خطر «القبرصة» يهدد مستقبل لبنان وفلسطين!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سليم نصّار
قبل أن يغادر توني بلير، مقر رئاسة الوزارة البريطانية، استقبل السناتور الأميركي السابق جورج ميتشيل لمدة ساعة تقريباً شكره خلالها على جهوده التي أنهت ربع قرن من الاقتتال بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية.
وبما أن ميتشيل تولى سنة 2000 مهمة رئاسة لجنة تقصي الحقائق بين الفلسطينيين والاسرائيليين، فقد نصح بلير بضرورة ممارسة دور محايد كمدخل لأي حل.
وترى الصحف البريطانية أن زعيم حزب العمال السابق ليس مهتماً بقضية الشرق الأوسط قدر اهتمامه بملء الفراغ السياسي الذي سيحدثه ابتعاده عن الحكم. لذلك رشحه صديقه وحليفه في حرب العراق الرئيس جورج بوش لرئاسة اللجنة الرباعية لعله يساعده على اقناع الاسرائيليين بأهمية تنفيذ مشروعه لسلام قائم على إنشاء دولتين.
يتوقع المراقبون أن تكون مهمة توني بلير استعراضية بدليل أن غزة أصبحت تابعة لسورية وايران من حيث العمل السياسي، ولو أن الرئيس حسني مبارك تمنى عقد مصالحة بين "حماس" و "فتح" عبر الحوار. ولكن لبنان خبر تجربة حوار المختلفين الى حين قطعت طهران محادثاتها مع الغرب، فإذا بطاولة الحوار اللبناني - اللبناني تفرغ من ممثلي 14 آذار و8 آذار. وقد يقترح بلير تكرار هذا الاختبار بين اسماعيل هنية ومحمود عباس بهدف ردم هوة الخلافات بين طرفين تفصل بينهما المعتقدات السياسية والفكرية.
صحيح ان هنية أعرب عن رغبته في مد جسور الحوار والتفاهم، ولكنه من الصعب ترجمة رغبته عملياً إذا لم يتخل عن نهجه المتشدد وعن مرجعياته في دمشق وطهران. وهو احتمال صعب التحقيق لأن حربه المفتوحة ضد اسرائيل قد تؤلب أنصار "فتح - الانتفاضة" ضد قيادة رام الله المتعاونة مع حكومة اولمرت. ومعنى هذا ان شرعية عباس - فياض ستتعرض للانتهاك من قبل الفصائل المعارضة لأي حل يمنع وحدة الشعب الواحد.
القيادة الفتحوية في رام الله تتخوف من تأخير عملية الدمج لأن ذلك يحقق رغبة اسرائيل في انفصال القطاع على نحو يصعب معه إنشاء دولة قابلة للحياة. وهي ترى ان ما سيحدث في لبنان سيؤثر على مستقبل غزة لأن "مايسترو" التغيير في الموقعين هو واحد. من هنا القول إن احتمال قيام حكومة ثانية في لبنان سيؤدي الى تقسيم البلاد سياسياً وإدارياً ومالياً. خصوصاً ان تجربة الحكومتين في عهد أمين الجميل، لن تتكرر بسبب عجز البنك المركزي عن إدارة الوضع المالي.
على رغم الايحاءات الجدية التي يرسلها الرئيس اميل لحود حول تصميمه على إنشاء حكومة "شرعية" ثانية، فإن فؤاد السنيورة يستبعد قيامها. والسبب أنه لا يتصور أن رئيس البلاد والمقسم على حماية وحدتها وسيادتها، يجرؤ على القيام بمغامرة قد تقود الى تحقيق ما عجز هنري كيسنجر على تحقيقه في حرب 1975 - 1990. أي تقسيم الوطن الصغير كما فعل في قبرص، ويعارضه في هذا التصور عدد كبير من السياسيين الذين يراهنون على انتقال صيغة الحكومتين الى صيغة الدولتين. وهذا بالطبع يستدعي افتعال عمليات عنف وتهجير وفرز سكاني، تماماً مثلما حدث خلال الحرب الأخيرة في بيروت والجبل وعكار. أو مثلما حصل في قبرص ولو أن الجالية المارونية (5 آلاف) بقيت تحت سلطة الأتراك في الجزء الشمالي من الجزيرة.
مدير "مجموعة الأزمات الدولية" روبرت مالي كتب في صحيفة "لوموند" مقالة، عزا فيها أحداث لبنان الأخيرة الى ردود فعل سورية تجاه قرار مجلس الأمن إنشاء المحكمة الدولية. وقد حذر من تنامي الأخطار لأن دمشق في رأيه، لم تستنفد قدرتها كلها في زعزعة الاستقرار اللبناني. ولمح الى امكانية زيادة ضغطها على حكومة السنيورة اذا ما فرضت عليها العزلة السياسية. وبما ان تأثيرها العملي على مجريات الأمور يفوق ما لدى اميركا وفرنسا، فإن الكاتب، ينصح بالكف عن تعقيد الوضع لأن النظام السوري يرى في تحالفه مع "حزب الله" و "حماس" وايران أوراقاً رابحة يستخدمها من أجل حماية مصالحه الاقليمية.
خبراء الأمم المتحدة لا يرون في السيناريوهات المطبقة في لبنان وغزة، خروجاً على مظاهر الانهيار والتفتت التي انتعشت في العراق وافغانستان والسودان واريتريا. وهم ينحون باللائمة على الولايات المتحدة لأن حربها الطويلة في افغانستان والعراق عزّزت التيارات الأصولية المتطرفة. كما كشفت بالتالي عن عجز قدرتها العسكرية وقيمها المعنوية على التغلغل في تربة ثقافية ودينية معادية لها.
والحق أن التاريخ الحديث لم يعرف منذ الحرب العالمية الثانية، تراكماً للأزمات على هذا المستوى من الخطر، فمن كوريا الشمالية الى الهند وباكستان، مروراً بايران واسرائيل، من دون أن ننسى العراق ودارفور وحروباً أخرى لم تتوقف في البلقان والقوقاز. والأسوأ من هذا، فإن القوى العظمى التي ضبطت إيقاع السلام منذ سنة 1945 تبدو اليوم عاجزة عن التحكم بالفوضى المستشرية. فمن أمم متحدة لا يحترم أحد قراراتها... الى حلف أطلسي يتساءل عن علة وجوده. ومن اتحاد أوروبي متعثر منذ أزمته الدستورية... الى حرب ضد الإرهاب بدأت في افغانستان والعراق ثم امتدت الى كل مناطق العالم.
في ضوء هذه الحقائق، يعرب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون عن قلقه من احتمال انفجار الوضع في جنوب لبنان بطريقة تفرض على اسرائيل التدخل من أجل حماية أمنها. وهي تهدد بتدمير ما تبقى من بنية تحتية كالمطار والمنشآت الكبرى، إذا عجزت الدولة اللبنانية وقوات اليونيفيل عن حماية حدودها.
أجهزة الأمن اللبنانية ضاعفت الحراسة على منازل بعض الشخصيات عقب تلقيها معلومات تشير الى احتمال حدوث سلسلة اغتيالات في العاصمة والجبل. كما ضاعفت الدول المعنية رقابتها لقوات حفظ السلام خوفاً من تكرار التفجير الذي هدد سلامة الكتيبة الاسبانية. ولكن تعزيز الحراسة لا يمنع عناصر "القاعدة" من التسلل عبر الحدود أو الخروج من المخيمات إذا ما أعطيت لها الأوامر بافتعال أحداث شبيهة بأحداث نهر البارد. ويرى المراقبون أن جولات العنف لن تقتصر على لبنان فقط، وانما ستشمل المنطقة كلها، حسبما وعد أيمن الظواهري ومحمد خليل الحكايمة. ومن الثابت ان المواقف المنحازة التي تعتمدها واشنطن تجاه اسرائيل، اضافة الى الحربين المشتعلتين في افغانستان والعراق، قد أججت الأحداث بشكل عزز مكانة الاسلام السياسي في المنطقة.
يقول بعض مؤرخي هذه الفترة العصيبة انه من الصعب فصل الحال اللبنانية عما يجري في الشرق الأوسط. وهم يتوقعون استمرارها لغاية سنة 2010 ريثما تنتهي عملية التغيير والصياغة للمرحلة الرابعة. ذلك ان المرحلة الأولى تميزت بالارتجاج السياسي عقب حرب 1948 وبمواجهة التحديات عبر أنظمة تقليدية حكمت بعقلية ورثة الذهنية التركية والاستعمار البريطاني - الفرنسي.
أما المرحلة التاريخية الثانية فقد ولدت من رحم حرب 1948، ومن الهزيمة الأولى أمام اسرائيل. وتميزت بظهور الانقلابات العسكرية في سورية ومصر والعراق وليبيا والسودان. كما تميزت بإزالة النخب السياسية التقليدية في هذه البلدان. وبرز اسم عبد الناصر كبطل للقومية العربية، وكممهد لتغلغل نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة.
عقب هزيمة 1967 بهتت صورة عبد الناصر، وتألقت وجوه أخرى من أمثال حافظ الاسد وصدام حسين. وقد تميزت المرحلة التاريخية الثالثة بتعميق أنظمة المخابرات وأجهزة الأمن، الأمر الذي ساعد على تراجع حكم الأكثرية أمام حكم الأقلية. ولوحظ ان شعارات القومية العربية بدأت تلفظ أنفاسها خلال تلك المرحلة الانتقالية التي أفرزت الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وعدداً كبيراً من زعماء الطوائف.
بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، بدأت تتكون معالم المرحلة الرابعة. وهي مرحلة تميزت بظهور العولمة الاعلامية والاقتصادية وانتشار الاسلام الأصولي، وبإعادة انتاج قوى عالمية منافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا الجديدة والهند وايران.
في ضوء ما تقدم تبدو المرحلة الرابعة وكأنها تؤسس لبناء دول هي وليدة تغييرات اجتماعية وسياسية أهمها العراق ولبنان وفلسطين. ويتخوف العرب من تعرض العراق لتفكك محافظاته بحيث يتحول الى ثلاث دويلات عرقية وطائفية، لا بد وان تنتقل تداعياتها الى لبنان والدولة الفلسطينية المزمع انشاؤها. ويقدر المراقبون ان استكمال الضغط الأمني والاقتصادي على لبنان سيفجر أزمته الداخلية بطريقة تمنع أي ترميم في علاقات الفريقين المختلفين. كما وأن استمرار انفصال غزة عن الضفة ولو لمدة سنة، سيحول دون عودتها الى فضاء السلطة الفلسطينية.
والى ان تتكون ملامح تلك المرحلة، سيبقى مستقبل العراق ولبنان وفلسطين، في مهب الريح!