الملك فاروق وبقية المضحكات التلفزيونية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. محمد الرميحي
في كل شهر رمضان ينشغل الجمهور العربي من المحيط إلى الخليج بمسلسلات شهر رمضان التلفزيونية، ولأن محطات التلفزيون أصبحت أكثر من الهم على القلب، فإن المشاهد أصبح هدفاً لنيران ثقيلة من الغواية نتيجة المسلسلات المتدفقة، حتى أضحى المراقب على اعتقاد جازم أن الفن العربي التلفزيوني لا ينتعش إلا في شهر رمضان، ولو لم يكن شهر رمضان لبارت سلعتهم. أبدأ بالمسلسلات الخليجية وهي في الغالب، لا تخرج عن الأفكار المعهودة المليئة بالصراخ والعويل وفي أحيان كثيرة بالضرب خاصة للأنثى المغلوبة على أمرها، أو بلبس الملابس المختلفة شكلاً وموضوعاً، أو التلفظ بغريب الكلمات وأكثرها تجريحاً، وهي تشترك مع كثير من المسلسلات العربية بفقدها للنص المبني على فكرة تفيد المشاهد.
النقص في النصوص، هو نقص مزدوج في الثقافة العامة، أولاً لكاتب النص نفسه، وثانياً للقائمين على قبول مثل هذه النصوص لتتحول إلى شخوص تتحرك أمام المشاهد وتفرض قيمها على سطح العقول التي تسارع بالاقتناع بما تفعل وتقول، وهي شكوى رمضانية دائمة. بل أصبح موسم رمضان في الفضاء العربي التلفزيوني، وكأنه الموسم الوحيد الذي تمثل من اجله الأعمال التلفزيونية وتُنتج الدراما.
قد يختلف بعض الشيء مسلسل الملك فاروق الذي يبدو حتى الآن على الأقل أنه عولج معالجة درامية معقولة، ليس في النص ولكن أيضاً في الديكور والبيئة الخلفية للعمل. إلا أن هذا العمل يقع بشكل ما في خطأ إرضاء الجمهور بالعزف على مقولات رددت كثيراً في سرد مثل هذه الأحداث،فقراءة التاريخ من دون اتخاذ موقف مسبق بالتمجيد أو التنديد لم تحدث بعد في أعمالنا الفنية.
الملك فاروق وسيرته مهمة لمنطقتنا لأنه يؤسس إلى تغيير جذري سياسي في المنطقة ككل سارت عليه بلاد عربية كثيرة، فقد أسس انقلاب عسكري في مصر إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية التي في الغالب استنزفت طاقة العرب، وعطلت من نموهم الشامل.
وقد قيل الكثير عن حياة فاروق وتصرفاته وموقفه السياسي والاجتماعي، هناك كتب وأفلام ومدونات عدة تتناول عصر الملك فاروق وما جبل به ذلك الوقت من تغيرات في مصر وتأثيرها بعد ذلك على المحيط العربي.
فاروق لم يترجل عن الحكم في يوم ثلاثة وعشرين يوليو عام 1952، ذلك التاريخ شهد خروج الملك في يخت المحروسة من مصر إلى أوروبا، إلا أن التاريخ الحقيقي لعزل الملك فاروق كان قبل ذلك بعشرة أعوام تقريباً، وهو في التاريخ المصري المشهور والمعروف، أي يوم الرابع من فبراير 1942 حين أجبرت القوة الإنكليزية المحتلة الملك على الاختيار بين أمرين، أما أن يعين مصطفى النحاس باشا رئيساً للوزراء أو أن يتنازل (بالقوة القاهرة) عن العرش. في ذلك التاريخ دق أول إسفين لفقد فاروق عرشه.
التاريخ لا يرحم كما أنه لا يقبل العودة إليه بافتراضات، إلا أنه لو فرض أن دافع فاروق عن حقه كملك، ورفض تسليم النحاس الحكم، ومن ثم تم إخراجه من السلطة بالقوة البريطانية المحتلة، فمن يدري ربما أصبح مثيلاً للمرحوم محمد الخامس في المغرب الذي أخرجه الفرنسيون عنوة من حكمه، ولكنه عاد بطلاً مبجلاً في عيون شعبه. لو فعل ذلك الملك فاروق لربما تغيرت أمور كثيرة في شرقنا العربي.
أحداث الرابع من فبراير 1942 كانت الفاصل في التاريخ المصري ومن ثم العربي الحديث، لقد سقط مثالان في عيون الجمهور المصري، فاروق الملك الذي فضل أن يبقى في الحكم خوفاً من حراب الإنكليز، ومصطفى النحاس الذي قبل أن يعين رئيس وزراء من خلال حراب القوات المحتلة. هذا الأمر حقق العد العكسي لكل التجربة الليبرالية المصرية التي ترعرعت في ما بين فترة الحربين العالميتين.
تجربة الديموقراطية والأكثرية التي يمثلها حزب "الوفد" آنذاك وعلى رئيسه مصطفى النحاس باشا، وتجربة الملكية الدستورية التي يمثلها الملك فاروق كلاهما في عيون النخبة المصرية أضحيا فاقدي الصلاحية. الفترة بين فبراير 1942 وبين يوليو 1952 وهي تقارب الأعوام العشرة، شهدت تهيئة الأرض السياسية في مصر للتغيير الجذري. فلا الأحزاب عادت محترمة إذا قرر حزب الغالبية أن يتسلم الحكم تحت حراب المحتل وبرغبة عارمة منه، ولا الملكية الدستورية التي قررت أن تضحي بالكرامة الوطنية في سبيل الاحتفاظ بالعرش المزعزع. تلك اللحظة التاريخية من عام 1942 كانت الإسفين الأول الذي دق في نعش التجربة الليبرالية المصرية الحديثة، وهي تقدم لنا درساً بالغ الأهمية يقول أن الأنظمة تسقط قبل أن تتلاشى بالفعل بوقت طويل.
انتهى فاروق بعدها إلى حقيقة أن الحاكم المطلق هو المندوب السامي في قصر الدوبارة، المقر الرسمي، فتفرغ هو لمتابعة مغامراته الصغيرة، السياسية والاجتماعية في آن، وانتهى حزب الغالبية بعد أن طلب رضا المندوب السامي في كل ما يقوم به من عمل سياسي. وتنبه الجمهور في 23 يوليو 1952 يوم إعلان انقلاب الجيش على واقع كان لا يحتاج إلا إلى بضعة ضباط ليغيروا المشهد السياسي من دون رجعة، ومن دون خطط طويلة الأجل للدولة التي ورثوها أو المجتمع الذي أصبح فاقداً للثقة في الحرس القديم، وتم التغيير إلى درجة أنه لم يتظاهر أحد احتجاجاً، لقد سقط الحكم كثمرة يانعة.
قصة الانقلاب المصري على فاروق هي قصة كلاسيكية في كل التاريخ الإنساني، فالأحداث الكبرى لا تحدث فجأة، بل يؤسس لها قبل ذلك بفترة زمنية طويلة يخالها من يعيشها أنها "طبيعية"، وهي في الحقيقة تنخر في مؤسسات الدولة حتى تصبح هشيماً يذر في الفضاء من دون تأثير. وهكذا استقبلت جماهير غفيرة ثلة الضباط وكان على رأسهم آنذاك محمد نجيب بالورود والزغاريد، لم يبك على الماضي إلا قلة معزولة، فأصبحت "الثورة" المصرية بعد أيام قليلة مقبولة من جمهور عريض خرج مؤيداً مزغرداً لها في الشوارع.
القصة لا تنتهي هناك، فبغير انقلاب عسكري سابق في سورية لم يكن عصر الانقلابات العسكرية العربية قد بدأ، إلا أن بالانقلاب المصري أسس لانقلابات كرت سبحتها الانقلابات بقيادة العسكرية العربية في طول بلاد العرب وعرضها، إلا من رحم ربي. فكانت سلسلة الانقلابات من ليبيا إلى اليمن مروراً بالسودان إلى موريتانيا إلى بغداد ومن ثم العديد من الدول العربية، أسس لها وقاد إليها الانقلاب الناجح في القاهرة.
بعد أكثر من خمسين عاماً يأتي المسلسل التلفزيوني "الملك فاروق" ليعيد بعض الضوء على تلك الحقبة، حقبة يخضع فيها الملك فؤاد (والد فاروق) لرأي رئيس وزرائه سعد باشا أنه كملك دستوري لا يحق له تعيين أعضاء مجلس الشيوخ، هو قرار يختص به بمجلس الوزراء المنتخب، ويخضع فؤاد لذلك الرأي بعد طلب المشورة من المستشار الدستوري، الذي كان بلجيكيا بالمناسبة، وقد قرر أن الدستور المصري آنذاك، المصمم على غرار الدستور البلجيكي لا يتيح للملك التصرف إلا من خلال الوزارة الشرعية القائمة، فهو "يملك ولا يحكم".
بعد خمسين عاماً من تجربة "الحكم الثوري" الذي لم يكتف بخسارة الأوطان، بل وفقد البشر يرى المراقب أن "الشعارات" التي تطلق لإلهاب مشاعر الجمهور المُضلل، تؤسس للخسارة المطلقة، وكثيراً ما يرى مطلقو الشعارات أن النكوص عن تلك الشعارات يؤدي إلى تآكل المكانة السياسية لهم فيزيدون إطعام جماهيرهم شعارات أخرى، لأن القاعدة الجماهيرية غيب عقلها. المأساة أن الإنسان العاقل يؤمن بأن الأمور يحكم عليها بنتائجها. أما الإنسان السياسي فهو يؤمن أن الأمور يحكم عليها متى ما حققت مصالحه في الشعبية، وهكذا كان.