شخصية لبنان وطموحات حزب الله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جهاد فاضل
استنتج اللبنانيون استنتاجات كثيرة من مقال كتبه الأمين العام المساعد لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 8 يونيو الفائت تحت عنوان: كيف ينخرط باقي المجتمع في المقاومة ؟ فقد قال بعضهم إن حزب الله هو الذي يقرر، وما علي الآخرين سوي الإذعان. فحزب الله، عبر تصريحات مواقف بلا حصر في الأشهر الأخيرة، هو الذي يريد أن يختار للمسيحيين رئيس الجمهورية المقبل.
وهو الذي يريد أن يعين للسنة رئيس الحكومة. ويريد أن يكون له رأي مسموع في تعيين الوزراء، لا من طائفته وحدها، بل من كل الطوائف. وهو الذي يرسم في السياسة اللبنانية الخطوط الحمر التي لا يجوز لأحد أن يتجاوزها.
وها هو الشيخ نعيم قاسم لا يكتفي بمجرد دعوة أبناء الطوائف اللبنانية الأخري، من غير الشيعة، إلي الانضمام إلي المقاومة، بل يقدم لهم دليل هذا الانخراط، وذلك علي سبيل تسهيله، وكأن انخراط باقي المجتمع اللبناني في المقاومة قد تقرر وانتهي أمره. ومقال الشيخ لا يهدف إلا إلي تقديم بعض المساعدات النظرية والإجرائية لا غير، لا استناداً إلي العنوان وحده، بل إلي المقال برمته.
وتساءل آخرون: كيف يصل حزب الله إلي الاقتناع بدعوة اللبنانيين إلي الانخراط في المقاومة، وهو يعلم أن أحداً من غير أبناء الطائفة الشيعية لم ينخرط يوماً في هذه المقاومة، وأن من غير المعقول، في ظل الانقسام اللبناني الحالي، أن يستجيب أحد من أبناء الطوائف الأخري لهذه الدعوة. فالمقاومة، كما هو معروف، هي مقاومة حزب الله لا غير.
وحزب الله حزب شيعي مرتبط ارتباطاً عضوياً وتنظيمياً وعسكرياً بإيران. فهل يمكن لأحد أن يتصور أن مارونياً أو سنياً أو درزياً سيترك ربعه لينخرط في مقاومة حزب الله؟ وقبل كل شيء، هل فتح حزب الله يوماً أبوابه لاستقبال غير الشيعة. وما هي الاغراءات التي سيقدمها حزب الله لباقي المجتمع إذا أقبل علي الانخراط في المقاومة؟
يُفهم من مقال الشيخ نعيم قاسم بكل وضوح أن المقاومة في لبنان ليست ظرفية، أو مرحلية تنتهي بتحرير الكيلومترات العشرة المربعة التي يُطلق عليها مزارع شبعا، وإنما هي مستمرة إلي أجيال وأجيال. فإسرائيل شر عظيم ينبغي استئصاله، وخطر توسعي لن يكتفي بفلسطين، وإنما يمتد إلي العالم العربي والإسلامي، بل إلي العالم. وأمريكا خطر استعماري طويل المدي. ومجلس الأمن ألغي وظيفته في السلام العالمي وأصبح موظفاً للسلام الإسرائيلي. معني ذلك أننا أمام مصيبة دولية حقيقية علي مستوي الإنسانية. كيف نواجه هذا الاحتلال؟ نواجهه بالمقاومة، بكل أنواع المقاومة، وعلي رأسها المقاومة العسكرية!
لا يلتفت الشيخ نعيم قاسم عندما يقرر ذلك لا إلي شخصية لبنان ولا إلي ظروفه الموضوعية. يلتفت فقط إلي ظروفه الخاصة، أو إلي ظروف حزبه، ولا نقول طائفته لأن الكثيرين من أبناء طائفته لا يرون رأيه. ينطلق الشيخ من كون حزبه جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية، ومن كون مقاومته جزءاً من الحرس الثوري الإيراني في المواجهة المفتوحة منذ سنوات بين إيران وأمريكا. هذه المقاومة تغلب مصالح إيران علي مصالح أية دولة أخري، سواء كان اسمها لبنان أو سواه، وتريد أن تسخر كل شيء لإيصال المفاعل النووي الإيراني إلي حيث يجب أن يصل. ولا يخفي علي أحد أن ما يربط حزب الله، أو المقاومة في لبنان، بإيران وسياساتها الطموحة، هو الرابط الديني أو المذهبي لا سواه.
ومن مقتضيات هذا الرابط انكفاء صاحبه عن العالم الخارجي، وعن العصر والحضارة الحديثة، والاكتفاء بعلاقة واحدة هي العلاقة مع إيران وباقي محورها. وهذا ما يرفضه اللبنانيون الآخرون عن بكرة أبيهم، إذ يري هؤلاء أن المقاومة ليست سوي أداة بيد إيران، وأن لبنان قد تحرر فعلاً في عام 2000 ولم يعد من سبب مقنع لاستمرار المقاومة سوي خدمة المصالح الإيرانية. فكيف يمكن أن تتسع طموحات حزب الله،أو سوء تقديره، علي الأصح، إلي حد دعوة باقي المجتمع في لبنان للانخراط في المقاومة، و باقي المجتمع هذا يضيق ذرعاً أو أصلاً بهذه المقاومة، ويريد لها أن تنتهي بعد أن أدت مهمتها في السابق علي أفضل وجه، وكان يفترض أن تحل نفسها كما تحل أية مقاومة نفسها بعد أن تنجز مهمتها؟ ألم يحل ديغول وموريس توربز المقاومة الفرنسية بعد الانتصار علي النازي؟
حزب الله لا يريد أن يتخلي عن سلاحه. فهو يندب نفسه لمهمات لا آجال لها. ألم يصرح الشيخ نعيم قاسم نفسه بعد تحرير الجنوب قبل عدة سنوات أن المقاومة مستمرة؟ وعندما قيل له: وكيف؟ ألم يتحرر الجنوب؟ قال: نعم، ولكن لدينا مهمات أخري. الجولان لم يتحرر بعد، والقدس لاتزال بيد الصهاينة!
مثل هذا المنطق يجافي أول ما يجافي شخصية البلد الذي ننتمي إليه جميعاً، قبل أي وطن آخر، وهو لبنان. لبنان بلد مكون من طوائف عديدة ليست الطائفة الشيعية سوي واحدة منها لا أكثر ولا أقل. ولا تستطيع أية طائفة من هذه الطوائف بمفردها أن ترسم مصيراً للبنان بمعزل عن الطوائف الأخري. وقد رأينا في الصيف الماضي كيف ورط حزب الله لبنان في حرب مع إسرائيل لم يكن لا لهذه الطوائف، ولا للدولة اللبنانية نفسها، أدني رأي فيها.
وعندما يدعو أحد قادة حزب الله باقي المجتمع اللبناني إلي الانخراط في المقاومة، بعد كل ما جري، وبخاصة بعد ما جري في الصيف الماضي، فمعني ذلك أن حزب الله، ومن ورائه إيران، مازال مصراً علي النظر إلي لبنان علي أنه مجرد منصة لاطلاق الصواريخ علي إسرائيل، وعلي أنه الأرض المثلي لهزيمة أمريكا، علي حد ما صرح به مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي، قبل سنة لا أكثر!
ليس اللبنانيون الآخرون الذين لا يرون رأي حزب الله، والذين لن ينخرطوا أبداً في صفوف المقاومة، عملاء لإسرائيل أو لأمريكا. هؤلاء اللبنانيون أمناء لشخصية بلدهم وخصائصه، وعارفون جيداً بظروفه وامكاناته وقدراته.
لبنان بنظرهم، وبنظر كل ذي حس سليم، بلد طوائف تبلغ ثماني عشرة طائفة، من الطبيعي أن تكون لها مذاهب ومشارب مختلفة، ولكنها شديدة الحساسية إزاء أي مس بعقائدها الدينية. وإزاء سعي أية طائفة للاستئثار وحدها بالقرار الوطني المصيري، وبخاصة قرار الحرب والسلم.
وهذه الطوائف لا تفهم من دعوة حزب الله لها للانخراط في المقاومة سوي دعوتها إلي التشيع، سواء التشيع الديني أو السياسي، ولا فرق في الواقع بينهما. فطالما أن القرار اللبناني سيكون بيد الطائفة الشيعية دون سواها، فهذا يعني أن لبنان بات بلداً ذا وجه شيعي، وأن الآخرين سيتحولون مع الوقت إلي نوع من أرمن أو يهود إيران.
وهذا يتناقض لا مع الميثاق الوطني، أو مع ميثاق الطائف، أو مع الدستور اللبناني والقوانين المرعية، بل مع شخصية لبنان وخصائصه وتركيبته كبلد متعدد الطوائف، رافض بطبيعته لما يمكن أن يُسمي بالطائفة القائدة، أو بالحزب القائد.
لقد ناء لبنان في تاريخه الحديث بالامتيازات التي أعطاها الانتداب الفرنسي للطائفة المارونية قبل رحيله عام 1943 . فهل يمكن بعد زوال هذه الامتيازات، أن تعود الحياة السياسية اللبنانية اليوم إلي مثيلها؟
الطوائف اللبنانية الباقية مصرة بالطبع علي عقائدها الدينية، ومصرة بنفس المقدار علي قيم لبنانية أساسية مزروعة في صميم بلدها هي التعددية والتنوع واحترام الآخر. وهي مصرة قبل كل شيء علي أن يكون للبنان، كسائر الدول، دولة، وعلي أن تحتكر هذه الدولة وحدها السلاح، وعلي أن ينخرط حزب الله، ومعه الطائفة الشيعية، في بناء هذه الدولة، لا أن ينخرط باقي المجتمع في المقاومة. فالمقاومة أدت مهمتها علي أفضل وجه، وكل اللبنانيين ينتظرون منها أن تقول وداعاً للسلاح، لا أن يدعوهم حزب الله إلي الانخراط في صفوفها.
شبع اللبنانيون من القتلي كما شبعوا من الشهداء، لقد أدوا ما يتوجب عليهم للعلا والوطن أكثر بالتأكيد مما أدي الآخرون. وبلادهم في الأساس أرض جمال وصلاة وتأمل لا أرض دم وقتل وارهاب.
ولا أعتقد أن الأم الشيعية التي ربت أبناءها ورعتهم أفضل رعاية حتي تخرجوا من المدارس والجامعات، تختلف عن الأم المسيحية أو السنية أو الدرزية من حيث الرغبة في أن يكون لهؤلاء الأبناء مستقبل زاهر في وطنها. كل أم لبنانية، شيعية أو غير شيعية، تريد الحياة لأبنائها، لا الموت، وتريد أن يظل هؤلاء الأبناء قربها، لا أن يغادروا للعمل في الخارج. فكيف أن يكون الخارج هو خارج الحياة كلها؟
لا ينبغي أن تكون مستلزمات الانتماء إلي المذهب، أي مذهب، ولا مستلزمات الطاعة لفقيه من فقهائه، أياً كان هذا الفقيه، أعلي قدراً من مستلزمات الانتماء إلي الوطن. لبنان بلد جميل يستحق ولاء جميع أبنائه وطوائفه.
ويقظة الوجدان الوطني، والإصغاء إلي نداء العقل، شعاران جديران بأن ينفذا إلي قلب كل لبناني، وبأن يعرفا طريقهما إلي الواقع. نحن من أمة يدعو تراثها الديني المؤمنين إلي كلمة سواء. انطلاقاً من كل ذلك، واستناداً إلي كلمة السواء هذه، نري أن مطاوعة شخصية لبنان وخصائصه وظروفه تمثل المشروع الوطني الأمثل الذي يجدر بجميع طوائف لبنان الانخراط فيه، لا أي مشروع انتحاري آخر يجفوه العقل والوجدان!.