وقائع الصراع في لبنان والمشرق العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. رضوان السيد
بعدما حدث في غزة، حاول مجلس وزراء الخارجية العرب تحييد لبنان وسط اندلاع الصراع على أُشدّه في المنطقة، فجاءت بعثةٌ إلى بيرو برئاسة الأمين العام للجامعة، ودارت على الأطراف السياسية المتخاصمة، وتوصلت إلى إقناع بعضٍ منهم بالعودة لطاولة الحوار. لكننا أفقنا صبيحة يوم الخميس الماضي على أصواتٍ مرتفعة من جانب أطرافٍ في المعارضة اللبنانية ترفض أيَّ حوارٍ قبل تشكيل حكومةٍ للوحدة الوطنية. وما تأثر الأمين العام والوفد المرافق بهذه الأصوات في البداية اعتماداً على حماس رئيس مجلس النواب للحوار، وموافقة أطراف رئيسية على ذلك.
لكنّ الرئيس نبيه بري نفسه غيَّر رأيه على رغم طول جلسة المناشدة والمحاججة. وخلال فترة بعد ظهر الخميس عقد نائب الرئيس السوري فاروق الشرع مؤتمراً صحافياً رفض فيه كل شيء، وهدَّد بإقفال الحدود مع لبنان كلياً (وكان السوريون قد أقفلوا معبرين في الشمال والشرق). وعندما أقبلتُ على كتابة هذه السطور صبيحة الجمعة، كان الأمين العام للجامعة ومرافقوه ما يزالون يحاولون مع السيد حسن نصرالله؛ لكن الجميع أيقنوا أنه لا أمل في تهدئةٍ ولو قصيرة، فضلاً عن الوصول إلى حلٍّ للأزمة السياسية المستعصية.
خلال الشهر الحالي، شهر حزيران (يونيو) انطلقت الصراعات الثلاثة على أوسع مداها: الصراع الأميركي/ الإيراني، والصراع العربي/ الإيراني، والصراع العربي/ العربي. في صراعات المحور الأول عاد مجلس الأمن للبحث في قرارٍ ثالثٍ لتشديد العقوبات على إيران بسبب ملفّها النووي، وتعرقلت المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران بشأن العراق. وفي حين ما يزال الأميركيون والإيرانيون يدعمون حكومة المالكي، تتزايد الاتهاماتُ المتبادلةُ بينهما بشأن الاضطراب المتزايد بالعراق، مع انطلاقٍ جديدٍ لموجات تفجير ضد المقامات والمساجد والمزارات في البلد المنكوب.
وفي الصراع العربي/ الإيراني هدَّد رئيس مجلس الشورى بإيران بضرب القواعد الأميركية في الخليج، وردَّ عليه وزير الداخلية السعودي بأنّ الخليج لن يكونَ منصّةً لأحد لمهاجمة إيران، وفي الوقت نفسه لن نقبل أن يتحول الخليج والمشرق العربي إلى ساحةٍ للصراع بين الولايات المتحدة وإيران؛ مذكّراً بأنَّ لدى الإيرانيين مطلوبين من جانب السلطات السعودية ترفض تسليمهم منذ مدة. وما عاد أحدٌ للحديث عن الزيارة التي كان الأمير سعود الفيصل يعتزم القيام بها لإيران.
كما أنّ المشاورات السعودية-الإيرانية بشأن الوضع في لبنان تضاءلت وتيرتُها؛ في حين قالت مصر إنّ إيران تهدّد أمنَها الوطني بعد ما حدث في غزة. وفي وقائع الصراع العربي/ العربي انفجر الوضعُ بين تنظيم" فتح الإسلام" الآتي بسلاحه وعديده من سوريا وبين الجيش اللبناني وقوات الأمن اللبنانية. وقد أدَّى ذلك إلى سقوط المئات من الطرفين، وتخرُّب مخيم نهر البارد، وتهجير عشرات الأُلوف من اللاجئين الفلسطينيين.
وبعد اندلاع القتال بين الجيش ومسلَّحي "فتح الإسلام"، انتشرت التفجيرات في أماكن مختلفة من بيروت والجبل، وبلغت ذروتَها باغتيال النائب عن بيروت وليد عيدو، ومقتل عشرةٍ معه بينهم ابنه وإطلاق صورايخ من جنوب لبنان على الأراضي الفلسطينية المحتلة رغم وجود الجيش اللبناني والقوات الدولية هناك بعشرات الألوف. وقد قالت الأجهزة اللبنانية إنّ مسلَّحي "القيادة العامة" التابعة لسوريا هم الذين قاموا بذلك. ثم قامت "حماس"، التي تتجول قيادتُها السياسية بين دمشق وطهران، بغارةٍ صاعقةٍ في غزة على خصومها من "فتح" وأجهزة الأمن، فقُتل وسُحل كثيرون، وسيطرت "حماس" على غزة، مما دفع الرئيس الفلسطيني لإعلان حالة الطوارئ، وإقالة إسماعيل هنية، وتشكيل حكومة طوارئ من غير الحزبيين، برئاسة وزير المالية في الحكومة المُقالة: سلام فياّض.
قبل ثلاثة أشهر، ومع الإعلان عن بدء التفاوض بين الأميركيين والإيرانيين بشأن العراق، انتشرت بين المراقبين الرؤية القائلة إنّ التفاوض في الشهور المقبلة يمكن أن يتخذ إحدى صيغتين: الصيغة الباردة أو الهادئة التي ترمي إلى بناء الثقة بين الطرفين والتنازلات المتبادلة- أو الصيغة الساخنة أو الحامية، وتعني أنَّ كلاًّ منهما سينصب فِخاخاً وتفجيرات ويصنع معازل للآخر، حتى يصل ذاك الآخر في خريف العام إلى الطاولة لاهثاً متنازلاً. والواضح الآن أنّ إيران اختارت الصيغة الساخنة أو الحامية، ولذلك فقد أعرضت عن الاهتمام بكسب حسن ظنّ الأوروبيين، مستفيدةً من سوء التفاهُم الذي بدا بين الأميركيين والروس والأوروبيين بشأن الصواريخ من حول روسيا، وبشأن كوسوفو وصربيا.
ولذلك أيضاً عاد التحالف (الاستراتيجي) مع سوريا بعدما أُشيع عن اختلافٍ بينهما في الأَولويات والأساليب وبخاصةٍ في لبنان. ولذلك أيضاً وأيضاً خَفَت التواصُل بين سوريا ومصر، وبين سوريا والسعودية، وبدت سوريا بعد إقرار المحكمة مُصرَّةً على الضرب في لبنان.. وفي فلسطين، وبالاشتراك مع إيران تارةً، وبالانفراد تارةً أُخرى. وانطلاقاً من هذا المحيط المتفجر ما كانت إيران لتسمح بحلٍّ عربيٍ للأزمة اللبنانية (التي صارت شريكاً قوياً فيها بخاصةٍ بعد حرب تموز الماضي) بمعزلٍ عنها وعن سوريا. وهكذا تداخلت الصراعات الثلاثة وتنابذت في الوقت نفسه، وأقبلت الدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا على مساعدة الجيش اللبناني، والحكومة اللبنانية، والرئيس محمود عباس، ومحاولة تحويل غزة الحماسية إلى معزلٍ موبوء ومُحاصَر ليتخثر ويسقط!
إنّ هذا كلَّه لا يعني أنّ الصفقة بين الولايات المتحدة وإيران ما عادت ممكنة. كما أنّ ذلك لا يعني أنَّ الضربة الأميركية لإيران صارت محتمةً أو قريبة. لكنْ أياً يكن ما يحصل بين أميركا وإيران؛ فإنّ إيران أو سوريا لن تخسرا ذلك أنَّ نظاميهما ليسا مهدَّدين من الداخل، كما أنّ الاضطراب يحدث على غير أرضهما في العراق ولبنان وفلسطين. لكن هذا يعني من جهةٍ ثانيةٍ أنّ بؤر الاضطراب يمكن أن تتحول إلى حربٍ شاملةٍ تؤدي إلى خرابٍ كبيرٍ أو فوضى فظيعة. وفي هذه الحالة فقط تتضرر إيران وتتضرر سوريا؛ لكنْ ومرةً أخرى ليس بالدرجة التي يتضرر بها اللبنانيون والفلسطينيون والعراقيون.
لقد تخلَّى العربُ في السنتين الماضيتين وبخاصةٍ السعودية وبعض دول الخليج عن انكفائهم بعد وصول الخطر إلى الأبواب، واتبعوا سياسةً ودبلوماسيات نشطة حاولت أن تبقى مستقلةً بين الولايات المتحدة وإيران. وما كان يمكن لهم أن يفعلوا غير ذلك بعد ما حدث بالعراق. ولذلك -وباستثناء العراق- تحركوا باتجاه أميركا وباتجاه إيران وباتجاه سوريا.
وكانت وجهة نظر مصر دائماً وطوال السنوات الماضية أنه ليس من مصلحة العرب عزل سوريا أو إهمال همومها واهتماماتها. لكنّ هذا التواصُل ما غيَّر شيئاً في سياسات سوريا أو سياسات إيران حتى الآن. ومع حَدَث غزة واستمرار الاضطراب في لبنان، هناك ميلٌ من العرب الكبار إلى مُجافاة النظام السوري. ولستُ أدري هل سيفيد ذلك في لجم سوريا أو أنه سيُطلق يدها أكثر وفي لبنان وفلسطين. ذلك أنّ سوريا لا توثّق علاقاتها بإيران فقط؛ بل تعتمد على الغزل مع إسرائيل في تجنُّب عقابيل السخط الأميركي والأوروبي.
وإذا كان التشكك في فؤائد عزل سوريا جائزاً؛ فهو جائزٌ أكثر بشأن كيفيات التعامُل مع إيران. إذ لابدَّ أن تفهم إيران أنه ليس مسموحاً لها التلاعب بأمن لبنان وفلسطين.. والخليج أياً تكن العللُ والأسباب، وأنَّ الشراكةَ معها إنْ جازت فلا تجوز إلاّ في العراق باعتباره على حدودها. وفي هذا الملفّ بالذات اختارت إيران الحديثَ مع الولايات المتحدة وليس مع العرب. وهذا أمرٌ لا تُلامُ عليه إيران فقط؛ بل يُلامُ عليه الأميركيون، الذين تنكَّروا للعرب هناك، وشاركوا إيران التي انقلبت عليهم وعلى حساب خراب العراق وتهدُّد دولته وشعبه!
في ظلّ اندلاع الصراعات الدامية في المنطقة وتعاظُمها، يبدو الجميع على فوهة بركان، وتُحاولُ الأطراف الثلاثة: الولايات المتحدة، وإيران وسوريا أن تحرّك النيران خارج الحدود ومناطق النفوذ لكي تكسب أو تُزعج. بيد أنّ هذه النيران التي قد تُحرقُ يد مُطْلِقِها، تُحرقُ الآن بالتأكيد في العراق وفلسطين.. ولبنان. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.