقسم متقاتل، بل إن الإقتتال البيني هنا لا يختلف عما كان يجري في جنوب أفريقيا او في مناطق السود الفقيرة في مدن أمريكا التي لم يعد بإمكان الشرطة دخولها لسنوات في بعض الفترات..
وهذا تاريخ عالمي وتاريخ محلي تفهمه أوبرا ونفري الطفلة والصبية السوداء الفقيرة إبنة منطقة مهمشة مماثلة، وسليلة اسرة استعبدت في تمييز عنصري مشابه، كما يفهمه اي إنسان أبيض او اصفر أو أحمر بدرجة وعي وذكاء أوبرا ونفري .
وأوبرا لا تنكر ماضيها ولا تاريخ معاناتها، بل تفخر بنضالها للتغلب عليه وفرض إنسانيتها، بل وتفوقها ، في مجتمع ما زال للبيض إلي حد بعيد !! بقي علينا نحن ان ننزل من علياء موهوم هربنا إليه في حالة تعويضية عن ظلم فادح، فزعمنا أننا شعب مختار للشهادة، في حين نحن نذبح بأيدي أعدائنا، واحيانا بأيدينا يأساً وجهلاً..
وأوبرا ونفري ستفهم حتي هذا وستفهمه لجمهورها، فأروع ادوارها كممثلة كان دور العبدة الفارة من العبودية، والتي قتلت ابناءها لشدة خوفهاً من أن يطالهم الجيش الجنوبي فيعادون لحال العبودية، وعاشت بعدها في إنكار لما فعلت صدقته هي نفسها..
وليست السيدة ونفري وحدها التي ستفهم، فالعالم كله فهم وتعاطف مع ذلك الفيلم.. ولا عيب في أن نأنسن معاناتنا، ففي الإنسانية بطولات تفوق بطولات السلاح بكثير .
وهذا نضال نحن ملزمون به، كما نحن ملزمون بالنضال المسلح للتحرير ولكن ليس للإنتحار، فعدونا الذي يملك السلاح الأقوي يستثمر معاناة قديمة لجدوده لانعرف مدي صدقيتها لأن البحث في حقيقتها مجرّم بضغط من الصهيونية العالمية..
ولكننا نعرف ما يصيبنا نحن، ومن حق أمواتنا أن نبكيهم، كما من حق أحيائنا أن نحميهم من موت ماثل أمامهم حيثما تلفتوا، أو إذلال يستسهلون معه الموت فيعفون اعداءهم من دماءهم !!