جريدة الجرائد

مذيعات الجزيرة ..الشهرزادات الجدد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عزت القمحاوي

كانت مذيعات الجزيرة مثل شهرزادات طورن تقنيات الحكاية، يعرضن الخيانة وقتل المحارم بالصوت والصورة في حكايات حقيقية.

لم يكنّ يصفن دخاناً خيالياً، بل كان واقعياً يتصاعد مع التراب وأشلاء البشر والموجودات في سماء بيروت. ولم يكن الدخان مقدمات لخروج العفريت من القمقم بعد أن حرره الصياد التعيس، العفريت البيروتي محرر منذ زمن طويل، من غير أن نعرف من حرره، فكل الصيادين يلقون بشباكهم في بحر بيروت، وكلهم تخرج شباكهم ملآنة بالشرور.
كان ما أراه دخان تفجير النائب وليد عيدو وولده وحراسه!

وكانت المذيعات حريصات علي فضولي ـ لا بوصفي ملكاً يستطيع قتلهن، لكن بوصفي مشاهداً وكل مشاهد ملك ـ ينظرن التثاؤب في وجهي فيقلن: وأين ذلك مما حدث في غزة! فأقول كيف يا لونا أو كيف يا فيروز ؟ ويشرعن بالحكي بينما تتحول الصورة تحت ساتر الدخان من بيروت إلي غزة لأجد نفسي ـ كما علي بساط سحري ـ فوق سطح مقر الأمن الوقائي، حيث يقف العفريت المنقب برشاشه علي رأس الصياد، والصياد الذي حرر بعبثه العفريت لا يعترف أنه هو الذي فض الأختام ونهب كل محتويات الجرار، حتي كانت الجرة الأخيرة التي خرج منها ذلك العفريت ، بعد أن بقي في القمقم طويلاً، يشاهد ويحتقن ويعاهد نفسه علي قتل من يحرره.

حاولت الارتفاع علي الحكاية التي أذهلت كل مرضعة عن وليدها، وأذهلت طلاب الثانوية العامة عن امتحاناتهم، وعندي يقين بأن السعادة ليست فطنة خاصة أو منحة إلهية لكن مهارة يمكن الحصول عليها بمداومة التمرين. وكثيراً ما مارست تمارين السعادة في مواجهة هكذا حكايات.

قلت لنفسي: أنت لا تعرف وليد عيدو، ولا تعرف معني أن يكون من قوي الرابع عشر من آذار أو الثامن منه، لأنك تنسي الفرق دائماً.

هذا حقيقي؛ ففي يقيني أن ستة أيام من آذار (مارس) لا تضيف إلي البرعم الوليد علي غصن أكثر من مليمتر واحد، ولايمكن لهذا المليمتر أن يضع أبناء البلد الواحد في هكذا تضاد. كما أن المغدور نائب، وعلي الرغم من أنني لا أعرف شيئاً عن سيرته فقد علمتني التجربة البرلمانية المصرية ألا أتأسي علي موت نائب، حيث البرلمان المكان المناسب للتخفي عن أعين العدالة، كذلك علمتني التجربة الشرطية ألا أحزن لموت الحراس. (كان بساط الجزيرة ينتقل إلي مؤتمر بدو سيناء ويعرض شكاواهم من ممارسات الشرطة ضدهم).

لكن ابن النائب الذي لم أعرف اسمه أو عمره هو ما أصابني بالجزع، واكتشفت أنني لم أعرف شيئاً عنه لأن شهرزادات الألف ليلة الجديدة يعتنين بالصراع، وبأسبابه، ولا مكان في الحكاية لمن يموتون عبثاً.

ولا بد أن الابن الذي لا أستطيع أن أصفه بـ الولد فلربما كان أكبر، ذهب بلا جريرة، وإلا لتوقفت أمامه الحكاية ولم تمر عليه عرضاً وتختزل ملامحه في كونه ابن النائب ، ويبدو أن الانتماء إلي قوي الثامن أو الرابع عشر أو أي يوم آخر هو ما يضمن موتاً إعلامياً جيداً في بيروت، أما أن يعيش اللبناني من دون أن يختار مكانه في الروزنامة، فسيكون قد حكم علي نفسه بالموت بلا مجد!

وهذا للمفارقة، هو الموت المؤسف الذي لا تنفع معه التمارين. كان من الممكن النجاح من دون مجهود يذكر في ممارسة سعاداتي الصغيرة في ظروف موت نائب في البرلمان، أي برلمان، أو نائب رئيس في جهاز الأمن، أي جهاز أمن، لكنني فشلت في نسيان ذلك الابن المنسي، أو نسيان الطالب المغدور في طريق عودته من امتحانه في غزة.

فكرت أن من السهل الاحتراز بعدم مصاحبة ابني إلي أي مكان، لكنني لا أستطيع أن أمنعه من الذهاب إلي لجنة الامتحان. وقد مات في مثل سنه شاب في انتخابات مجلس الشوري بمصر التي اكتسحها الحزب الوطني في مانشيتات الصحف الحكومية، بينما كان موت الشاب النتيجة الوحيدة الصحيحة في انتخابات خيالية تمكن فيها الصياد من إدخال عفريت الإخوان في القمقم للمرة الثانية، بعد انتخابات مجلس الشعب، لكن بقاء الصياد وبقاء الدولة المصرية مرهون بإرادة العفريت وحده، هل ينخدع مجدداً أو يستجيب مختاراً لحيلة الصياد الذي يحايله في كل مرة أن يعود إلي القمقم ليري كيف يستطيع بجسمه الضخم الاختفاء في ذلك الفراغ الصغير؟

يريد الصياد أن يكسب يوماً إضافياً في حياته، وليس مهماً بعد ذلك إن نشأت توأمة بين إمارة غزة وإمارة مصر، علي أن هذا ليس موضوعنا الليلة أيها الملك القارئ السعيد، فما كنا بصدده هو موت الصغار وسط إجرام يمارسه الأهل تجاه بعضهم البعض، وكان بودي أن أحكي لمرتكبي قتل المحارم حكاية علي أن يعدوني ـ إذا أعجبتهم ـ أن يهبوني دماء الصغار الذين لما يتذوقوا حلاوة أو نار الحياة بعد.

ولست أعرف تاريخ ميلاد للحزن الذي يعض قلبي علي موت الصغار، ربما بدأ في وقت مبكر، عندما رأيت كيف تتقوض حياة التعيسات من الأمهات اللاتي يكتب لهن الحياة بعد أبنائهن. كان ذلك في زمن تحترم فيه الطبيعة قوانينها وترتب الانصراف بترتيب الوصول، وكان كل الموتي الذين اخترقوا قوانين الطبيعة وسبقوا آباءهم قد ذهبوا في قتال مع العدو، راحوا علي أقدامهم وعادوا في صناديق.
لم أفهم معني ذلك الحدث الغامض: الموت، إلا من خلال النواح وطلقات تحية الشهيد ولون العلم.

كان من النادر أن يموت شاب من دون أن يلف في العلم، واليوم يموت الشباب علي الهامش في حكايات الجزيرة أو من دون أن يكون لهم مكان في أي هامش بداء الكبد أو السرطان أو حوادث المرور، ولم يتمكن تواتر موت الزهور من جعله عادياً أبداً، بل إن حساسيتي تجاه موت الصغار تتزايد يوماً بعد يوم، ربما بعد أن صرت أباً؟

هكذا ايها القارئ السعيد فشلت تمريناتي للسعادة واستسلمت للحزن علي حيوات الأبرياء المسكوت عنهم في حكايات الجزيرة ولم ينتشلني من حزني سوي صوت صديقة من بيروت تعاتبني: لماذا لم تسأل عني بعد الانفجار يا دب؟

وأسعفتني الحيلة، قلت: لأنك لست من قوي الثامن أو الرابع عشر.

أعرف وهي تعرف أن الديناميت لا يفرز المحايدين علي جنب قبل أن ينفجر، ومع ذلك ضحكنا.


العنوان الأصلي للمقال: تمارين على السعادة

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف