ماذا بين «تحرير» غزة و «إمارة» البارد؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طوني فرنسيس
كان مسؤولون في تنظيمات فلسطينية مسلحة مقيمة في لبنان، ومعهم "أنصار" في تيارات سياسية لبنانية، يرفعون الصوت جهاراً، حرصاً على مدنيين فلسطينيين في مخيم نهر البارد، وفي خلفية الصورة كانت مدن قطاع غزة تشتعل في حريق تولت أثناءه حركة "حماس" إنجاز ما سمته التحرير الثاني وطرد وقتل واعتقال رموز "الاحتلال الفتحاوي" في معركة لم تكلف اكثر من 700 قتيل وألوف الجرحى...
لم ينتبه الحريصون على مدنيي مخيم نهر البارد، من فلسطينيين وخصوصاً لبنانيين، الى ان الجيش اللبناني حرص في رده على جريمة "فتح الاسلام" على اجلاء اكثر من 35 ألف فلسطيني الى اماكن آمنة، وانه لم يبدأ المعركة لجلب أفراد عصابة المرتزقة الى العدالة إلا بعد ان ضمن أمن المدنيين وكان ذلك على حسابه، ما أدى الى ان يدفع ثمناً غالياً من حياة ضباطه وجنوده (نحو 70 شهيداً) فيما لم يقع في صفوف مدنيي المخيم سوى 17 ضحية دفعوا ثمن الاختراق الارهابي لأحياء لجوئهم وحياتهم.
كانت الصورة مختلفة ومفجعة تماماً في غزة، عناصر "حماس" يقضون على الذين اطلقوا الثورة الفلسطينية في العصر الحديث مُستظلين شعارات ولافتات تصنّف رفاق السلاح والوطن عملاء للأميركيين والاسرائيليين، متناسين انهم وشركاءهم في المصير ما زالوا على أرض محتلة وان الأولوية هي للخلاص من الاحتلال وتوفير ظروف بقاء الشعب الفلسطيني في أرضه وليس دفعه الى اللجوء الى اسرائيل او الى معابر رفح.
في الحصيلة، اصبحنا اليوم أمام دولتين فلسطينيتين. واحدة في غزة تقودها حركة "حماس"، وأخرى في الضفة الغربية تقودها حركة "فتح" وسيستمر الصراع الداخلي في الدولتين: حماس ستحاول إكمال مسيرتها "التحريرية" في الضفة في مواجهة "فتح" و "فتح" ستحاول استرداد ما أخذ بالقوة... بالقوة في غزة! وسيكون الباب مفتوحاً على مصراعيه امام اسرائيل للتدخل في الطريقة التي تناسبها هنا وهناك كما سيكون للإطار الذي وضعت "حماس" نفسها فيه دوره البارز: فالحركة التي تتخذ من دمشق مقراً لقيادة مكتبها السياسي ومن طهران مرجعاً داعماً في المجالات السياسية والمعنوية والمادية، ستكون حققت للمحور السوري - الايراني نقلة في سياق خلافه مع "الاعتدال العربي" والسياسة الاميركية - الاوروبية، وأمّنت له موقعاً متقدماً على ساحل البحر الابيض المتوسط، ما جعل "يديعوت احرونوت" تعنون افتتاحيتها (15/6/2007) بالتالي: "إيران على بعد 5 دقائق من عسقلان".
طبعاً، للمبالغة الاسرائيلية أهدافها، لكنها ليست من دون أساس فتحرير غزة من "فتح" ليس مسيئاً الى اسرائيل بقدر ما هو مسيء الى اتفاق مكة والى مقررات القمة العربية، ومحاولات الانقلاب على الرئيس محمود عباس تمس خصوصاً "النظام العربي الجديد" الذي حاولت قمة الرياض ارساءه استناداً الى قواعد التضامن والتمسك بمبادرة السلام العربية والتشجيع على استعادة الأوضاع الطبيعية في العراق.
وعندما تسيطر "حماس" كتنظيم "إسلامي" على قطاع غزة، ستواجه المشاكل المعتادة مع اسرائيل، لكن مشكلتها الأكبر ستكون مع العالم العربي المعتدل: مع مصر التي تخوض معركة سياسية مع تنظيم "الاخوان" ومع الاردن الذي يخشى "حمسنة" إخوانه، أما امتداد سيطرتها السياسي والمعنوي فسيحسب على ايران البعيدة وسورية القريبة، ولكن التي يفصلها عن غزة غَزَلٌ مُعلن مع "العدو" يمكن ان يتحول في لحظة الى علاقة ود وفي لحظة أخرى - ربما يكون الصيف موعدها - الى علاقة حرب.
لم تعطِ "حماس" معنى لمعركتها في غزة غير رغبتها في "فرض الأمن" و "منع التجاوزات"، وعندما تحدثت في السياسة اتهمت الرئيس الفلسطيني وقادة "فتح" بأنهم ينفذون أوامر كوندوليزا رايس.
هناك فارق كبير، بل تناقض بين مبررات "التحرير" وشعاراته، خصوصاً ان برنامجاً سياسياً موحداً يحكم علاقات الفصائل الفلسطينية تُرجم في حكومة الوحدة الوطنية، الأمر الذي يبرر طرح السؤال السياسي الذي يلمح إليه مسؤولون فلسطينيون ويمتنعون عن طرحه بقوة كما عن تقديم الجواب عليه.
لقد نقل عن الرئيس السوري بشار الأسد في معرض تهديده بالرد على السياسة الاميركية - في مجال حديث عن المحكمة الدولية - ان الارض ستشتعل من البحر المتوسط الى قزوين.
واشتعلت الحرائق في أماكن محددة، وكان يفترض لو نجح بعض الخطط ان تحكم "تنظيمات دينية" من لون معين سيطرتها على "امارات" الساحل الممتد من طرابلس في الشمال اللبناني الى العريش في اقصى حدود غزة الجنوبية مع مصر.
فلو نجح شاكر العبسي في تحقيق مشروعه بالسيطرة على مخيم البارد ومن ثم توسيع امارته لتشمل مدينة طرابلس، لكان لبنان الآن امام وضع "اسلامي" شبيه بما جرى في غزة اقله في المخيمات الفلسطينية ومحيطها. فتجربة البارد أرادها العبسي نموذجاً "اسلامياً" للمخيمات الأخرى، والربح في البارد سيعني نقلاً للتجربة الى عين الحلوة ثم الى صور، وفي المكانين سيتم الحسم ضد "فتح" ومنظمة التحرير، ويمكن لـ "حماس" الضعيفة نسبياً في مخيمات لبنان ان توفر عبر انتصارها في غزة ووجودها في رئاسة الحكومة الفلسطينية غطاء معنوياً.
إلا ان الأخطر من ذلك هو ما كان "يؤمل" من تداعيات داخلية لانتصار العبسي. وبحسب بعض "سيئي النية" فإن أطرافاً في المعارضة اللبنانية لم يروا في "غزوة" شاكر العبسي إلا فرصة لتشديد ضغطهم على الحكومة اللبنانية، وهم في موقفهم المتردد من قرار الجيش الرد على المعتدين على جنوده والحفاظ على الأمن الوطني، أملوا بأن لا يحقق الجيش انتصاراً جدياً على الحالة التخريبية الطارئة، بما يؤدي الى تكريس "الإمارة" وشل آخر سلاح في يد الشرعية اللبنانية. ساعتها يمكن للساحل اللبناني ان يتصل تماماً بساحل غزة، في سياق مشروع واحد عنوانه مواجهة السياسة الاميركية في انتظار ما ستؤول اليه المفاوضات المرتجاة بين "محور الشر" و "الشيطان الأكبر".
... وفي الأثناء يمكن للبنان السيد الحر ان يذهب الى صيفه الملتهب وللمشروع الفلسطيني المستقل ان يستقر في براد أحد مستشفيات القطاع.