سلام فياض.. من «حكومة الوحدة» إلى «رجُل الإجماع»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حسن ولد المختار
مع بلوغ حالة الاحتقان والتجاذب في علاقات الرئاسة الفلسطينية مع حكومة "حماس" ذروة غير مسبوقة من التصعيد، باندلاع أعمال العنف في غزة منتصف هذا الشهر، أصدر الرئيس محمود عباس "أبو مازن" قراراً عاجلاً قضى بإقالة الحكومة وحظر المجموعة المسلحة التابعة لـ"حماس" المعروفة بـ"القوة التنفيذية"، ولم يكن هذا التطور مفاجئاً، في نظر بعض المراقبين، بعد إقدام الحركة على تنفيذ سياسة "وضع اليد" على القطاع.
لكن عنصر المفاجأة لم يتأخر طويلاً في خطوات الرئاسة المتلاحقة، فقد أعلن الرئيس عباس في قرار لاحق عن تكليف وزير المالية في الحكومة المُقالة د. سلام فياض بتشكيل "حكومة طوارئ".
ووجه المفاجأة أن فياض لا ينتمي إلى حركة "فتح" التي يتزعمها عباس، ولا إلى منافستها "حماس" بزعامة رئيس الحكومة المُقالة إسماعيل هنية، ولا إلى أي فصيل كبير آخر. ولذا اعتبر كثير من المراقبين للشأن الداخلي الفلسطيني أن قرار اختياره كان ضربة معلم، عبرت عن حنكة سياسية كبيرة. فإذا كان الرئيس عباس أقال تشكيلاً وزارياً كان يحمل صفة "حكومة الوحدة الوطنية" فإنه لم يختر رئيس وزراء من أبناء حركته الأم، ما دامت هذه الحركة طرفاً مباشراً في الصراع الداخلي الحالي، كما أنه اختار سياسياً يراه كثيرون، في الداخل والخارج على السواء، رجل إجماع وطني، يمكن معه صعود الخيارات الوطنية على حساب الفصائلية. وقد اختار فياض بدوره، وهو التقنوقراطي المُستقل، تشكيلاً وزارياً لـ"حكومة الطوارئ" يغلب عليه من يشتركون معه في هاتين الصفتين.
لكن ما هي حظوظ "حكومة الطوارئ" من النجاح؟ وهل يستطيع سلام فياض التجديف بها إلى بر الأمان وسط مهددات كثيرة ليس أقلها خطر التفاعل مع استحقاقات ما وصل إليه التجاذب الداخلي بين أكبر فصيلين فلسطينيين من اختناقات لامست حدود الحرب الأهلية الحقيقية؟ ثم كيف يستجيب لاستحقاقات التجاذب الخارجي أيضاً ضمن مشهد إقليمي محتقن، ولا يبدو أن تصعيد أزماته يقف عند سقف، وخاصة أن الحلقة الفلسطينية فيه تبدو لكثيرين هي الأضعف، والأكثر قابلية وإغراءً للكسر والتطويع، وبالتالي يخشى البعض أن تصبح بؤرة لكسر الإرادات، ولالتقاء النيران غير الصديقة؟ وقبل هذا وذاك: من هو سلام فياض... الرجل والأعمال والأفكار؟
ولد سلام فياض سنة 1952 لأسرة فلسطينية تعود أصولها إلى بلدة دير الغصون قرب طولكرم، وأكمل دراسته الابتدائية في نابلس بشمال الضفة الغربية، لينتقل مع أسرته إلى الأردن حيث أتمّ تعليمه الثانوي، قبل أن ينال بكالوريوس في العلوم من الجامعة الأميركية ببيروت، ثم ماجستير فدكتوراه في الاقتصاد من جامعة "سانت إدواردز" في "أوستين" بتكساس.
وبدأ مشواره المهني بعدها بأعمال خاصة لفترة وجيزة في العاصمة الأردنية عمَّان، ليصبح بعد ذلك أستاذاً بجامعة اليرموك، قبل أن يعود إلى أميركا ثانيةً متفرغاً للبحث بجامعة تكساس، ثم مسؤولاً بالبنك الدولي في واشنطن خلال الفترة من 1987 إلى 1995. وفي هذه السنة الأخيرة عاد إلى الأراضي الفلسطينية ممثلاً لصندوق النقد الدولي، إلى سنة 2001، التي رئس في أواخرها إدارة البنك العربي الأردني في الضفة الغربية لفترة قصيرة. وفي سنة 2002 وقع اختيار الرئيس الراحل ياسر عرفات على فياض لحمل حقيبة وزارة المالية في الحكومة الفلسطينية، وهي حقيبة احتفظ بها في حكومة رئيس الوزراء أحمد قريع "أبو علاء" سنة 2005، في بدايات عهد الرئيس عباس، كما تولى الإشراف على صندوق الاستثمار الفلسطيني.
وظل في هذا الموقع الوزاري حتى أواخر العام، حيث استقال لأسباب اختلف ما سيق في تفسيرها من مبررات، من حديث عن خلافات في الرؤية للتسيير الاقتصادي الأنسب للمداخيل الفلسطينية بينه وبين أحمد قريع، إلى أنها محاولة استثمار للنجاح العملي دفعته للانصراف لتشكيل حزب سياسي خاص به. وفي هذه الفترة أسس فياض فعلاً كتلة سياسية مستقلة سماها حزب "الطريق الثالث" بمعية سياسيين آخرين أبرزهم النائبة والناشطة المعروفة حنان عشراوي. وقد تقدمت هذه الكتلة إلى الانتخابات التشريعية الأخيرة، يناير 2006، وفازت بمقعدين.
وعندما تم تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية في فبراير 2007 استُدعي فياض مجدداً باعتباره "مستقلاً" وأسندت إليه حقيبة وزارة المالية، وهي حقيبة أصبحت منذ اكتشفه "أبو عمار"، محجوزة سلفاً باسمه وباتفاق جميع الأطياف الفلسطينية والأطراف الدولية، هذا إذا استثنينا طبعاً تشكيلة حكومة إسماعيل هنية الأولى مطلع 2006. وطيلة أيام حكومة الوحدة الوطنية المعدودات كان فياض أيضاً بمثابة وزير خارجية أمر واقع -إن جاز التعبير- إلى جانب شغله وزارة المالية، وذلك في ضوء الحصار الغربي المفروض على وزراء "حماس"، ولأسباب دبلوماسية إجرائية ذات صلة بتعويم "حكومة الوحدة". وبصفة "وزير خارجية الأمر الواقع" هذه، كان هو من التقى الدبلوماسيين الأميركيين بعد تشكيل "حكومة الوحدة"، كما التقى وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في أبريل 2007، وإن كان ذلك تم بشكل غير رسمي، فقد كان عملياً أرفع اتصال سُجل بين "حكومة الوحدة" وإدارة بوش. كما بذل فياض جهوداً حثيثة لإقناع الاتحاد الأوروبي باستئناف المساعدات للسلطة الوطنية الفلسطينية.
وينظر إلى د. سلام فياض على نطاق واسع في العواصم الغربية والمنظمات الدولية والجهات المانحة، على أنه سياسي إصلاحي ومناهض بقوة لكل أشكال الفساد وسوء التسيير. كما ينظر إليه، على نطاق واسع، باعتباره ليبرالياً وتقنوقراطياً متمرساً وناجحاً وتوافقياً، وصاحب رؤى واجتهادات في التسيير والتدبير الاقتصادي، إلى حد كبير. وهي مهارات وتجارب لاشك أنه سيكون في أمسِّ الحاجة إلى استدعائها في حدودها القصوى اليوم بعد أن وصلت حدة الصراع الداخلي الفلسطيني حدودها القصوى الآن، إثر ما اعتبره البعض قراراً من "حماس" بتجريب "سياسة الأمر الواقع"، ورفعاً من "فتح" لـ"اللاءات" الثلاث، في تصعيد دراماتيكي ينتظر أن يتكرَّس طويلاً كصراع في الاستراتيجية أكثر منه في التفاصيل.
وإذ تلتئم قمة شرم الشيخ الرباعية التي يحضرها قادة كل من مصر والأردن وفلسطين، وإسرائيل، في ظروف غير خافية من الشد والجذب، فإن ما يعلقه عليها الجانب الفلسطيني بالذات من آمال لا يبدو في ضوئه أن صدور "دعم سياسي سخي" عنها، سيكون كافياً وحده، إن لم يقترن بدعم اقتصادي "سخي" أيضاً، هو وحده ما يفهمه تقنوقراطي كفياض، وأقله أن تفرج إسرائيل عن 700 مليون دولار تحتجزها من عائدات الضرائب للسلطة الفلسطينية، وأن تخفف من إجراءات المعابر والحواجز. وأيضاً أن تعود الدول المانحة لإرسال المساعدات. لأن كل ذلك سيكون مؤشراً كافياً على أن قوى دولية عظمى، وإقليمية مؤثرة، انتقلت بشكل ملموس، من الدعم بالأقوال إلى الدعم بالأفعال.