كارثة ومهزلة غزة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد الصياد
وساطة مصرية ميدانية مقيمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ووساطة سعودية تكللت بعقد اتفاق في كنف مكة المكرمة، وتدخلات واتصالات عربية ودولية تستهدف تحكيم العقل.
ومع ذلك، وبرغمه، فإن الجنون تواصل في غزة، في إصرار واضح من جانب ldquo;بطليهrdquo; حماس وفتح على الولوغ أكثر فأكثر في حمام الدم الفلسطيني.
لقد حول الفريقان المتقاتلان ldquo;حماس وفتحrdquo; القطاع إلى مدينة أشباح لا يتحرك في شوارعها وأزقتها سوى المقاتلين ldquo;الأشاوسrdquo; من كلا الفصيلين الذين نفذوا من العمليات ldquo;البطوليةrdquo; ضد بعضهما بعضاً ما فاق كل عملياتهما ضد المحتل الغاصب!
ما جرى إذاً في غزة هو كارثة بمعنى الكلمة. فنضالات أكثر من نصف قرن حافلة بالتضحيات البشرية والمادية الجسام، تتم تصفيتها بكل بساطة وبدم بارد في ساحات وأزقة غزة! فكيف للشعب الفلسطيني بعد اليوم أن يأتمن حماس أو فتح على حياته، ناهيك عن مصيره؟
فلقد أشاع مقاتلو الحركتين الرعب والخوف في المدينة وأجبروا سكانها على التزام بيوتهم وعدم المغامرة بالخروج منها أو حتى الإطلال من نوافذها بعد أن انتشر المسلحون والقناصة على أسطح المباني والبيوت.
وعندما تجرأ بعض سكان القطاع من الرجال والنساء والأطفال وخرجوا للتظاهر محتجين على قتال الأخوة ومطالبين بصيانة الوحدة الوطنية الفلسطينية، عاجلهم المسلحون بأن أمطروهم بالرصاص الذي انهال عليهم من دون تفريق، فقتل من قُتل وجُرح من جُرح.
فأين ذهبت مقولات إن الدم الفلسطيني خط أحمر التي طالما رددها قياديو الحركتين كلما ضاقت إحداهما ذرعاً بالأخرى ووصلت حالة التأزم بينهما إلى حافة الاصطدام المفتوح؟ وأين هي التزامات الحركتين بحماية الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المغتصبة؟
فهل نقول إن شارون قد حقق ما كان استهدفه بقرار الانسحاب من غزة، وهو دفع الفصائل الفلسطينية المتنافسة للاقتتال الأهلي؟
هذا على الأقل ما يقرأه المرء في مأساة غزة بما انتهت إليه علاقات القوى المتنافسة على السلطة فيها. أكثر من مائة قتيل وحوالي 600 جريح، وتبادل الخطف والقتل بأساليب وحشية يندى لها الجبين، والمسارعة لاقتطاف ما أسفرت عنه حرب الأيام الثمانية، فتوالت واختلطت خطابات قادة حماس العسكريين والأمنيين والسياسيين معبرة عن ldquo;نشوةrdquo; النصر المبين على فتح وبسط كامل سيطرتها على قطاع غزة وسكانه البالغ عددهم 1،3 مليون نسمة محشورين في رقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها 300 كيلومتر مربع ومحاصرة ldquo;إسرائيلياًrdquo; عسكرياً واقتصادياً، بصورة خانقة من كل صوب.
فيما اندفعت قيادات حركة فتح، في محاولة لتعويض ما خسرته عسكرياً، الى اتخاذ عدد من التدابير والقرارات السياسية الرامية إلى عزل حماس محلياً وعربياً ودولياً وحشرها في زاوية هي في الأصل ضيقة كما أوضحنا. حيث تضمنت تلك القرارات والتدابير حل حكومة ldquo;الوحدةrdquo; الفلسطينية وإعلان حالة الطوارىء وتشكيل حكومة طوارىء، والعمل على أساس أن ما قامت به حماس في غزة هو انقلاب وتمرد على السلطة الوطنية الفلسطينية واستيلاء على السلطة بالقوة.
أما تصريحات مسؤولي الحركتين التي أعقبت تداعيات حرب الاستيلاء على السلطة، فقد جاءت مضحكة ومثيرة للشفقة، من حيث ذهاب بعضها لحد الزعم بأن ما حدث هو لحماية أمن المواطن الفلسطيني والتأكيد على الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنشاء حكومة وطنية على أساس الديمقراطية وحكم القانون!
هل من المعقول أن يصل تعطش الحركتين، حماس وفتح، للسلطة إلى هذه الدرجة من التقتيل والتصفيات الجسدية المجنونة، مع أن السلطة المتنازع عليها هي سلطة وهمية (ldquo;فالصوrdquo; بالمعنى الشعبي الدارج للكلمة)؟.. فأي سلطة هذه التي لا يستطيع رئيس حكومتها التحرك بحرية وأمان داخل نطاق الحيز الجغرافي الضيق الذي يحكمه؟ وأين هذه العمليات الانقلابية الدموية والممارسات الشمولية من سجايا حركات التحرر الوطني وسجلها الناصع في عدم الحلول محل المستعمر في إرهاب سكان المناطق التي يخليها المستعمر؟
وها هي محصلة تلك الحرب الضروس بين الحركتين تفضي عملياً إلى قيام حكومتين وإلى تقسيم جغرافي للكيان الفلسطيني إلى قطاع ldquo;غزةrdquo; خاضع لحكومة حماس وإلى مؤسساتها وقوانينها الدينية وعلمها الذي حل محل العلم الفلسطيني.. وإلى ضفة أخرى خاضعة لحكومة طوارىء بنكهة فتحاوية خاضعة لمؤسسات وقوانين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية.
أي أن الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال سيكون موزعاً بين العيش في ظل حكومة إسلامية متشددة في غزة والعيش في ظل حكومة مدنية في الضفة الغربية. وسيكون الاستقطاب بين النموذجين حاداً لدرجة الاشتباك الحربي.
هذا هو المآل الذي انتهت إليه تراكمات أخطاء كافة فرقاء الأزمة في فلسطين، بما في ذلك الفصائل التي لم تسمح لها قواها الذاتية بالتورط في الصراع العسكري على السلطة.
وليست الفصائل الوطنية الفلسطينية المسؤولة الوحيدة عن هذا المآل، فالنظام الرسمي العربي، سواء على المستوى الجمعي ldquo;مؤسسة الجامعة العربيةrdquo; أو المستوى الفردي ldquo;كحكومات منفردةrdquo; يتحمل هو الآخر قسطاً وفيراً من هذه المسؤولية. فهو ساعد على ذلك من خلال عدم مكاشفة كافة الأطراف الفلسطينية بمسلمة أن كل شيء يمكن أن يكون شأناً داخلياً فلسطينياً إلا الصراعات المفرقة للشمل والمغامرات الانقلابية المدمرة للقضية الفلسطينية، لا يمكن التسامح معها. هكذا بكل صراحة وصرامة.
فإن الذي حدث هو مآل محزن ومخزٍ للجميع بلا استثناء. ولا ندري كيف يمكن تداركه في ظل سيادة العصبيات الشعوبية المدمرة وrdquo;رهافةrdquo; التعاطي الرسمي العربي مع الأحداث الكبرى الخطيرة التي تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.