صفحات مخزية من التاريخ الأميركي في العراق!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمود المبارك
إذا كان الاعتراف سيد الأدلة - كما هو معلوم في القانون الجنائي - فإن ما قامت به مجلة أميركية من توثيق شهادات أدلى بها محاربون أميركيون عما رأوه أو شاركوا في فعله في العراق، يعتبر إدانة جنائية من الدرجة الأولى.
ذلك أن الاعترافات التي نشرتها مجلة "ذي نيشن" الأميركية الشهيرة في العدد الذي سيصدر في نهاية هذا الشهر، لمحاربين أميركيين أعطوا أسماءهم الحقيقية ورتبهم العسكرية، لا يحتاج إلى توثيق أكثر من ذلك. ومن هذا المنطلق، يمكن أن تكون هذه الاعترافات الأساس القانوني الذي يدين إدارة بوش في المحاكم الدولية. فقد شملت روايات خمسين محارباً أميركياً ممن شاركوا في الحرب في العراق، فظاعات ترقى إلى كونها "جرائم حرب" بكل المعايير القانونية الدولية.
تبدأ المجلة بتسجيل اعترافات أفراد الجيش الأميركي في العراق عن الطريقة الوحشية المتبعة في مداهمات منازل المواطنين الذين غالباً ما يكونون أبرياء. من ذلك - على سبيل المثال لا الحصر - ما رواه أحد المحاربين الذي يعترف بقيامه بآلاف الغارات التفتيشية لمنازل المواطنين في تكريت وسامراء والموصل بقوله: "لقد قمنا بإرهابهم أثناء غاراتنا التفتيشية لتلك المنازل".
زميل له يصف تفصيل ذلك الإرهاب بقوله: "كان من عادتنا في غاراتنا التفتيشية لمنازل المواطنين - التي عادة ما تكون بعد منتصف الليل وقبل الفجر - أن نهجم على الزوجين في فراشهما ونسحب الزوج أمام زوجته ونضع رأسه إلى الجدار تحت تهديد السلاح، ونأتي ببقية أفراد العائلة في صورة مهينة، ثم نبدأ بسؤال صاحب المنزل تحت تهديد السلاح عما إذا كان في منزله أسلحة أو منشورات ضدنا، فإذا كانت الإجابة بـ لا، دمرنا مفروشات المنزل وأفرغنا كل ما في الثلاجة ودروج الملابس ومزقناها إرباً أمام أعينهم، فإذا لم نجد شيئاً - كما هي الحالة الغالبة - اعتذرنا إليه وقلنا: نأسف لإزعاجكم، مساء ممتعاً"!
جندي آخر يصف تجربة له في إحدى الغارات فيقول: هجمت في ليلة صيف على منزل مواطن وكنت قد أمرت من معي من الجنود بإضاءة الكشافات القوية في أعين ساكنيه لحظة إيقاظهم من النوم. يقول الجندي: "فلما أضأنا كشافاتنا في أعين الساكنين في ذلك المنزل سمعت صراخاً من رجل نائم لم أسمع في حياتي مثله. لقد كان صراخ شخص مرعوب حقاً. ربما كان كذلك لأنه عاش تحت حكم صدام"! في الوقت نفسه يروي أحد الجنود فيقول: "بعد أن قمنا مرات متتالية بدهم الأماكن البريئة خطأً، صرنا نتندر بما سيواجهنا فنقول عند أي دهم جديد: الآن سندخل البيت الخطأ - كما يحدث دائماً - ثم بعد ذلك نقول: أوه... لقد وجدنا أسلحة الدمار الشامل! كانت مخبأة هنا"!
أما الصور الأكثر فظاعة في توثيق المجلة، فهي تلك المتعلقة بجرائم قتل المدنيين الأبرياء، والتي شملت قتل الأطفال من غير سبب. إذ تروي المجلة عن أحد الجنود قوله: "كنت أستطيع قتل أي شخص لا تعجبني طريقة نظرته، بدعوى أنه كان يهدد أمني". ومن هذا المنطلق يؤكد جندي آخر عدم الاكتراث بأرواح العراقيين بقوله: "المفهوم العام عندنا أن قتيلاً عراقياً ليس سوى مجرد قتيل"! وتؤكد شهادات الشهود أن هذه الانتهاكات ليست مجرد تجاوزات شخصية، وإنما نمط للجيش الأميركي في تعامله مع العراقيين. وتروي شهادات الجنود أنه نظراً لكثرة حوادث قتل المدنيين العراقيين، ولتجنب المساءلة القانونية، يتم وضع أسلحة إلى جانب جثث القتلى المدنيين ومن ثم يتم تصويرهم على أنهم "إرهابيون" كانوا يزرعون قنابل على جانب الطريق. ويقول أحدهم إنه إذا كانت هناك حالات يتم فيها التحقيق في قتل المدنيين، فإن حالات أخرى أكثر لا يتم بحثها.
بل إن الوحشية الأميركية وصلت إلى حد يصعب تصديقه لولا أنها شهادات الذين قاموا بالفعل ذاته ومن شاركوا فيه. إذ يروي أحد الجنود أن زميلاً له "نبش دماغ أحد القتلى بملعقة بعد أن أطلق الرصاص على رأسه، وهو ينظر إلى الكاميرا ويبتسم"!
في ذلك يقول أحدهم: "شعرت أني فقدت تعاطفي مع البشر، وأن كل ما يهمني المحافظة على حياتي وحياة رفاقي، وأما هؤلاء فعليهم اللعنة". ويقول آخر: "كنا نظن أن هؤلاء أصحاب البشرة الداكنة الذين لا يتحدثون الإنكليزية ليسوا بشراً، ولنا أن نفعل بهم ما نشاء".
هذه ليست سوى عينات من الاعترافات التي أفردت لها مجلة "ذي نيشن" 11 صفحة من الشهادات الموثقة التي أتمنى على المهتمين ترجمتها ونشرها كاملة على كل المستويات في العالم العربي والتركيز عليها في جميع وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة، لفضح الزيف الأميركي الذي ما زال على رغم كل جرائمه، يكيل الاتهامات للأمة العربية والمسلمة بوحشيتها و "فاشيتها". كما ينبغي تحريك الضمير العالمي والبدء في المطالبة الجادة باتخاذ إجراءٍ قانوني دولي ضد الولايات المتحدة لوقف استهتارها بالقوانين الدولية.
المؤسف في هذا، أنه وعلى رغم كل الفظاعات التي ترتكبها إدارة الرئيس بوش في العراق وأفغانستان، وعلى رغم إعانتها لإسرائيل على كل جرائمها القانونية الدولية، نجد في عالمنا العربي من يصدق ادعاءات إدارة بوش في حرصها على تطبيق القوانين الدولية بما في ذلك حرصها على محاكمة المتورطين في "جرائم دارفور"!
ويبدو أن المشكلة التي نعانيها كأمة، هي عدم إعطاء أهل الاختصاص دورهم. فالمسائل القانونية الدولية تحتاج لخبراء في القانون الدولي يدلون بآرائهم فيها ويحددون الخطوات القانونية الدولية المناسبة تجاهها. ولكن حيث إننا نعيش في عالم يتمتع فيه السياسيون بالرأي الأول والأخير، فإنه لا غرابة أن نرى تخبطنا يزداد ولا ينقص، وأن نضيع اقتناص الفرص في اصطياد الخصوم واستغلال أخطائهم لمصلحتنا. وإذا لم تتغير الحال، فكما ضاعت فرصة اقتناص فضيحة سجن أبي غريب، فإن هذه الفضيحة ستنسى قبل أن تستثمر.
وكنت قد ذكرت في غير مقال في الماضي أن كثيراً من مصائب العرب اليوم هي بسبب جهلهم بالقانون الدولي. وإذا كان القرآن الكريم يأمرنا بقوله "فاسأل به خبيراً"، فإن من المطلوب الرجوع إلى أهل الخبرة في مسائل القانون الدولي لمعرفة الرأي القانوني حيال كل مشكلة قانونية. وربما كان في اتفاق أوسلو خير شاهد على الفرق بيننا وبين خصومنا في التعامل مع مسائل القانون الدولي. فقد تجلى الفهم القانوني للفريق الفلسطيني المفاوض في تشكيلته التي خلت من أي قانوني دولي، في حين حوى الوفد الإسرائيلي فريقاً كاملاً من القانونيين الدوليين والخبراء المختصين في توقيع المعاهدات الدولية.
المسألة التي بين أيدينا اليوم تحتاج إلى استغلال قانوني دولي، فعناصر الجريمة مكتملة. وكما هو معلوم فإدانة المتهم تثبت بإحدى ثلاث طرق: إما الاعتراف، والاعتراف نوعان: اعتراف صريح واعتراف ضمني، أو بالبينة بما في ذلك الشهود الثقات، أو بوجود قرائن يصعب دحضها. وفي هذه الحالة توافرت الطرق الثلاث لإدانة المتهم، وكل ما بقي هو وجود محام شريف يتولى متابعة القضية.
إن خطوة كهذه وإن كانت غير يسيرة في التطبيق العملي، إلا إنها ليست مستحيلة. ولكن إذا ما أضاعت الأمة العربية هذه الفرصة فربما حق للتاريخ أن يسجل إدانته ضدنا قبل غيرنا.