العرب الجيّدون
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
القدس والصراع على الهوية
سالم جبران
الناصرة
اشتهر الباحث اليهودي في معهد ترومان التابع للجامعة العبرية الدكتور هليل كوهن، بكتابه الاخير: "العرب الجيدون". هذا الكتاب الوثائقي، مستفيداً من وثائق المخابرات الإسرائيلية، يشرح بالتفصيل إقامة شبكة من "المتعاونين" بين العرب الفلسطينيين الذين ظلوا في أرضهم ولم يرحلوا، وأصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل.
المثقفون العرب، الذين يجيدون العبرية تهافتوا على الكتاب، ويقال إن أكثر نسخه العبرية اشتراها هؤلاء عرب ولا غرابة في ذلك. الكتاب لا يروي فقط وحشية الحكم العسكري وممارسات المخابرات من تنكيل وقمع وأساليب لمصادرة الأراضي، بل يضم أسماء مئات ممن كانوا أبطال المهمة القذرة، مهمة التعاون مع المحتل ضد شعبهم وقواه الوطنية ومقاومته العفوية.
وقد تمت ترجمة الكتاب إلى العربية وطبعه وانتشر انتشاراً واسعاً بالعربية، أيضاً.
يجب أن يقال إن كل مَن بإمكانه أن يصل إلى وثائق المخابرات ليس بالضرورة مخابراتياً. فبعد سنوات معينة بإمكان أي باحث أن يدخل إلى الدهاليز السرية المظلمة للمخابرات، وبإمكانه أن يقرأ عن الفظائع القذرة بعد أن تكون قد أصبحت تاريخاً!
الدكتور هليل كوهين نشر في الأسابيع الماضية كتاباً ليس أقل إثارة من كتاب "العرب الجيدون"، وهو وثيقة عن كل ما أصاب مدينة القدس العربية منذ احتلالها عام 1967.
اسم الكتاب: "ساحة السوق فارغة، صعود وسقوط القدس العربية 1967-2007". وهو صدر بالعبرية عن "معهد القدس للأبحاث الإسرائيلية" ويقع في 219 صفحة من القطع المتوسط.
يقول كوهين في المقدمة "إن ساحة السوق في المدينة مأخوذة من الميثولوجيا اليونانية القديمة حيث كانت ساحات المدينة تضج بالحياة، بل بكل حياة المدينة". ويضيف: "إن ساحات سوق المدينة، القدس العربية، فرغت تماماً من أية نشاطات وفاعليات أساسية".
يقول ميرون بنبنشي ("هآرتس"، ملحق الكتب 20/6/2007) "هذا الكتاب مذهل، انه يكشف كيف أن الإسرائيلي يضع على عينيه غطاء لكي لا يرى أكثر من ربع مليون إنسان، جيران يشاركونك المكان، والعمل ويجلسون بجانبك في الباص، ويمرون بقربك في الشارع، جيران أنت تجتهد لكي تنسى أنهم جيرانك ومعك في مدينة واحدة".
الكتاب يحلل بشكل دقيق جداً مجمل المخططات منذ حزيران 1967 لاقتلاع العرب من القدس، ولضم القدس الشرقية قسرياً إلى القدس الغربية، والإلحاق الكامل إدارياً واقتصادياً، وتغيير أسماء الشوارع، وشراء العمارات العربية الفلسطينية العريقة بواسطة سماسرة ومليونيريين- صهيونيين من الخارج.
كما يشرح الكتاب العملية المنظمة، المُحْكمة، العنيدة لضرب الكيان المستقل للقدس العربية وتعميق تبعيتها للقدس الغربية اقتصادياً وتجارياً. ومع أن إسرائيل تسمح للشبان العرب بالعمل في القدس الغربية وفي إسرائيل عموماً (لكي تقول إنهم مواطنون إسرائيليون وليسوا فلسطينيين مثل أهل الضفة) إلاّ أن العمال العرب الفلسطينيين في القدس الغربية أشبه ما يكونون بالزنوج في المدن الاميركية في القرن الماضي.
تدخل إلى مطعم يهودي رائع جداً، فتجد أن كل العاملين والعاملات مع الزبائن هم من اليهود، وإذا تقدمت قليلاً إلى الباب الموصل إلى المطبخ تجد أن الزنوج الجدد، الفلسطينيين، هم كل عمال المطعم، يأخذون معاشات هزيلة، ولهذا السبب فإن الرأسماليين اليهود في القدس "يحبون تشغيل العرب"!!
يقول الكاتب "إن الصراع المهم في القدس ليس الصراع المسلح وإنما الصراع على الهوية العربية للمدينة". والكتاب مليء بالقصص والتفاصيل المذهلة التي تدل دلالة واضحة على أن المقدسيين العريقين، الضاربة جذورهم في تاريخ المدينة خلال مئات السنين، لم يستسلموا، ولم يتدجنوا، ولم يرضخوا للأمر الواقع وهم حساسون جداً في التأكيد دائماً أنهم من "القدس العربية" ولم يكونوا يوماً ولن يكونوا سكان القدس الموحدة، والهوية الإسرائيلية المفروضة هي "ورقة" للمعاملات، وليست هوية حقيقية ولا صلة لها بالمشاعر والوجدان والانتماء والتاريخ.
ويعترف الكاتب، أيضاً، أن اسرائيل بعد أن احتلت القدس العربية الشرقية سعت من ناحية لتسريب مستوطنين صهاينة إلى المدينة المقدسية العربية، كما سعت إلى ضم "مساحات واسعة بما فيها قرى عربية كاملة وأقسام من قرى لم تكن في الحقيقة جزءاً من القدس أيام الانتداب البريطاني وأيام الحكم الأردني.
إسرائيل أرادت توسيع رقعة القدس الموحدة، أكثر ما يمكن وأسرع ما يمكن لجعل المدينة كبيرة جداً ولاستخدام الأراضي العربية الفلسطينية الواسعة التي تم ضمها للاستيطان اليهودي. والحقيقة أن القدس العربية التاريخية جرت محاصرتها من الشمال والجنوب ومن الشرق بينما في الناحية الغربية القدس الإسرائيلية. الكاتب يقول بشجاعة نادرة: "هناك تعبير مميز للتوجه الكولونيالي الذي يفرض على السكان الأصليين، أبناء المكان الأصليين، الهوية، طبقاً لمصالح الحاكم المحتل". لذلك رأينا النظام الإسرائيلي يضم مناطق واسعة إلى القدس ويُخْرج مناطق من نفوذ القدس، طبقاً لغاياته الديموغرافية وعملياً غاياته العنصرية الساعية الى تهويد القدس العربية، أيضاً، ولذلك يقول الكاتب إن النظام الإسرائيلي أعاد صياغة مَن هو مقدسي عربي ومَن لا، طبقاً لمصالح غريبة وعنصرية بدون أخذ رأي السكان أهل المدينة. ويقول المؤلف بصراحة كاملة إن الهدف الاستراتيجي للتخطيط الصهيوني في القدس "أن يتحول الفلسطينيون في المدينة إلى أقلية هامشية".
مع كل هذه المخططات والمشاريع الصهيونية الشرسة، التي يتم تنفيذها بدون استشارة السكان الأصليين فإن الكاتب يعترف ان "الصراع على القدس الشرقية، على القدس كما عرفها الفلسطينيون وعاشوا فيها لم ينته بعد" (ص 192). ويقول: "إن إسرائيل عززت سيطرتها الكاملة في القدس" ومع هذا يعترف أن "هناك قلقاً عميقا في إسرائيل وفي بلدية القدس (اليهودية)، وأن هناك خطراً أن تفقد إسرائيل السيطرة على القدس. ويقول الكاتب إن عرب القدس ليسوا ممثلين في بلديتها، بل هم تحت الاحتلال، وقلق المؤسسة الإسرائيلية هو من تصاعد النشاط "لتوطيد الهوية العربية الفلسطينية" للمحافظة على الأماكن التاريخية المسيحية والإسلامية، وللمحافظة على عمارات عريقة تعليمية وثقافية ودينية كان لها شأن في تشكل الهوية العربية الفلسطينية.
ويقول الكاتب في نهاية الكتاب: "إن الجولة الأولى في القدس لم تنتهِ بانتصار إسرائيل ولا بنقاط لمصلحة إسرائيل، بل بالتعادل".
ويقول ميرون بنبنشي تعليقاً على هذا الكتاب المثير: "إن مَن يعتقد بأن لديه حلاً لمشكلة القدس هو نفسه لا يعرف كم المشكلة معقدة"!
بقي أن أقول كفلسطيني يزور القدس، يتجول في حاراتها وشوارعها ويلتقي أهلها، ويحاضر في نواديها: لا، إن ساحات القدس ليست فارغة. إن البطولة - العجيبة التي اجترحها أهلنا في القدس وفي الضفة الغربية عموماً، هو البقاء، والتمسك بالتراب الوطني، إن أول الفرج وأساس الفرج هو البقاء في الأرض الوطنية، وهذا ما فعله ويفعله يومياً أهلنا الأبطال في القدس، "زهرة المدائن" وقلب فلسطين