موارنة لبنان: ارتباك.. فانقسام .. فانتحار!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
إياد أبو شقرا
تقول إحدى الحكم إنه إذا أخطأ المرء أول مرة من حقه لوم الخصوم، وإذا أخطأ ثانية يجوز له لوم الظروف.. لكنه إذا أخطأ للمرة الثالثة فما عليه إلا لوم نفسه.
البطريركية المارونية ومجلس المطارنة الموارنة في لبنان اتخذوا من مقر البطريركية في بكركي عدة مواقف خلال السنتين الفائتتين بدت سلبية التصور أو التوقيت مع أن لكل منها مبرّره الوجيه لو أخذ بمعزل عن غيره.
فعند تفجّر "انتفاضة الاستقلال" دعا بعض أركانها للزحف على قصر الرئاسة في بعبدا لفرض تنحي الرئيس.. لكن بكركي عارضت "مبدأ إسقاط رئيس الجمهورية في الشارع". وفوراً احترم "الاستقلاليون" رغبتها وتفهّموا مخاوف مؤسسة دينية تدافع عن حقها في الاحتفاظ بهيبة أعلى منصب في الدولة، مع أن هذا الدفاع ضرب قوة دفع "الانتفاضة" وسمح لحلفاء بعبدا داخل لبنان وخارجه بالتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف وبدء الهجوم المضاد المستمر حتى هذه اللحظة.
وفي مطلع العام الحالي، خلال أسابيع من بدء المعارضة "الحزب اللّهية" وتوابعها المسيحية اعتصامها في قلب بيروت.. ومن ثَم قرارها تصعيد تحركها لشل الحياة العامة، ارتبكت بكركي قبيل يوم التحرك المقرر في 23 يناير (كانون الثاني) فوزّعت اللوم في الأزمة السياسية بالتساوي بين الحكومة والمعارضة مما فسّره التوابع المسيحيون كـ"التيار العوني" على أنه إذن لهم بالتصعيد. وكان ما كان خلال ذلك اليوم الأسود، وما تلاه على امتداد 48 ساعة من تطوّرات كادت تحدث فتنة طائفية كبرى.
ثم بعد فترة قصيرة، خرج موقف ثالث من بكركي مؤداه أن لا ضرورة لإقرار المحكمة ذات الطابع الدولي للنظر بجريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.. وهو بالضبط المطلب الذي كانت ترفعه المعارضة.
ومع أنه صدرت عن بكركي والمطارنة، في تلك الآونة، مواقف أخرى تدعم مبادئ "انتفاضة الاستقلال"، كمناشدة رئيس الجمهورية بالتنحي، ظل الجو العام جو ارتباك ملؤه رسائل متناقضة توجه إلى اللبنانيين عموماً.. وللمسيحيين بصفة خاصة.
غير أن تطوّرات الأسابيع القليلة الماضية كانت لافتة ومؤسفة جداً.
فخلال برنامج تلفزيوني مع أحد المطارنة البارزين سياسياً اتهم المطران أهل السلطة ـ في تلميح إلى الحكومة الحالية ـ بـ"أسلمة لبنان"، وحَمَل على "إهمالها مشاعر المسيحيين والاستخفاف بمقدّساتهم" عبر إلغائها إجازة يوم "الجمعة العظيمة". وعلى الأثر هبّ "العونيون" لاستغلال الموضوع بصورة مخجلة، قبل أن يتبين أن اقتراح إلغاء إجازة ذلك اليوم طرح وأقر في مجلس وزراء سابق لاستقالة وزراء حزب الله وحركة "أمل"، وجاء من حليفهم (حتى في الاستقالة) الوزير المسيحي الأرثوذكسي يعقوب الصراف.
ومع أن الحكومة سارعت إلى إلغاء الإلغاء تأكيداً لحسن نيتها، فإنها كوفئت بطعنة ثانية في بيان مجلس المطارنة الأخير. إذ تضمّن البيان جملة مآخذ تحذّر من "أسلمة" لبنان انطلاقاً من طرح الحكومة مشروع قانون حقوق الطفل في الإسلام، بجانب موضوع شراء الأراضي ونقص المجندين المسيحيين في القوى الأمنية. ومجدداً استغل تيار عون هذا الكلام ليهاجم "ضعف" التمثيل المسيحي في الحكومة. كما تطوعت إحدى الصحف المؤيدة للمعارضة بإجراء مقابلة مع المطران الذي كان قد فجّر موضوع "الجمعة العظيمة".. وطبعاً كرّر في المقابلة اتهامه الحكومة بـ"أسلمة" البلد!
لا غرابة في استغلال عون المواقف الأخيرة التي قد تمثل، أو لا تمثل، أجواء البطريركية المارونية. فالرجل محرج في الشارع الذي ربّاه على التطرف والعداء لـ"الآخرين" قبل أن ينقلب 180 درجة على خطابه التحريضي. ومن الطبيعي جداً أن يحاول في حمأة العد التنازلي لمعركة رئاسة الجمهورية التزيي بزي الكهنوتي المقاتل ضد "سلب" المسلمين امتيازات المسيحيين.
وفي المقابل من حق حزب الله استخدام كل الأسلحة المتاحة في حربه الطائفية والسياسية الضروس ضد الحكومة، بما فيها توفير الرعاية المالية والأمنية لجميع "أدواته" و"عملائه" داخل طوائفهم وعلى مختلف المستويات. ولا شك، أن الحزب يستحق التهنئة على نجاحه الكبير في احتضان رئيس الجمهورية ودعمه، ابتداء من تجييش وفود المخاتير والنواطير وتلامذة المدارس لزيارة قصر بعبدا، وانتهاء بالدفاع عن "صلاحيات الرئاسة الأولى".. وهي صلاحيات وقعت الشيعية السياسية فجأة في غرامها!
ولكن المؤسف أن ما يحدث أشد خطراً على المسيحيين من هواجس المطارنة.
فهناك اختلال موازين غريب بين تعمد إثارة القضايا التفصيلية الصغيرة وتضخيمها ـ كما حدث أخيراً ـ .. وبين الأبعاد المصيرية للصراع الراهن بين فريقي "14 آذار" و"8 آذار" وتداعياته المحلية والدينية والإقليمية. فموضوع "الجمعة العظيمة" حسم وفق رغبة بكركي بسرعة، وموضوع "حقوق الطفل في الإسلام" لن يبتّ فيه قبل أن ينظره مجلس النواب. في حين أن تعطيل المؤسسات الدستورية ـ ومنها رئاسة الجمهورية ـ، واستمرار وجود السلاح وبقاء قرار الحرب والسلم في غير أيدي الدولة، هما العنصران الأشد تهديداً لبقاء لبنان وسيادته.
ومن جهة ثانية، "إحراق" مسيحيي "14 آذار" خدمةً لعون لن يزج فقط بالمجتمع المسيحي في أحقاد هو بغنى عنها، بل ينزلق أيضاً بالمسيحيين إلى قلب ساحة الاستقطاب المذهبي الإسلامي ـ الإسلامي، ويضعهم في خندق تحالف "حزب الله ـ أمل" ضد أغلبية المسلمين السنّة التي لولاها لما تحققت "انتفاضة الاستقلال".
إن المطارنة الأجلاء أحرار في كره الحكومة الحالية أو حبها، لكنهم إذا كانوا مقتنعين بأن أمثال فؤاد السنيورة ومحمد الصفدي عناصر متطرفة همها "أسلمة" لبنان، فلماذا لا يؤسسون تحالفاً "أقل إسلاماً" مع قوى سنيّة بديلة "معتدلة" كالدكتور فتحي يكن و"حركة التوحيد الإسلامي" و"جمعية المشاريع الإسلامية (الأحباش)" و"جند الشام" و"عصبة الأنصار" ... أو حتى "فتح الإسلام" أيضاً؟