جريدة الجرائد

النهضة وإصلاح التعليم الديني

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

خالد الحروب

أتيحت لي مؤخراً المشاركة في نقاش معمق في أحد البلدان العربية حول دور التعليم ومركزيته في تشكيل نوعية الأجيال القادمة. ثمة أفكار مهمة وتجارب ريادية يقوم بها عدد من الدول العربية في هذا المضمار. كما تبدو معظم الدول العربية على وعي كبير بأولوية التعليم والضرورة الملحة لتخصيص موارد مناسبة لنشره وتطويره. لكن الصورة العامة قاتمة, وزادتها قتامة دراسات "الألكسو" -المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم- التي أعلنتها مؤخراً وتضمنت أرقاماً محبطة حيث أشارت إلى أن عدد الأميين في العالم العربي يناهز المئة مليون (أي ما يقارب ثلث العرب!). وهذا الرقم معني بالأمية الأبجدية, أي القراءة والكتابة الأولية. أما الأمية الثقافية, التي تعني الفقر الثقافي والمستوى المتدني من ناحية اكتساب المعرفة المعاصرة فتلك قصة أخرى, ولنا أن نضيف هنا مئة مليون آخرين بكل اطمئنان على المئة مليون ممن لا يقرؤون ولا يكتبون بتاتاً.

في مواجهة هذا الواقع الكارثي تتوجه معظم الأفكار والمشروعات الراهنة المعنية بهذا القطاع إلى مسألة ضرورة نشر التعليم على أوسع نطاق, وهو توجه مفهوم وضروري بكل تأكيد. فأمام غول الأمية الكاسحة تصبح أولوية الأولويات هي الهجوم الشامل المعاكس عبر توسيع نطاق التعليم كمياً وبكل الطرق. بيد أن نشر التعليم على أوسع نطاق يحل نصف المشكلة فقط, ويبقى النصف الثاني معلقاً بنوعية التعليم والمضمون الذي يتم تلقينه للمتعلمين سواء الجدد أو القدامى. ويمكن القول هنا إن تجارب البلدان العربية التي توفرت فيها موارد كافية لنشر التعليم على نطاقات واسعة, بحيث انخفضت نسبة الأمية إلى الحدود الدنيا (أقل من 10%) تؤكد على أن مضمون التعليم ما زال ينتج أجيالاً محدودة الإبداع, تعتمد على التلقين, ولا تتمتع بالعقل النقدي الشكاك, ويسيطر على ثقافتها نمط من التعليم الديني الأحادي النظرة وغير المنفتح. وفي عدد من الدول يمكن أيضاً تأمل فرضية زيادة منسوب التشدد بالتوازي مع انتشار التعليم الحديث شكلاً القديم والمتشدد مضموناً. فالإشكالية هنا هي أن الوسائل والأشكال الحديثة في الوصول إلى المعرفة يتم استغلالها للوصول إلى معارف الكتب الصفراء في الكثير من النواحي, والتي كان الوصول إليها في أوقات سابقة مقصوراً على شريحة ضيقة من المهتمين. أما الآن فقد صار بإمكان أي شاب أنهى الثانوية العامة أن ينكبَّ على تلك الكتب ويصبح "أميراً" لجماعة أو "مفتياً" لتنظيم. وليس هذا معناه محاربة نشر التعليم ومحو الأمية, لكن مرة أخرى يجب أن يتوازى ذلك مع الاهتمام بنوع المعرفة التي يتم تدريسها وكيف تشكل عقلية المتلقي وما هي المآلات التي ينتهي إليها.

وإذا كان النقد للمناخ العام الحالي الذي يسود المجتمعات العربية لناحية سيطرة الخطاب الديني الذي تفاقم خلال العقود الثلاثة الأخيرة وصار يشكل عقول ووجدان وتصورات الأجيال الجديدة, ينسبُ انتشار هذا الخطاب إلى حركات الإسلام السياسي فإن هناك ظاهرة أخرى لازمته. وهي أن المناهج الدينية التي تدرس في المدارس الحكومية نزعت نزعة تنافسية مع ذلك الخطاب في محاولة لقطع الطريق عليه, وفي إطار عملية أوسع في الصراع على الشرعية بين النظم السياسية وحركات المعارضة الإسلامية. لهذا ومن ناحية عملية فإن هناك مساحات ودوائر مشتركة بين الخطابين (الإسلاموي الحركي والحكومي المدرسي) خاصة في نوعية الفقه والتفسيرات والتأويلات التي يتم تدريسها وتبنيها. وفي عدد غير قليل من المناهج فإن البنية التحتية للتشدد الديني تأتي من المناهج الدراسية بحيث يصبح الطالب شبه مؤهل كي يتم قطفه من قبل تنظيمات تلك الحركات التي تستثمر تلك البنية وتركب عليها تسيُّساً متطرفاً بالتعريف. ففي مساقات التربية والتعليم الحكومية يغيب رواد الفكر الإسلامي الذين أسسوا لحضارة العقل والنقد مثل ابن رشد, والفارابي, وابن خلدون, وابن مسكويه, وابن سينا وأبو حيان التوحيدي, وغيرهم كثير. وتنحاز تلك المساقات للتفسيرات والرؤى الدينية التلقينية المتأسسة حول التحريم والتحليل, وتقسيم الناس وفق قوالب حادة: مسلمون, كفار, منافقون, أهل كتاب, وهكذا. وهذا ما يشيع في جزء كبير من المناهج التي تُدرس في بلدان المشرق العربي (ومعظم دول الخليج طبعاً) حيث تسيطر رؤية سلفية متشددة على المناهج الدينية, وتتم تربية الأجيال الجديدة على مقولات وتفسيرات أقل ما يُقال فيها إنها معادية للعقل والنقد وروح التسامح والتواصل مع العالم.

والأمثلة الموجودة في تلك المناهج أكثر من أن تُحصى. ففي منهاج التربية الدينية في المرحلة الثانوية في أحد البلدان كان يُطلب من الطلاب حفظ تفسيرات محددة لآيات من سورة براءة, وبحسب تلك التفسيرات فإن الطلاب يتخرجون وهم مشبعون بتقسيم صارم للناس: مسلمون ومشركون. وأن على المسلمين وضع ثلاثة خيارات أمام "المشركين والكفار" وهي إما أن يسلِموا, وإما أن يدفعوا الجزية, وإما أن يحارَبوا ويقتلوا. فلماذا يتم تبني هذا التفسير في الوقت الذي توجد فيه تفسيرات عديدة أكثر انفتاحاً وتربط الآيات بأسباب النزول وتضعها في سياقها التاريخي. وكيف يمكن للفرد الذي يُعبأ بمثل هذه التفسيرات أن يتواصل مع العالم اليوم, وكيف يتعامل مع "الكفار" الذين يذهب إلى بلادهم للدراسة أو العمل أو السياحة, أو يأتون لبلده للأسباب ذاتها أو غيرها؟ إن مقدار الارتباك الفكري والديني الذي يترتب على النزعة المتشددة في العديد من المناهج الدينية هو الذي يجعل العلاقة مع "الآخرين" في غاية التعقيد وأحياناً العداء التام. وللقارئ أن يتأمل المواقف السائدة مثلاً من أصحاب العقائد الأخرى, ليس المسيحيين واليهود فقط, بل والبوذيين والسيخ والهندوس, ومقدار الجفاء والعداوة المستحكمة لمجرد تخيل معتقداتهم.

ولا يتوقف الأمر عند الموقف والنظرة إلى أصحاب العقائد الأخرى, بل إنه يمتد للطوائف الإسلامية المتعددة التي تختلف عن رأي صاحب الموقف المحدد. فكثير من المناهج المعتمدة حالياً تروج لمواقف حادة وأحياناً تكفيرية إزاء الشيعة والإسماعيلية والأحمدية والدروز, عوض أن تنأى عن اتخاذ أو تبني أي موقف محدد, وتشجع بدلاً من ذلك ترك أمور تصنيف العباد لرب العباد. وبسبب شيوع الفقه المتشدد تجد من الاعتيادي أن ينهي خطيب الجمعة خطبته بالدعاء على اليهود والنصارى والمجوس وأحياناً الشيعة, في مدن وأحياء يعيش فيها مسيحيون وشيعة من أبناء البلد ذاته.

لكن أخطر من ذلك كله هو التحالف الموضوعي وغير المباشر بين ما تنتجه المناهج المتشددة وما ينتجه فكر كثير من حركات الإسلام السياسي من ضربات متتالية في قلب النسيج المجتمعي وتفتيته وخلق مناخات إقصائية وتكفيرية. وبسبب هذه المناخات تتحول شرائح من المجتمع في نظر من يستبد بهم التشدد إلى مجرد "بهائم فاسقة تركض وراء الحياة الدنيا ولذتها الفانية". وذلك كله يخلق قابلية الاستعداد للاعتداء عليها وتطبيق الحدود على "المردة والفاسقين" إن أتيحت الفرصة المواتية.

من دون أن تتخرج أجيال تتمتع بعقلية منفتحة ومتسامحة ونقدية وتستوعب العالم المعاصر, ليس فقط من ناحية التكنولوجيا والعلوم التطبيقية, بل والأهم من ذلك من ناحية اجتماعية وثقافية, فإنه من الصعب تخيل قيام نهضة حقيقية على قاعدة إنسانية. وإصلاح مناهج التعليم الديني لا علاقة له بنظرتنا وعلاقتنا مع الغرب وحروب مؤسساته السياسية ضد منطقتنا, لأن الخاسر الأول والأكبر من مخرجات العملية التعليمية هو نحن ومجتمعاتنا. والحضارة العربية والإسلامية الرائدة التي قامت في قرون خالية كان أساسها العقل والعلم والانفتاح, وليس التشدد والانغلاق والفقه المتزمت.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف